بين هدي هذه الرسالة الشرعية
1994/09/26م
المقالات
1,661 زيارة
من طبيعة البشر محاولتُهم إضفاء المسوّغات و«الشرعية» على أفكارهم وأقوالهم وعاداتهم وتصرفاتهم. ومن هذا القبيل جاءت مزاعم اليهود بشأن اغتصابهم فلسطين.
اليهود يحاولون إثبات «شرعية حقهم في فلسطين». زعموا أن الدين يعطيهم هذه «الشرعية»؛ وزعموا أن التاريخ يعطيهم هذه «الشرعية»؛ وزعموا أن القوانين تعطيهم هذه «الشرعية»؛ والآن صاروا يزعمون أن الواقع يعطيهم هذه «الشرعية».
وهذا يدفعنا إلى الكلام عن «الشرعية»: متى يكون الفعل أو الشيء «شرعياً»، ومتى يكون «غير شرعي»؟ ومن هي الجهة صاحبة الصلاحية في إعطاء الأمور «شرعيتها» أو «عدم شرعيتها»؟ وفي حال اختلاف الشعوب والأمم والأفراد على هذه «الشرعية» كيف يتعايشون، وكيف يتعاملون؟
الكاتب – الرسالة الذي بين أيدينا ليس الغرض منه سرد تاريخ القدس أو فلسطين، بل الغرض هو أن يكون مساهمة في دحض مزاعم اليهود المعتدين الباطلة، وإثبات الحق لأهله. هذا لا بد أن يستند إلى «الشرعية»، «الشرعية الحقة» وليس «الشرعية المزيفة».
أما مَنْ هو صاحب الصلاحية في إعطاء الأمور «شرعيتها» أو «عدم شرعيتها» فهو «الله» وحده سبحانه وتعالى. ذلك أنه هو مالك الملك، وهو خالق كل شيء، وهو مدبر الأمور. ولا يجوز للبشر أن يتصرفوا بالأشياء ولا بأنفسهم إلا بعد أن يأذن اللهُ لهم، لأن الأشياء والبشر هم ملك لله تعالى. والرسل منذ آدم عليه السلام إلى محمد r أرسلهم الله سبحانه ليرشدوا الناس إلى ما هو «مشروع» وإلى ما هو «غير مشروع». وحذّر سبحانه الناس من أخذ الشرع من غيره واعتبر ذلك إشراكاً حيث قال: ]أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ[ [الشورى: 21].
كل رسول كان يأتي بشرع من الله يبلّغه الناس، وهذه الشرائع كان يكمّل لاحِقُها سابقَها، وقد ينسخ اللاحق أحكامً من السابق. وحين جاء خاتم المرسلين محمد r كانت الشعوب السابقة قد حرّفتْ كثيراً مما جاءت به الرسل: حرفوا العقائد وحرّفوا الأحكام وأخفوْا كثيراً من الدين، بحيث لم يعد الناس قادرين على تمييز الصحيح من المحرّف؛ فجاءت رسالة محمد r كاملة شاملة، وقد تكفّل الله بحفظها، إذ اقتضت حكمة الباري سبحانه أن تكون خاتمةً الرسالات إلى قيام الساعة. وبذلك فإن من رامَ معرفة «الشرعية» في أيامنا هذه فإن عليه أن يرجع إلى رسالة محمد r، فهي المرجع الأوحد الموثوق عن الله سبحانه وتعالى منذ بعثة محمد r وإلى قيام الساعة. فما وجدناه فيها «شرعياً» فهو «شرعي حقاً» وما وجدناه فيها «غير شرعي» فهو «حقاً غير شرعي».
رُبَّ قائل يقول: هذا الكلام يقود إلى إلغاء العقول وقدرتها على التمييز بين الخير والشر،وبين الحسَّن والقبح، وبين الضارّ والنافع…
والجواب عن ذلك هو أن الله سبحانه لم يُلْغِ العقل ولم يعطّلْ وظيفته، بل كلّفه وترك له المجالَ حيث يستطيع الاهتداء وحده، وعلّمه وهداه حيث يعجز عن الاهتداء وحده.
فمثلاً في شؤون الزراعة والصناعة والأبحاث العملية التي تشمل الطب والفيزياء والكيمياء والنبات والحيوان وباطن الأرض وسطحها والبحار والفضاء والأجرام السماوية القريبة والبعيدة، كل ذلك يستطيع العقل الإنساني أن يتوصل فيه، عن طريق البحث والنظر والتجارب، إلى الاهتداء لما فيه خير الإنسان، ولذلك نرى أن الله سبحانه لم يرسل الرسل ليعلّموا الناس هذه الأمور، بل دعا الناس ليبحثوا عنها بعقولهم، قال تعالى: ]قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ[ [سورة: يونس 101]، وقال رسول الله r حين سُئِل بشأن تأبير النخل: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
أما المُغَيَّبات، وهي الأمور غير المادية، أو ما كان قبل هذه الحياة وما يكون بعدها، أو ما لا يستطيع البشر الوصول إليه، فإن العقل لا يستطيع أن يعرفها عن طريق البحث والنظر والتجاري، وذلك مثل: ماذا سيكون بعد الموت، وهل هناك قيامة وحساب وجَنّة ونار؟ مثل هذا خارج عن قدرة العقل الإنساني. والفلاسفة الذين بحثوا ليتوصلوا إلى الاهتداء إلى ذلك بواسطة عقولهم، دون أن يستعينوا بهداية الرسل، قد غاصوا في الأوهام والتخيلات، فضيّعوا وقتهم ووقت من درس أوهامهم، ووقعوا في التيه أو الضلال.
وكما توهم الفلاسفة بالأمس أن بإمكانهم معرفة المغيَّبات عن طريق عقولهم، يتوهم كثير من الباحثين اليوم أنهم يستطيعون معرفة الأخلاق الحسنة من القبيحة بواسطة الخبرة البشرية ودون الحاجة إلى الرسل، على اعتبار أن الأخلاق ليست من المغيّبات بل هي صفات محسوسة ونتائجها محسوسة.
ورغم كونها محسوسة يعجز العقل الإنساني عن إعطاء رأي صحيح بشأنها. فمثلاً صفة الكَرَم قد يقول الإنسان: (ليس من الحكمة أن تبذل مالك إلى ضيفك وتحرم نفسك). وقد يقول: (ليس من الشهامة أن تكون بخيلاً). والبخيل يسمّي الكَرَم تبذيراً، ويسمّي البخل تعقّلاً وحُسْن إدارة. ولا يوجد ميزان يضبط الأمر إلا أن يأتي هذا الميزان من خارج العقل (من الله). وفي الجاهلية عند العرب كان من إكرام الضيف أن يقدم الرجلُ زوجته لضيفه، وليس أن يقدم له الطعام والحماية والإعانة فقط. وليس أن يقدم له الطعام والحماية والإعانة فقط. والعقل لا يستطيع أن يقول: هذا خطأ وهذا صواب، لأن الذي يسوّغ بذل المال قد يسوّغ بذل العرض، ويسمّى ذلك زيادة في الإكرام لأن فيه زيادةً في التضحية لإرضاء الضيف. ومثل الكرم الشجاعة، هناك من يسمّيها تهوّراً، ويقولك الهَرَب ثلثا المراجل. وهكذا..
ومثل الأخلاق سائر الحقوق والواجبات، والخير والشر، والحسْ، والقبح، كل ذلك لا يمكن وضعه تحت التجربة في المختبر، ولا يمكن قياسه بمقياس مادي مثل المتر أو اللتر أو الغرام، فلا يستطيع العقل أن يحكم عليه حكماً صحيحاً؛ فكان لا بد من الهداية والرباّنية، قال تعالى: ]كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[.
باختصار، لو اختلف اثنان في مقدار وزن جسم ما، أو طوله، أو حجمه فإنهما يعودان على الميزان، أو إلى المتر، أو إلى المكيال فيزول الاختلاف، وكذلك كل ما يملك الناس له مقياساً متفقاً عليه. أما إذا اختلف اثنان بشأن عورة المرأة مثلاً، أحدهما يقول: شعرها عورة لا يجوز إبداؤه للأجانب، والآخر يقول: لا فرق بين شعرها ويدها، ومادام يجوز لها إبداء يدها فيجوز إبداء شعرها. وهذا اختلاف في الفكر، ولا يوجد عند البشر ميزان للأفكار إلا الميزان الذي أنزله الله للبشر بواسطة الرسل وخاتمهم محمد r، فميزان الأفكار (العقائد، الخير والشر، الحلال والحرام، الحَسَن والقبيح…) هو القرآن والسنة. وهذا الميزان معترف به عند المسلمين وحدهم وليس عند جميع الشعوب والأمم، وهو ليس مثل المتر واللتر أو الغرام أو بقية المقاييس المادية.
وهكذا نرى أن الشارع الكريم ترك للعقل الإنساني ما هو في نطاق قدرته، وأرسل إليه الرسل يهدونه إلى ما لا يستطيع أن يهتدي إليه وحده. ولكن لا بد أن يكون معلوماً أنه ليس كل أمر توهمه المرء ضمن نطاق قدرته هو كذلك، إذ كثيراً ما يتوهم أو يتخيّل أموراً ضمن حدود قدرته وهي ليست كذلك. وهذا يحتم وجود دليل من النصوص الشرعية (من القرآن أو السنة) يدل على أن الأمر المعيّن قد تركه الشرع للعقل وأناط الحكم عليه به.
إذا نظرنا إلى الشعوب والأمم الآن نرى أنها تختلف في مصادر «الشرعية» ليدها: هناك من يجعل الدين مصدر الشرعية، وهناك من يجعل الأكثرية الشعبية مصدر الشرعية، وهناك من يجعل الأعراف والتقاليد مصدر الشرعية، وهنا من يجعل اتفاق الأطراف وتعاقدها مصدر الشرعية. هذا في داخل كل أمة أو دولة، أي «الشرعية الداخلية». أما الشرعية بين الدول المختلفة، أي «الشرعية الدولية» فإن هناك من يجعل الأعراف الدولية مصدر هذه الشرعية، وهناك من يجعل قرارات هيئة الأمم المتحدة مصدر الشرعية.
في مؤتمر «السكان والتنمية» الذي عقد في القاهرة (5- 13/09/1994) لاحظنا أن الفاتيكان رفض الموافقة على العلاقات الجنسية خارج الزواج. وأصرّ على أن ذلك «غير شرعي». ولم يكن موقف الفاتيكان هذا مبنياً على الأكثرية ولا على الأعراف والتقاليد ولا على قرارات الأمم المتحدة، بل كان مبنياً على الدين حسب فهم البابا له. ولاحظنا أن حكومات بعض البلاد الإسلامية امتنعت عن حضور هذا المؤتمر، وبعضها حضر ولكنه رفض الموافقة على الإجهاض أو على الزنا أو الشذوذ الجنسي أو على مساواة الذكر بالأنثى في الميراث… إلى غير ذلكن وقالوا بأن هذه الأمور «غير شرعية» والمقصود أنها تخالف الدين الإسلامي. [في الغالب هذا ليس تمسكاً من هذه الحكومات بالدين بل هو خوف ومسايرة لشعوبهم الإسلامية].
وحسب الديمقراطيات الغربية السائدة في أكثر العالم هذه الأيام فإن الأكثرية الشعبية هي مصدر الشرعية. وهناك شعوب مثل الإنجليز تجعل من الأعراف والتقاليد مصدراً للشرعية عندها، بالإضافة إلى الأكثرية الشعبية في الأمور المستجدة. أما اتفاق الأطراف ذات العلاقة وتعاقدها فهو أيضاً يوجد «شرعية» حسب الديمقراطيات الغربية.
أما «الشرعية الدولية» فهي مبنية هذه الأيام على ميثاق هيئة الأمم المتحدة وعلى قرارات هيئة الأمم المتحدة. وما يسمونه بالقانون الدولي هو مبني في الغالب على هذا الميثاق وهذا القرارات.
وبالنسبة «للشرعية الدولية» أو «شرعة الأمم المتحدة» يكفي أن نلفت النظر إلى أن منظمة هيئة الأمم المتحدة مسخّرة هذه الأيام لخدمة مصالح أميركا، حتى وصفها كثير من المراقبين بأنها صارت عبارة عن دائرة من دوائر وزارة الخارجية الأميركية. ومنذ إنشائها سنة 1945 كانت أداة لخدمة مصالح الدولة المستعمرة الكبرى، وليس لخدمة مصالح جميع الدول والشعوب كما يزعمون. وهكذا كانت منظمة عصبة الأمم التي أنشأتها الدول المستعمرة الكبرى سنة 1920. وقد لاحظنا الدور الظالم المتحيّز لليهود الذي مارسته «الشرعية الدولية!» في تشريد أهل فلسطين وإعطاء بلادهم للمعتدين اليهود من خلال قرارات منظمة هيئة الأمم المتحدة.
إن «الشرعية الحقة» هي ما جعله الله سبحانه «شرعية» على لسان رسله قبل مجيء محمد بن عبد الله عليه وآله وعلى رسل الله أجمعين أفضل الصلاة والسلام. ومنذ مجيء الرسالة المحمدية صارت هي المصدر الوحيد لمعرفة «الشرعية الحقة».
فالأديان ليست الآن مصدراً لمعرفة «الشرعية» ما عدا الدين الإسلامي الذي جاء به محمد r، ذلك أن الأديان (ونقصد التي أصلها من الله) لحقها نسخ من الله، ولحقها تحريف من البشر؛ ولم يبقَ محفوظاً من هذه الأديان إلا الدين الإسلامي. قال تعالى: ]إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ [سورة الحجر: 9].
فكل «شرعية» غير مأخوذة من القرآن والسنة، أو لم يشهد لها القرآن والسنة هي «شرعية مزيّفة أو باطلة».
ونحن حين نقول: السيادة للشرع وليست للشعب نعني أن الذي له حق إعطاء الأشياء والأفعال حكمها من كونها حلالاً أو حراماً أو فرضاً أو ندباً أو كراهة هو الشرع وليس الشعب، وأن الذي يبين الخير من الشر والحسْن من القبح هو الشرع وليس العقل وليس الشعب أو أكثرية الناس. أي أن «الشرعية» تأتي من الشرع، أي من الله الذي أنزل الشرع.
ومن هنا فنحن حين نقول: «الأصل في الأشياء الإباحة (أي أنها حلال للإنسان) ما لم يرد دليل التحريم» نكون قد أخذنا هذا من النصوص التي أنزلها الله مثل: ]هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا[ [سورة البقرة: 29]. ومثل: ]وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ[ [سورة الجاثية: 13].
وحين نقول بشرعية الملكية الفردية فنحن نستند إلى نصوص الكتاب والسنة. وحين نقول بشرعية أن يشبع الإنسان حاجاته العضوية وغرائزه فنحن نستند أيضاً إلى الكتاب والسنة. وحين نقول بشرعية ولاية الأب على أولاده غير البالغين وعلى بناته، وحين نقول بأن القوامة في البيت هي للرجل على المرأة، وحين نقول: الحكم يتولاه الرجال وليس النساء، وحين نقول: حمل الرسالة الإسلامية إلى العالم يكون بالحجة وبالسلاح، وحين نقول: جسد المرأة كله عورة ما عدا الوجه والكفين… الخ كل ذلك نستمد شرعيته من كتاب الله وسنة رسوله.
وكذلك حين نقول بعدم شرعية الارتداد عن الدين الإسلامي فنحن نستمد ذلك من القرآن والسنة. ويحن نقول بعدم شرعية الكذب (إلا في حالات سمح بها الشرع)، وعدم شرعية الغيبة والنميمة، وعدم شرعية الحرية الشخصية أو حرية التملك أو حرية التصرف بالمال، أو عدم شرعية الانتحار، أو عدم شرعية إتلاف المال، أو عدم شرعية تعذيب الحيوان، أو عدم شرعية جعل الحاكمية العليا للناس، أو عدم شرعية تعاطي المسكرات والمخدرات، أو عدم شرعية أكل الميتة أو الخنزير، أو عدم شرعية النظر إلى العورات، أو عدم شرعية الحكم بغير ما أنزل الله، أو عدم شريعة الاحتكام إلى غير ما أنزل الله، أو عدم شرعية السكوت على المنكرات، أو عدم شرعية الهرب من قتال العدو، أو عدم شرعية تجزئة بلاد المسلمين، أو عدم شرعية التنازل عن أرض للأعداء، أو عدم شرعية ولاية الكفار على المسلمين… الخ كل ذلك نستمد عدم شرعيته من القرآن الكريم والسنة المطهرة.
رأي الأكثرية لا يوجِد شرعيةً إذا كان يخالف القرآن أو السنة. فلو أرادت أكثرية الشعب أن تسن قانوناً يبيح الربا، أو الخمرة أو الزنا، أو الشذوذ الجنسي، أو الارتداد عن الإسلام، أو ترك الحدود الشرعية وأخذ قوانين وضعية… لو أرادت أكثرية الشعب أن تفعل ذلك من خلال المجلس النيابي أو بواسطة استفتاء مباشر، فإنه لا قيمة لرأي هذه الأكثرية ما دام يتصادم مع نصوص الكتاب والسنة.
وكذلك لا قيمة للأعراف والتقاليد إذا كانت تخالف نصوص الكتاب والسنة. فإذا كان هناك عرف بأن يختلط النساء بالرجال الأجانب وعوراتهن بادية؛ أو إذا كان هناك عرف بأن يختلي الشاب بالفتاة بمجرد خطبته لها دون عقد زواج؛ أو إذا كان هناك عرف بأنه إذا قُتِل شخص فإن أولياءه يثأرون ليس بقتل القاتل دون غيره بل بقتل أي واحدٍ من عشيرته… مثل هذه الأعراف التي تتصادم مع الكتاب والسنة هي أعراف جاهلية ولا يمكن أن يوجد منها أية «شرعية حقة».
وكذلك إذا اتفق طرفان أو أكثر على أمر من الأمور التي تخصهم فإن هذا الاتفاق لا قيمة له إذا كان مخالفاً لنصوص الكتاب والسنة. فالاتفاق بين طرفين من أجل المقامرة أو من أجل التعامل بالربا لا يوجد شرعية. وكذلك الاتفاق بين رجل وامرأة لا يوجد شرعية لعلاقة جنسية بينهما. والاتفاق بين (منظمة التحرير!) ودولة اليهود على أن تتنازل المنظمة عن أرض فلسطين (أو قسم منها) لليهود لا يوجد شرعية لذلك التنازل… وكل اتفاقٍ أو عقد يتصادم مع الكتاب أو السنة هو غير شرعي.
قد يقول قائل: هذا يصح عند الذين يؤمنون بالله ويؤمنون أن القرآن من عند الله وأن محمداً رسول الله، أما الذين لا يؤمنون بذلك فلا يصح هذا عندهم. وجواباً عن ذلك نقول: نعم هذا يصح عند المسلمين، ولا يصح عند غيرهم. وسواء صح عند غير المسلمين أم لم يصح فهو عند الله صحيح، وهو في الحقيقة المطلقة صحيح. ولذلك لا يجوز للمسلمين الذين أنعم عليهم بمعرفة هذه الحقيقة أن يتهاونوا بها، أو يساوموا عليها، أو يتنازلوا عن جزء منها بدافع الحل الوسط. لا وسيطة بين الإيمان والكفر، وعلى المسلمين الذين جعلهم الله خيرَ أمة أُخرجت للناس أن يحملوا الرسالة الإسلامية وينشروها في العالم. فالدين الإسلامي هو دين الله، وهو الحق، وهو الذي يجب أن يكون وحده دين البشرية، وقد وعد الله بإظهاره على جميع المبادئ والأديان، قال تعالى: ]هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[ [سورة الصف: 9].
وبناءً على ذلك فنظرة المسلمين إلى «الشرعية الدولية» تختلف عن نظرة الكفار. الله سبحانه أعطى المسلمين الحق في أن يكونوا وحدهم قادة البشرية وحكامها، وأوجب ذلك أيضاً عليهم. أوجب الله على المسلمين أن يكونوا دعاةً وحَمَلَةَ رسالة اقتداء بمحمد r. يدعون ويحملون الرسالة بالحكمة والحجة، وإذا لم تكفِ الحكمة والحجة فقد جعل الله من حقهم ومن الواجب عليهم أن يقاتلوا بالسلاح من أجل ذلك. وكما أعطى الله سبحانه حق الولاية للوالدين على أبنائهم الصغار من أجل تربيتهم وهدايتهم والأخذ بيدهم إلى ما فيه خيرهم، كذلك أعطى للمسلمين حق الولاية على جميع البشر من أجل تربيتهم وهدايتهم والأخذ بأيدهم إلى ما فيه خيرهم. فإذا قاتل المسلمون بلداً من بلاد الكفار من أجل حمل رسالة الإسلام فإن قتالهم هذا قتال «شرعي» وليس عدواناً، فهو ليس من أجل الاستيلاء على الثروات وليس من أجل سيادة عِرْق آخر من الناس؛ إنه من أجل إخراج الناس من الظلمات إلى النور. فحين يكون قتال المسلمين للكفار على هذا الأساس فهو قتال في سبيل الله وهو قتال شرعي، والبلد الذي يفتحه المسلمون يصبح بلداً إسلامياً، ويصبح أهله رعية من رعايا الدولة الإسلامية، فإن أسلموا فقد تساووا مع الفاتحين بكل شيء، وإن لم يسلموا صاروا في ذمة المسلمين وأمانهم لهم ما للمسلمين من الإنصاف وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف.
أما إذا غزا الكفار بلداً من بلاد المسلمين فإن غزوهم عدوان، وإذا احتلوا أرضاً إسلامية فاحتلاهم غصب، ولا تثبت لهم بهذا الغصب ملكية، ولا تثبت لهم ولاية أو سلطان على المسلمين أو على بلاد المسلمين. أي أن احتلالهم لبلد إسلامي لا يوجد لهم شرعية، بينما احتلال المسلمين لبلد من بلاد الكفار يوجد لهم شرعية.
وهذه النظرة قد تبدو مجحفة وغير عادلة في التعامل الدولي، إذ كيف يكون قتال المسلمين لغيرهم شرعياً بينما قتال غيرهم لهم عدوان؟ وكيف يكون فتح المسلمين للبلاد شرعياً ومثبتاً لحقهم في تملك الأرض والولاية على أهلها بينما يكون احتلال الكفار لأرض المسلمين غصباً ولا ينتج عنه حق في الملكية والولاية؟
نهم هذه هي الحقيقة، فالإسلام يعلو ولا يُعلى عليه. والمسلمون حَمَلَةُ رسالة شأنهم شأن رسل الله في الأرض، ما داموا يجاهدون في سبيل الله وليس في سبيل غنيمة أو حميّة أو قومية أو مباهاة. وهذه الحقيقة أخذناها من كتاب الله وسنة رسوله. والله سبحانه لا يساوي بين الكفر والإيمان، ولا بين الكفار والمؤمنين، فهو يقول: ]أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ @ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[.
نحن نعرف أن الكفار لا يقبلون بهذه الحقيقة، ودول الكفر لا تقبل بالتعامل مع الدولة الإسلامية على أساس هذه القاعدة، فكيف ستتعامل الدولة الإسلامية مع بقية دول العالم؟
ستتعامل كما تعاملت الدولة في عهد رسول الله r وعهود خلفائه الراشدين، فالأمر ليس جديداً على الأمة الإسلامية. هناك أعراف دولية يقرها الإسلام وتقرها دول الكفر، وهناك علاقات يمكن إقامتها بين الدولة الإسلامية ودول الكفر حين يرى الطرفان منفعة لهما في تلك العلاقات مثل معاهدات حسن الجوار والتجارة والتعاون العملي والصناعي والزراعي وتبادل الرسل (العلاقات الدبلوماسية) والهدن الحرية… الخ.
ونريد أن نقول للمسلمين وللناس أجمعين بأن ما تدعيه دول العالم اليوم، وعلى رأسها الدول الكبرى: أميركا، إنجلترا، فرنسا، روسيا، إيطاليا، ألمانيا… الخ. إن ما تدعيه هذه الدول من المساواة بين جميع الشعوب وجميع الأديان وجميع الأعراق… هو كذب وخداع. بل هم يفضحون كذبهم في تصرفاتهم وفي أقوالهم. وقد رأينا كيف تصرفوا تجاه انتخابات الجزائر حين رأوا أن المسلمين سينجحون، وربما يقيمون دولة إسلامية. ورأينا كيف يتصرفون تجاه مسلمي البوسنة. ورأينا كيف يتصرفون تجاه الاعتداءات اليهودية في فلسطين. هم يعلنون أن ديمقراطيتهم هي وحدها الشرعية الحقة وما سواها هو تخلّف وضلال. وحين شتم سلمان رشدي الدين الإسلامي قاموا كلهم يؤيدونه ويقولون بأن له الحق أن يعبّر عن رأيه بموجب حرية القول التي سنها الدين الديمقراطي، وحين قال لهم أهل الجزائر: لماذا تمنعون عنا حقنا في انتخبا من يحكمنا (ما دام دينكم الديمقراطي لا يبيح لكم هذا المنع)؟ كان الجواب: (نحن لا نثق بكم لأنكم بمجرد وصولكم إلى السلطة ستحطمون الديمقراطية). أي أن الغربيين (أهل الدين الديمقراطي) بادروا هم إلى تحطيم الدين الديمقراطي لئلا يصل المسلمون إلى السلطة. وهذا يدل أنهم لا يؤمنون حقيقة بالديمقراطية بل يؤمنون بمصالحهم وهيمنتهم على العالم لاستعماره وامتصاص دماء أهله.
لقد آن للمسلمين ولشعوب العالم المستضعفة أن تفهم أن الدول الرأسمالية هي دول نفعية واستعمار واستغلال، وأن ما تتظاهر به من العدل والمساواة وحقوق الإنسان وتقرير المصير وميثاق الأمم المتحدة ليس إلا ستاراً تخفي وراءه أطماعها وعدوانيتها.
فلا شرعية إلا الشرعية الإلهية. الله سبحانه خلق جميع الناس: الأبيض والأسود والأحمر فهو لا يتحيز لفئة دون فئة. وهو الذي أنزل الأديان وختمها بالإسلام، ولم يجعله ديناً لفئة من الناس دون فئة بل هو للناس كافة. وهذا الدين هو من الله العليم الحكيم اللطيف الخبير، فلا يمكن أن يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه كما يأتي الأنظمة التي يضعها البشر.
وقد آن للأمة الإسلامية أن تعود إلى هذا النور، هذه النعمة لتنعم بها، وتحملها رسالة للعالمين.
وإذا رجعنا إلى مزاعم اليهود عن حقهم في فلسطين ومحاولتهم إضفاء الشرعية على هذا الحق نجد أن مزاعمهم باطلة، وأنه ليس لديهم أي شيء من «الشرعية الحقة». وقد جاءت المناقشة التفصيلية لدحض مزاعمهم في أبواب الكتاب.
والآن رغم بطلان مزاعم اليهود ووضوح هذا البطلان، ورغم أن فلسطين هي بلد إسلامي فإن قادة الشعب الفلسطيني وحكام العرب والمسلمين يتنازلون عن فلسطين لليهود، وهذا التنازل تشهد عليه الدول الكبرى وهيئة الأمم المتحدة، وتعترف حكومات البلاد الإسلامية بدولة اليهود وبأن فلسطين هي أرض اليهود ضمن حدود آمنة.
وهذا الواقع أضاف عاملاً جديداً هاماً إلى ما تتذرع به إسرائيل من الحجج على شرعية حقها في فلسطين: إنه الحق الواقعي الموجود على أرض الواقع والمعترف به من كل الأطراف، (إلا الطرف الذي يعطي الشرعية الحقة، وهو الشرع الإسلامي المنزل من الله تعالى).
هذا الواقع ليس من الممكن تغييره بقوة الحجة، وإقامة الأدلة والبراهين وحدها. هذا الواقع يمكن تغييره بالقوة العسكرية فقط.
ولكن القوة العسكرية إذا لم تكن مسبوقة ومقرونة بالقوة الفكرية، وقوة الحجة، وعمق القناعة بأن القضية قضية حق وعدل، وأن الطرف الآخر هو عدو غاصب ظالم، إذا لم تكن الناحية الفكرية موجودة فإن القوة العسكرية لا تكفي لاستنقاذ الحق ورد العدوان.
هذا الكتاب يجب أن تتبعه كتب، ولكن هذه الكتب التي تدحض الباطل وتدعم الحق لا تكفي مهما كثرت إذا لم تكون مقرونة أو متبوعة بقوة عسكرية كافية. قال تعالى: ]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ[. إعداد هذه القوة لمحاربة هذا العدو لن تكون على أيدي هؤلاء الحكام الذين سقطوا في الاستسلام وسمّوه سلماً.
«الشرعية الحقة» لا تثبت لأهلها لمجرد كونها شرعية حقة، والحق لا يتغلب على الباطل لمجرد كونه حقاً، لا بد أن يكون للشرعية سلاحٌ يذود عنها، ولا بد أن يكون مع الحق قوة مادية تنصره على الباطل. والآن وإن كانت الجولة للباطل لأن سلاحه أقوى، وأنصاره أكثر، وإعلامه التضليلي أفعل، ولكن حقنا سيغلب باطلهم عمّا قريب بإذن الله. وقديماً قيل: أما الباطل فإلى ساعة وأما الحق فإلى قيام الساعة.
قال تعالى: ]بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ[ [سورة الأنبياء: 18] وقال: ]وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[ [سورة الاسراء: 81] ¨
1994-09-26