العدد 90 -

السنة الثامنة جمادى الأولى 1415هـ, تشرين الأول 1994م

أثر العمل خارج المجال في إقامة الخلافة

بقلم: إياد هلال

يتساءل بعض الشباب عن أهمية العمل خارج المجال وكيفية تأثير هذا العمل إيجابياً في إقامة الخلافة. ويرى هؤلاء أن العمل في المجال منتج لارتباطه بالمنطقة التي اتخذتها الدعوة مجالاً لعملها ولكون الشاب يلمس أثر عمله (سلباً أو إيجاباً) في الناس، والرأي العام، وقيادة الأمة، والتفاعل معها، وبناء على القاعدة الشعبية، وطلب النصرة. أما العمل خارج المجال فإنه لبعده عن الأمة فلا يتصور أن يحقق نتائج محسوسة، أو قد لا يلمس الشاب أثر عمله، وبالتالي فقد لا يجد الشاب نفسه مندفعاً للعمل خارج المجال.

إن الذي يجب أن يظل قائماً في الذهن هو أن الله سبحانه وتعالى قد سن في الكون سنناً لا تتخلف: ((…)). ((…)). ومن هذه السنن ما يتعلق بقوانين الكون الطبيعية كقوانين الجاذبية والضغط والديناميكا الحرارية، فهذه سنن من الله سبحانه وتعالى لا تتخلف ولا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول مطلقاً وذلك بالدلالة القطعية للآيات الكريمة. كذلك فإن من سنن الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالبشر والعمران البشري والنفس البشرية، فكون ا لإنسان فيه غرائز معينة لا تتغير، وكون الإنسان فيه قدرة على التفكير، وكون الإنسان مدنياً بالطبع، كل هذا من سنن الله سبحانه وتعالى: ((…)). ((…)). ((…)). ومن سنن الله عز وجل سننه في التغيير: ((…)). كل هذه السنن من الله عز وجل لا تتخلف.

والمتتبع لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أن الرسول الكريم قد سار في دعوته حسب هذه ا  لسنن، والمعجزاتُ إنما كانت لإثبات صدق نبوته أو لتثبيت فؤاده. أما الدعوة ومراحلها والاتصال بالناس وعرض الدعوة على القبائل والحذر في ذلك وطلب النصرة وغير ذلك، فقد كان كل هذا سائراً حسب سنن الله سبحانه وتعالى في الكون.

إن العمل الذي نحن بصدده هو بناء الدولة وتغيير المجتمع والنهوض بالأمة وليس مجرد تسلم السلطة، مع ملاحظة أنه لا بد من تسلم هذه ا لسلطة في وقت ما لتطبيق وتنفيذ المفاهيم والمقاييس والقناعات التي حملتها الأمة وتفاعلت معها وآمنت بها. ونحن لا نعمل في فراغ، بل نعمل في مجتمع تسوده أفكار معينة ويخضع لقوانين وأنظمة تتولاها سلطة معينة، وبالتالي لا بد من قوة معينة تدفع الأمة والمجتمع باتجاه معين نحو التغيير المنشود، وإذا وصلت هذه القوة حداً معيناً كان كافياً للتغلب على القوة التي تدفع بالأمة والمجتمع في الاتجاه المضاد، فإن التغيير حينئذ واقع لا محالة والولادة آتية لا ريب فيها بإذن الله سواء أكانت ولادة طبيعية أم قيصرية، نقول هذا لأن هذا كله من سنن الله التي سنها في الكون.

وبعبارة أخرى فإنه لا بد للتغيير وإقامة الدولة من قوة ديناميكية تعمل فتوجد ضغطاً كافياً للتغيير. والقوة المطلوبة ليست قوة محصورة أو طاقة محلية فحسب، بل لا بد من قوة وطاقة وضغط محلي يعمل في المكان المطلوب، ولا بد أيضاً من قوة خارجية تعمل لإيجاد زخم الفكرة. فالتثقيف المركز الخاص بمن يتصدى للعمل للتغيير، والتثقيف العام للمجتمع بالتفاعل مع المجتمع، وضرب العلاقات السائدة في المجتمع، وضرب أفكار الكفر الموجودة في المجتمع ومهاجمتها، والحديث الجماهيري بصورة العديدة، كل هذا من الضغط المحلي الذي لا بد منه للتغيير. وبما أن المجتمعات البشرية لا تعيش في حالة انعزال عن بعضها، وبما أن السلطة القائمة تستند إلى سند خارجي لبقائها في السلطة، وبما أن الناس في حالة تأثر بما يجري في مجتمعهم وما يجري خارج هذا المجتمع، وبما أن الأفكار لا تعرف حدوداً، كان لا بد أيضاً من العمل خارج المجال لإيجاد هذه القوة الخارجية والزخم الخارجي الذي بدوره يؤثر محلياً نحو التغيير المطلوب.

إن المتتبع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصر نشاطه على مكة المكرمة وحدها، رغم أن مجاله كان محصوراً بها. فالمرء يجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بدأ يتصل بالوافدين من القبائل إلى مكة ليعرض عليهم الإسلام، وذلك قبل بدء طلب النصرة بسنوات عدة، وكانت قريش تبادر بالاتصال بهؤلاء تحذرهم من الاستماع (لفتى قريش). وكم من مرة فرض القادمون هذا الحصار الفكري من قريش واستمعوا إلى (فتى قريش)، وسرعان ما آمن بعض منهم بما سمع، أما من لم يؤمن فكان يرتد إلى قريش مؤنباً إياها على سلوكها. فكان إيمان الوافدين يحدث قوة وضغطاً وزخماً يؤثر في قريش نفسها. كذلك فإننا نجد أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يطلب ممن يسلم من خارج مكة أن يرجع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، كما حدث مع الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه حين أسلم وطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم العودة إلى دوس، وكذلك مع أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه. وأيضاً فإن إذن الرسول الكريم بهجرة الصحابة إلى الحبشة وما دار فيها من نقاش بين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه والنجاشي حين أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة لاسترداد المسلمين من النجاشي وموقف عبد الله بن أبي ربيعة مما سمعه من جعفر ومن النجاشي رداً على ما قاله جعفر، كل هذا أدى إلى إيجاد زخم قوي استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم لدفع الدعة قدماً إلى الأمام، رغم أن الأحداث كانت خارج المجال ولم تحدث بشكل عفوي. كذلك فإن النقاش الذي دار بين هرقل إمبراطور الروم وأبي سفيان حول الإسلام جعل أبا سفيان يدرك أن أمر الإسلام أصبح أعظم من أن تجابهه قريش. كل هذه الوقائع من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على أن قريشاً كانت تتأثر بقوة الدعوة بجانبيها: المحلي المتمثل بتفاعل الدعوة مع المجتمع المكي وبالتثقيف العام والمركز الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم، والخارجي المتمثل بالآفاق التي انتقلت لها الدعوة. وبعبارة: كانت ا لضغوط المحلية والخارجية تصب باتجاه واحد ظل يتراكم حتى تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من إقامة الدولة في المدينة. ومما تجدر الإشارة إليه أن الدعوة في المدينة لم تتأثر فقط بجهود مصعب بن عمير رضي الله عنه في المدينة، بل أن زخم الدعوة في مكة أثر في أجواء المدينة المنورة. كذلك فإن الأجواء الخارجية التي تم بناؤها قبل الهجرة ساعدت في أعمال الدعوة السياسية فيما بعد حين انطلقت تحمل الإسلام خارج الجزيرة.

لذلك فإن إقامة دولة الإسلام تحتاج إلى قوة، والقوة يجب أن تكون محلية وخارجية معاً، والقوة الداخلية تتمثل في التثقيف العام والتثقيف المركز والتفاعل مع الناس وضرب العلاقات في المجتمع أما القوة الخارجية فتتمثل في إيجاد أجواء للدعوة ولفكرة الخلافة ولكسب شباب جدد يعودون لبلادهم ليتولوا بدورهم أعمالاً تصب في قناة القوة المحلية. وهذا كله يحتاج إلى إدارة وتنسيق لا يقوم به إلا التنظيم السياسي. فالشاب الذي يحمل الدعوة في بلاد الغرب ولو كان من أهل البلاد إنما يعمل في دائرة القوة الخارجية التي تؤثر إيجاباً في إقامة الدولة وذلك بإيجاد أجواء عالمية لفكرة الخلافة فتضغط هذه الأجواء على أماكن المجال من جهة، ومن جهة أخرى يتم كسب شباب جدد للدعوة قسم منهم للمجال ليقوم بأعمال الضغط الداخلي.

كذلك فإن الشاب الموجود خارج المجال إنما يعمل مع التنظيم لا بمفرده، والذي يتفاعل مع الأمة إنما هو التنظيم، والذي يصل للسلطة إنما هو التنظيم لا الفرد، لذلك فالعمل الجماعي هو الذي أدى إلى التغيير، وبعبارة أخرى فإن عمل الشاب منتج حتى لو كان خارج المجال.

وبالإضافة إلى هذا فإن الأمة واحدة، والكافر حين عمل لهدم الخلافة لم يبدأ بمركز الخلافة، بل لم يبدأ بالمسلمين القاطنين في دار الإسلام، وإنما بدأ بالمقيمين في أوروبا. وهذا يدل على وحدة الأمة ووحدة العمل فيها. لذا ليس غريباً أن تقوم الأنظمة العربية بمحاربة الدعوة خارج حدودها ومحاولتهم الدؤوبة لحصر الفكرة إقليمياً وجعلها محلية دون صدى عالمي، وليس عجيباً أن تقوم الأنظمة العربية بمتابعة أنشطة الشباب خارج العالم العربي، كما أنه ليس من الغرابة أن يقوم المرتبطون بالأنظمة العربية والمقيمون في الغرب بمحاولة حصر الفكرة وحبسها ومنعها من أن ترى النور، وما هذا إلا لإدراك هؤلاء معنى العمل ووحدته وأهمية العمل خارج المجال، فإذا كان هؤلاء يدركون أهمية عملنا خارج المجال، فما بالنا نزهد في هذا العمل لا نعطيه قدره؟ لذا لا يجوز بعد اليوم أن يقعد شاب عن العمل بحجة أن العمل خارج المجال غير منتج. إن على كل شاب أن يدرك أن عمله خارج المجال لا ينفصل عن عمل التنظيم، وبالتالي فإن العمل منتج في أي مكان وأية بقعة، هذا فضلاً عن أن العمل واجب أوجبه الله علينا بغض النظر عن أماكن وجودنا. وهذا وحده كاف للعمل. فلننطلق للعمل بصدر منشرح واثقين بجميل وعد الله ولن يخلف الله وعده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *