بسم الله الرحمن الرحيم
ثورتا مصر وسوريا .. إضاءات في ملامح التغيير الصحيح
إن ما حصل في ثورتي مصر وسوريا، إلى الآن، يقدم للمسلمين إضاءات مهمة في كيفية عملهم للتغيير الشرعي الصحيح، وكيف ينبغي لهم أن يفكروا ويتحركوا باتجاه خلاصهم من الأنظمة الجبرية التي يرزحون تحتها. ولعل المقاربة بين مجريات وأحداث الثورتين، يساعد، وإلى حد بعيد، في تجلية كثير من الأفكار والطروحات والمشاريع السياسية المضللة التي تنتشر في الساحة السياسية لصرف الأنظار عن التغيير الشرعي المنتج. ولعل ما يحصل في مصر يخدم مشروع التغيير في سوريا، بحيث يتعلم الثوار والأحزاب وكل من يعمل على تغيير النظام البعثي العميل هناك، من درس وتجربة مصر، فلا يتورطون، ولا يسأمون، ولا تختطف ثورتهم، ولا تذهب تضحياتهم أدراج الرياح، كما يشتهي الغرب الكافر الذي يدعم بقاء الأنظمة العميلة له.
وقبل الحديث عما يستفاد من ثورتي مصر وسوريا، ينبغي أن نتفق على الحقائق والأسس التالية في موضوع التغيير، الذي ينشده المسلمون، منذ أن انفرط عقد خلافتهم، وحُكموا بغير الإسلام، في دول الضرار، وتسلط عليهم أعداء دينهم:
أولاً: إن التغيير الذي ينشده المسلمون جميعاً هو تغيير أوجبه الله تعالى عليهم، وإن خروجهم على الحكام وإسقاطهم لصالح كيان الخلافة المفقود هو فرض لا مشاحة فيه، مهما حاول أعداء الدين أن يشوهوا فكرة وجوب وجود الخلافة في حياة المسلمين والعمل لإقامتها.
ثانياً: إن ثورة المسلمين على حكامهم في كل بلاد المسلمين (وليس فقط في البلاد التي اندلعت فيها الثورات) والخروج عليهم، هو أمر شرعي مطلوب منهم، ويؤجرون عليه، ويجب التلبس به حتى تقام الخلافة.
ثالثاً: إن الحركات والأحزاب الإسلامية (وليس العلمانية قطعاً) هي من يجب أن تقود المسلمين في هذه الثورات، من أجل هدف واحد ووحيد: التخلص من دول الضرار الطاغوتية في بلاد المسلمين، والتي سامت المسلمين العذاب، وأسلمتهم للكافر المستعمر، قتلًا وملاحقةً، وتمزيقاً لبلادهم، واستباحةً لخيراتهم .. وكنس هذه الأنظمة من جذورها هي وحكوماتها وقوانينها وكل مؤسساتها وهيئاتها، وإقامة الخلافة على أنقاضها كلها، لينعم المسلمون بتطبيق الإسلام، كل الإسلام، ليعودوا سيرتهم الأولى: خير أمة أخرجت للناس.
رابعاً: وأن هدف إقامة خلافة المسلمين لا يترك لأي هدف آخر، ولا يُتنازل عنه من الحركات الإسلامية لصالح غيره من طروحات الأنظمة الآيلة للسقوط، والغرب الذي يدعمها،خوفاً من أعداء الدين لاسترضائهم، أو طمعاً في مشاركة سياسية ومتاع قليل سرعان ما يزول، فإما إسلام كامل في دولة خلافة، نعز به دون سواه، وإما كفر نصبر على إزالة صرح دولته، دون أن نعترف به ونتعايش معه.
خامساً: أن يقطع المسلمون، والأحزاب الإسلامية، التي تقود عملية التغيير، أن اعترافهم بأي شرعية للأنظمة في بلاد المسلمين، والتصالح معها، والعمل من خلال منظمومتها السياسية الفاسدة نتيجته الحتمية الفشل في إيصال الإسلام الحقيقي للحكم، وإطالة عمر الأنظمة العميلة للغرب، وتفويت الفرصة التاريخية الذهبية لتغيير الأوضاع، بعد أن أظهرت الأمة معدنها الأصيل، ووقفت ثابتة مضحية في وجه الطغاة.
في ضوء ما تقدم نقول: إن المسلمين في كل بلاد الثورات، وغيرها، يريدون عودة الإسلام، ويريدون تطبيق الإسلام، فالإسلام ولا شيء سواه هو مطلبهم، ولا أدل على ذلك من خروج التظاهرات الضخمة والكثيرة (منها مليونية تنادي بتطبيق الشريعة في مصر)، والشعارات المتواترة في كل الثورات التي تنادي بالإسلام وبتطبيقه والدعوة للخلافة. لكن الأنظمة الآيلة للسقوط والأحزاب العلمانية، والغرب من ورائها – والذين يدركون هذه الحقيقة – يحاربون بلا هوادة دعوة المسلمين لتطبيق الإسلام في دولته، أو ما يسمونه بالإسلام السياسي، ويقبلون بأي تسوية مع الثوار والأحزاب الإسلامية دون عودة الخلافة.
ففي مصر ثار الناس على النظام البائد، وكان الواجب على حركة الإخوان المسلمين، ذات التأثير، والوجود السياسي البارز في مصر، أن تقود الجماهير للدعوة، والعمل لتطبيق الإسلام في دولة الخلافة، التي يدعو لها حزب التحرير، وكانت جماهير الشعب المصري المسلمة ستقف بالتأكيد مع الإخوان وتدعمهم وتضحي من أجل هذا الهدف الشرعي العظيم. لكن الإخوان – مرة أخرى – يفوتون الفرصة، ويضعون يدهم في يد العملاء العلمانيين (كالسيسي وكل التيار الذي يقف خلفه)، ويعلنون أنهم يريدون دولة مدنية ديمقراطية، ونظاماً جمهورياً، وقانوناً وضعياً، … مع بعض الشكليات الإسلامية التي رضي عنها العلمانيون وعملاء الغرب هناك. فعل ذلك الإخوان المسلمون لأن طريقة تفكيرهم ليست إسلامية صرفة، وحتى لا يتهموا بالإرهاب من قبل أميركا، وحتى يقبل بهم فلول نظام مبارك، شركاؤهم في العملية السياسية والحكم. وكما بات معلوماً، فإن عملهم هذا، ومكر أعداء الدين (شركاؤهم؟) في مصر، أوصل مصر لما هي عليه الآن: انقلاب من قبل عملاء أميركا بقيادة السيسي على (الإسلام) الذي لم يحكم به أصلاً، ومحاكمة هزلية للحاكم المنتخب وجماعته، والذين يدأب – اليوم – شركاؤهم بالأمس على تصويرهم، بأنهم إرهابيون، وأنهم يريدون اختطاف مصر، وأنهم يسعون لإقامة دولة عالمية تسمى الخلافة، وأنهم أصحاب تنظيم دولي إرهابي، وأنهم يتخابرون مع أعداء الوطن، وأنهم يخربون البلد، وأنهم خارجون على القانون، وأنهم سبب كل بلاء مصر، وأنهم وأنهم… كل ذلك حتى يضلل المسلمون في مصر، وينفضوا أيديهم من العمل مع الجماعات الإسلامية، ومن أي تحرك رشيد يعيد الإسلام والخلافة، على أساس أن المسلمين والحركات الإسلامية سيخشون أن يحصل لهم ما يحصل للإخوان المسلمين اليوم في مصر. وهكذا فإن شركاء الدكتور مرسي العلمانيون (وبتوجيه من أميركا) يشنون اليوم حرباً على الدين، وكل من يعمل لإعزازه، بحجة أن الإسلام السياسي فشل في الحكم، وأن الحركات الإسلامية غير قادرة على قيادة الناس للحكم به. نعم… هذه خطة أميركا في مصر إلى الآن،
ولا شك أن الانقلابيين في مصر اليوم في ورطة، والمسلمون الذين تنسموا طعم الحرية لأول مرة منذ عقود، غير راضين عما يجري على يد السيسي وفريقه، وهم لا يريدون لثورتهم أن تختطف بحجة أن الإسلام عاجز عن الحكم، وأن الحركات الإسلامية حركات فاشية رجعية كما يصور. من أجل هذا يستمر حراكهم في الشارع المصري للإعلان عن رفضهم هذا، ورفضهم لأن يحكموا من قبل عملاء الغرب، الذين يعملون على إقصاء الإسلام من المشهد السياسي. ومرة أخرى، وأمام هذا المشهد، كيف تتصرف قيادات الإخوان المسلمين في مصر؟ ماذا يفعلون؟ إنهم أمام ثلاث مسارات لا غير:
المسار الأول: أن يعودوا للتوافق والمشاركة السياسية مع العلمانيين، وحتى أن يعودوا للحكم مرة أخرى، ولكن على أسس يتأكد حزب السيسي والغرب -من خلاله- أنها تخدم مصالحه، وتقصي الإسلام عن الحكم بالفعل، فلا يتغير شيء في الحكم والقوانين والعلاقات… ولا يبقى للإسلام في هذا الحكم إلا اسمه. وهذا يمكن أن يحصل، لا قدر الله، إذا استمر غليان الشارع المصري المسلم لفترة، وأدرك السيسي، وأميركا من ورائه، أنه لا مندوحة عن الالتفاف على الجماهير المسلمة في مصر إلا بعودة الجماعة إلى الحكم شكلاً، وهذا مرهون أيضاً بقبول قيادات الإخوان بذلك!؟
المسار الثاني: أن يعود الإخوان جماعة منزوعة من أي عمل سياسي، جماعة مرضياً عنها من النظام، ولا تتدخل في السياسية، ولا تدعو إلا لإسلام لا يسمن ولا يغني من جوع. وهذا المسار هو المفضل لدى أعداء الدين في مصر وخارجها، لأنه يقدم – بحسب أميركا وفلول مبارك عملائها- النموذج المثالي للجماعات الإسلامية المسالمة والمهادنة، والتي لا تنادي بأي تغيير منتج يمكن أن يقلق النظام.
المسار الثالث: أن يعي الإخوان أمرهم، وأن يدركوا أن ما حصل معهم، في مصر، سببه الأساس نهجهم الخاطىء في العمل (والذي ينطلق من اعتراف بشرعية الأنظمة الجبرية الموجودة)، وأن يعلنوا أن لا شرعية لكل الأنظمة في المنطقة، وأن لا توافق سياسياً ولا مشاركة سياسية معها، وأنهم مع إقامة حكم الله في الأرض، على أنقاض دول الضرار هذه، وأنهم مع الخلافة، التي توحد كل بلاد المسلمين، وتقطع يد الغرب الكافر المستعمر من أن تمتد لتعبث بشأننا ومقدراتنا، حتى إذا ما حملت الأمة ذلك كقضية لها، وأصبحت المطالبة بالإسلام في خلافته، رأياً عاماً قوياً لا يتحداه أحد، وبعد أن تتحد إرادة الأمة بإرادة ونصرة جيشها وقيادته المخلصة (وليس قياداته المرتبطة كالسيسي)… عندها يصل المسلمون إلى الحكم بالخلافة، وعندها تدافع الأمة، وقياداتها العسكرية، عن ذلك بالمهج والأرواح.
إن على الإخوان المسلمين أن يقطعوا اليوم، بعد أن جربوا الأنظمة، مرات ومرات، وبعد تجربتهم القاسية في مصر، أن العمل للخلافة هو وحده الذي ينجيهم، ويرضى الله عنهم، وأن الحكم بالإسلام، وإقامة الخلافة ليس حلماً يصعب تحقيقه، وأن أعداءهم يضغطون عليهم، ويلاحقونهم، ويقومون بكل ما يقومون به حتى يرضخوا لإملاءاتهم، التي تقصي الإسلام عن الحكم نهائياً، وحتى ينفضوا أيديهم من العمل الصحيح والجاد، والذي به فقط يعز الإسلام. إن على الإخوان أن يقطعوا أن الأمة تريد الإسلام والحكم به، ومستعدة لأن تضحي في سبيل إيصاله للحكم، والشعب المسلم الصابر في سوريا خير شاهد على هذا، وأنه إذا كان لا بد للمسلمين من أن يدفعوا ثمناً غالياً بسبب إسلامهم، فلتكن تضحياتهم في سبيل شيء يرضي الله، كإقامة الدين والعمل لتطبيق الإسلام في خلافته، وليس في سبيل التوافق السياسي، والمحاصصة السياسية. إن خروج الناس على النظام الجبري في مصر، من أجل الإسلام، وموتهم في سبيل ذلك يرضي الله عنهم، وهو هدف تهون في سبيله الأرواح وترخص، لكن بالمقابل، فإن توجيههم الناس، في مصر، للخروج والتظاهر للمناداة بعودة المشاركة السياسية، على الأسس العلمانية التي يريدها السيسي وأعوانه، فإن هذا يسخط الله، ولا يخدم الإسلام في شيء، بل يخدم أميركا والغرب. فليكن الصبر على الملاحقة والاضطهاد، والقتل .. في سبيل الله، وفي سبيل إقامة الدين، وليس في سبيل العودة إلى حضن النظام، وفي سبيل الصراع على البقاء السياسي في منظومة الحكم الفاسد، فكلفة الخروج على الحاكم، من أجل الحكم بالإسلام، مهما كانت كبيرة ومؤلمة، إلا أنها تظل رخيصة في سبيل الله. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم: “ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إنّ سلعة الله الجنّة» سنن الترمذي. إن الدماء التي سفكت في رابعة، وفي ميادين مصر، ستلعن من يخونها، ويبيعها رخيصة من أجل توافق سياسي مع من يحارب إقامة الدين… هذا في مصر.
أما في المشهد السوري، فإن الثوار وكل المخلصين الذين خرجوا على النظام هناك، أدركوا منذ البداية أن الغرب يريد أن يلتف على ثورتهم لإحباطها من خلال استبدال بشار بعميل غير ظاهر يخلفه، فلا يتغير الحال، وتستمر تبعية سوريا لأميركا، فرفضوا ذلك وأعلنوها إسلامية، وطالبوا بالحكم بالإسلام والخلافة، ما جعل النظام الآيل للسقوط، وكل الغرب الكافر الذي يدعمه يصعقون، وجعله يدخل في حرب إبادة للشعب المسلم البطل هناك لأنه يقول ربي الله. وهكذا فإن القتل المستعر، والمجزرة التي تجري في سوريا اليوم، هدفها ثني المسلمين هناك عن الاستمرار في ثورتهم، ودعوتهم للخلافة. فإن بدلوا وغيروا وقبلوا بالدولة المدنية، وأعلنوها وطنية وديمقراطية وعلمانية، وقبلوا بالمجالس والهيئات السياسية التي تدربها أميركا، في الفنادق، وفي العواصم العربية، وفي جنيف؛ لتخلف بشار، توقفت المجزرة والإبادة. ولكن.. الحمد لله ثم الحمد لله أن كل هذه المؤامرت السياسية، التي تحاك في سوريا تفشل على صخرة ثبات المسلمين هناك، وعلى صخرة مبدئية حركة الثورة هناك، الأمر الذي ينبيء أن نتيجة هذا الثبات يمكن أن يكون جائزة عظيمة من الله عز وجل، واستخلاف وتمكين بإذنه تعالى. قال صلى الله عليه وسلم في شأن الشام وأهلها: «إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة» سنن الترمذي، وقال أيضاً: «ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام» الحاكم والبيهقي والطبراني. ولعل هذه الأحاديث، وغيرها من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ما يفسر سر كفاحية وبطولة رجال الشام المؤمنين الصابرين، وسر رفعهم لواء الدعوة للخلافة، التي أمرهم الله سبحانه وتعالى بها ودعاهم إليها حزب التحرير، والذي ينشط بين ظهرانيهم. نسأل الله أن يثبتهم، ويثيبهم أجراً وفتحاً عظيماً، عاجلاً غير آجل. إن استعصاء ثورة الشام على الغرب والشرق، رغم المحارق والمجازر غير المسبوقة هناك، لا يمكن أن يكون إلا لأمر جليل عظيم، وهو أن أصحابها أخلصوها لله، وقطعوا أنه من كان مع الله فمن عليه؟! نعم هذا هو سر الصمود الأسطوري للمسلمين هناك: إن دعوتهم لله، ومطلبهم بعودة الحكم بالإسلام والخلافة يرضي الله عز وجل. وها هو لافروف وزير خارجية روسيا يكشف هذا السر، ويفضح مخطط الكفار في سوريا، فقد قال أمام الدورة الثامنة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، في 27/09/2013م: «إن الأهداف التي تسعى إليها هذه الجماعات المتطرفة لا علاقة لها بالديمقراطية، وتأتي على أساس انعدام التسامح، وتهدف إلى تدمير الدول العلمانية وإقامة الخلافة» وقال في 11/10/2013م عن أهمية الإسراع بعقد مؤتمر جنيف2 «كلما تباطأنا في هذا الموضوع سوف تتجذر بقوة القوى المتطرفة، والتي أعلنت عن سعيها إلى تأسيس دولة الخلافة في سوريا والمناطق المحيطة بها» وقال: «إن المهمة الآن تكمن في عدم إضاعة المزيد من الوقت، وجلب الحكومة السورية إلى طاولة المفاوضات مع المعارضة العاقلة، التي لا تفكر في إقامة خلافة على الأراضي السورية.» قال تعالى: ( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ). إن لافروف ينطق بلسان كل أعداء الإسلام والثورة في الشام، والذين حاولوا وحاولوا أن يخفوا حقيقة الصراع في سوريا والمنطقة من أنه صراع عقدي حضاري بين الإسلام دين الحق وبين الديمقراطية الكافرة الملحدة. إن سر ثورة الشام، والذي يحرص الإعلام المتآمر على طمسه، يكمن في عمل العاملين الجاد والقوي هناك للخلافة.
وهكذا فإن خطة الغرب الكافر، والذي يقف خلف الأنظمة الآيلة للسقوط في بلاد المسلمين، واضحة ولا تحتاج إلى تحليل، فهم لا يريدون لأي ثورة على الحكام أن تغير من الواقع شيئاً، ناهيكم عن قيام خلافة المسلمين بالتأكيد وعلى وجه الخصوص، وهم مستعدون لقبول أي شيء سوى الخلافة، فالخلافة عندهم خط أحمر، ودونها حز الرقاب، أما تبديل عميل بعميل، وحكومة بحكومة، وحزب حاكم بآخر، فكله مقبول طالما أن لا مناداة بالحكم بالإسلام والخلافة. ومن المقبول عندهم، بكل تأكيد، أن يخلف بشار حكم (إسلامي) على الطريقة الأميركية، أو ما يسمونه بالإسلام المعتدل. ألم تطعم أميركا المجالس والائتلافات التي تصنعها لاستلام الحكم، بشخصيات (إسلامية) معروفة حتى تلتف، من خلالهم، على الثوار؟ ألم يقدم رجالات الحركات الإسلامية (المعتدلة) أوراق اعتمادهم للأميركان والغرب، في أكثر من مناسبة، كي تقبل أن تستخدمهم بعد سقوط بشار في الدولة الجديدة؟ ألم يطمئنوهم أنهم ليسو مع دولة الخلافة، وأنهم مع دولة وطنية مدنية ديمقراطية؟ ونحن نقول لهؤلاء: لن تجنوا إلا شوك القتاد، وستلفظكم أميركا وعملاؤها بعد أن تستعملكم، واعلموا أنه لم يستشهد الآلاف في سوريا دفاعاً عن عقيدتهم، من أجل أن تقفزوا على الحكم خدمة لأسيادكم في الغرب.
إن الثورات التي اندلعت في بلاد المسلمين ثورات مباركة، فقد أظهرت معدن الأمة الأصيل، وأنها أمة لا تموت، وأن مطلبها هو إسلام مطبق في دولة جامعة، تجمع المسلمين تحت لواء واحد كما كانوا. والمسألة، بإذن الله، مسألة وقت لا أكثر حتى يحصل ذلك. لكن الكافر المستعمر يحرص على أن لا تصل أي من هذه الثورات إلى محطة الخلافة، فهو يدرك أن وحدة المسلمين السياسية، مرة أخرى، من شأنها أن تهدد وجوده، وتقطع يده من أن تمتد إلى بلاد المسلمين، لذلك لا يترك سبيلاً لمنعهم إلا سلكه، فقد ضللهم – سابقاً- باستقالات مزعومة، وها هو اليوم يضللهم (بالإصلاح) المفروض على طريقته، حتى يلتف على ثوراتهم، وها هو يدأب في اتهام دينهم، ليغرقهم بالدفاع عنه ليحرف بوصلتهم، ويزرع الفتن بينهم ليمعن في تفريقهم، ويشوه دولة الخلافة في أذهانهم لينفرهم منها، ويتهمهم بالإرهاب (تلك الكذبة الكبرى، والنكتة السمجة) حتى يرفعوا الرايات البيض، وينبطحوا أمام إملاءاته، وها هو يهاجمهم عسكرياً في عقر دارهم، ويقتلهم بالجملة، لإطباق سيطرته عليهم كما يفعل في غير بلد.
إن الأمة الإسلامية، وبعد سنوات وسنوات من التيه والضياع، جربت فيها كل شيء لم ينفعها، وبعد أن صار في الأمة من يعمل لعودة الإسلام وخلافته، فإن أداءها باتجاه دينها وهويتها وقضيتها يرتفع باطراد، والحمد لله، وهو يبشر بعودتها قوة كونية من جديد قريباً باذن الله، سواء انطلاقاً من بلاد الشام أم من مصر أم من غيرهما. وهذه القوة في الأمة الإسلامية يعرفها سياسيو ومفكرو الغرب أكثر من كثير من أبناء المسلمين، وتصريحاتهم مستفيضة في ذلك. يقول الكاتب الأميركي هيرب دنينبيرغ في مقال نشرته صحيفة (ذا بوليتان) في 15/5/2009م: «إن هدف المسلمين حالياً ربما يقتصر على النيل من (إسرائيل)، ولكن هدفهم الأساسي يتمثل في السيطرة على أوروبا» وأضاف أنه إذا كانت «أوروبا في الظاهر تعتبر قارة غربية مسيحية» إلا أنها ستكون «خاضعة للسيطرة الإسلامية»، وحذر الكاتب من أن «الهيمنة الإسلامية سوف تغزو الولايات المتحدة بعد ذلك» معتبراً أن انحسار الثقافة الأوروبية، والغربية عموماً، يعود إلى «تراجع الإيمان بالقيم الغربية في الوقت الذي يستميت فيه آخرون (في إشارة إلى المسلمين) في سبيل قيمهم وثقافتهم». أما بات بوكانان، وهو جمهوري أميركي محافظ فيقول: «الحقيقة هي أن ثبات الإسلام، وقدرة الاحتمال لديه، شيء مبهر حقاً. فقد تمكن الإسلام من البقاء رغم قرنين من الهزائم والإذلال… لقد تحمل الإسلام أجيالاً تعاقبت على الحكم، واقتبست النمط الغربي، وبرغم ذلك صمد الإسلام أمام الملوك والحكام التابعين للغرب، بل وتصدى الإسلام بسهولة للشيوعية… وبرهن على قدرته على التحمل أكثر من الوطنيات التي سادت في العالم العربي. وما نراه الآن هو أن الإسلام يقاوم الولايات المتحدة، آخر قوة عالمية كبرى… وطالما تمكنت فكرة الحكم الإسلامي من السيطرة على الشعوب الإسلامية، فلن يتسنى آنذاك لأضخم جيوش الأرض الحيلولة دون حصول ذلك». إن كلام بوكانان هذا يؤكد الحقيقة التي قالها الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون: «نحن نؤخر خروج المارد الإسلامي من القمقم.»
فإذا كان مفكرو وسياسو الغرب يدركون خطر الإسلام عليهم وعلى مبدئهم، ويعملون ليل نهار من أجل منع انبعاث الإسلام في دولة الخلافة، فإلى متى يظن البعض من أبناء المسلمين، ومن الحركات الإسلامية، أن الأمة غير قادرة على إقامة دينها في خلافتها؟ ألا يرون تقدم المد الإسلامي، في العالم كله، من خلال عودة الناس إلى الوعي على الإسلام، ومن خلال عمل من يقود الأمة نحو وحدتها، وتحكيم نظم إسلامها في خلافتها؟ ألا يتفكرون في ما تعلنه الأوساط السياسية والاستخبارية، في الغرب، من أن ما يحصل الآن من حراك سياسي في العالم الإسلامي، على أيدي أبنائها المخلصين، سيقود إلى دولة تجمع شمل المسلمين، وأن هذا أصبح واقعاً لا يمكن إيقافه؟ ألا يرون كيف يتعرض الإسلام والمسلمون للملاحقة في الشرق والغرب، وكيف يستهدفون، حتى يجبنوا ويتراجعوا عن نصرة دينهم، ومع ذلك يرفعون لواء التحدي؟ أبعد كل هذا يضع من يرفع شعار الإسلام يده في يد الأنظمة الجبرية، ويعترف بها، ويشتغل معها؟ أبعد هذا ننقذ الأنظمة الآيلة للسقوط، بدل أن نكون معاول هدم لصرحها؟ ولمصلحة من نضع أيدينا في أيدي جلادينا، خصوصاً بعد أن قطعت الحوادث أنهم عملاء للغرب؟
لقد اختار الله الأمة الإسلامية، وحدها بعد محمد صلى الله عليه وسلم لقيادة العالم، وحمل رسالته للناس، وهو القائل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) والأمة اليوم قادرة على إقامة المنهاج الإسلامي من جديد، واستئناف حياتها الإسلامية في دولتها، وقادرة على حمل الدعوة إلى العالم، فلا ولاء في بلاد المسلمين لأي حاكم، وقد فشلت كل الأنظمة التي طبقت علينا، وأدرك المسلمون أن لا خلاص لهم إلا بالإسلام مطبقاً في خلافته، والتي لا يقف في وجه مشروعها هذا، إلا الأنظمة المأجورة القمعية، وعلماؤها – علماء السلاطين، وحركات الإسلام المعتدل، مخترعة الدين الجديد الذي يرضي أميركا عنها. إضافة إلى أن المسلمين اليوم مستعدون للتضحية في سبيل دينهم، وقد ظهر هذا جلياً في مناسبات كثيرة، ما يبشر أنهم قادرون على إحداث التغيير والدفاع عنه.
إن الثورات في بلاد المسلمين تعلن أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بدأوا في الاستيقاظ الحقيقي من غفلتهم وسباتهم العميق، وأخذوا بالتململ والتحرك الرشيد، وعلى الحركات الإسلامية أن تبني على هذا، وتقود الجماهير نحو عزتها، المتمثلة بالخلافة فقط. وإذا كان ثوار سوريا، وكل المخلصين هناك، قد تعلموا من درس مصر القاسي، وأعلنوها إسلامية لا شية فيها، فلم يتنازلوا عن مطالبهم، وامتحنوا امتحاناً عظيماً من الله، حتى يأذن الله بأمره، وينصرهم على أعدائهم، فلا زال أمام الثورة في مصر الفرصة لأن تتعلم من أختها في سوريا، وتعود إلى استقامتها، وهذا، مرة أخرى، يحتاج ممن يتصدرون المشهد السياسي، من الذين يتحدثون باسم الإسلام هناك، أن يضعوا أيديهم في يد من ينادي بالتغيير الجذري، في مصر، حزب التحرير، وكل الدعاة المخلصين، الذين ينصحون ويسددون ويجتهدون في إفهام المسلمين أمر دينهم، وكيف السبيل إلى الخلاص، لتعود مصر إلى حضن الأمة من خلال بوابة الخلافة، فلا زال هذا الأمر ممكناً، إذا خلصت النوايا، واستقام السير، ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )