الشرط السابع من شروط انعقاد الخليفة: (أن يكون قادراً ومن أهل الكفاية على القيام بتولي أمور المسلمين وأعبائها)
2013/12/11م
المقالات
2,654 زيارة
الشرط السابع من شروط انعقاد الخليفة:
(أن يكون قادراً ومن أهل الكفاية على القيام بتولي أمور المسلمين وأعبائها)
عمر حماد (أبو مؤمن)
الإمارة: هي القيادة والرئاسة، وتكون عامة وخاصة. أما العامة فهي رئاسة عامة لجميع الناس الذين تحت سلطانها، وهي صاحبة الأمر والنهي عليهم، وهي في الإسلام الخلافة، إذ هي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا، لإقامة أحكام الشرع عليهم وحمل دعوة الإسلام للناس. فإمارة المؤمنين أي الخلافة، فالخليفة ومعاون التفويض والوالي في ولايته وضمن صلاحياته، إمارته عامة. وأما الخاصة فهي كل إمارة لجماعة من الناس اجتمعوا على أمر معين. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَلَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» فإمارة السفر والحج والجهاد والحزب وغير ذلك تعتبر إمارة خاصة. وأخرج البيهقي عن علي قال: «لا يُصلحُ الناسَ إلا أميرٌ برّ أو فاجر».
وطاعة الأمير واجبة ما أطاع الله ورسوله، قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
وعن عبد الله بن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وفي الحديث الآخر، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة». رواه البخاري. وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ يَقُولُ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ. مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ. وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ».
فالسَّمْع وَالطَّاعَة لِإِمَامٍ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَة إِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَحَادِيث النبي صلى الله عليه وسلم الْأَمْر بِالطَّاعَةِ لِكُلِّ أَمِير وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا؛ لِأَنَّ مَحَلّ الْأَمْر بِطَاعَةِ الْأَمِير أَنْ يَكُون مُؤَمَّرًا مِنْ قِبَلِ الْإِمَام. فعن ثابت بن قطبة قال: قال عبد الله: «يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما يكرهون في الجماعة خير مما يحبون في الفرقة، وإن الله لم يخلق في هذه الدنيا شيئاً إلا جعل له نهاية ينتهي إليها، ثم ينقص ويدبر إلى يوم القيامة، وآية ذلك أن تفشو الفاقة وتقطع الأرحام حتى لا يخاف الغني إلا الفقر ، وحتى لا يجد الفقير من يعطف عليه». وذكر الحديث. وعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في مَنْشَطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثَرَةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله. قال: «إلا أن تروا كفرا بَوَاحاً، عندكم فيه من الله برهان» أخرجه الشيخان.
وللإمارة شروط انعقاد لا تنعقد الإمارة إلا بها، وهي باستقراء النصوص التي تضمنت طلباً جازماً لصفة من يتولى أمور المسلمين خاصة أو عامة نجدها سبعة شروط وهي: أن يكون: مسلماً، رجلاً، بالغاً، عاقلاً، حراً، عدلاً، قادراً ومن أهل الكفاية على القيام بتولي أمور المسلمين وأعبائها.
لا يختلف الناس على الشروط الستة الأولى، وليس التفاوت والتنافس فيها بين الناس بوارد، مع الأخذ بعين الاعتبار جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل وإمامة المفضول للأفضل، إلا أننا لا نتحدّث عن شروط الأفضلية بل عن أحد شروط الانعقاد، وتحديداً الشرط السابع منها لأن الشروط الستة الأولى ليست محل تنافس كما قلنا ولا تفاضل، وبالتالي فهي عند الناخب الذي سيختار الخليفة أو عضو مجلس الأمة أو مجلس الولاية أو غيره من الأمراء المنتخبين منضبطة، أما الشرط السابع فإنه ولا ريب محل خلاف ونزاع وتنافس بين الناس، ومجال الطعن في صاحبه وارد، فهو نسبي متفاوت.
من هنا كان أهمية تسليط الضوء، على الشرط السابع من شروط الانعقاد، وضرورة وضع معايير لعلها تكون ضوابط للأمر، تمنع أو تحد من التنازع في ذلك، وتعتبر مساعدة على حصر الترشح وحسن اختيار الناخبين لسلطانهم ونائبهم وممثلهم، أو أعضاء مجلس ولايتهم، وكل ما لهم أهلية الاختيار فيه من الأمراء، فتسهل على الناخب بالأصالة أو بالوكالة حمل أمانة الاختيار بأفضل ما يمكن أن يكون. خصوصاً ونحن نعلم عظم الأمانة وثقل المسؤولية وضعف ثقافة الانتخاب لدى المسلمين في هذا العصر، فضلاً عن تأثّر الكثير من المسلمين بثقافة الانتخاب الفاسدة المتعلقة بالنظام الغربي، وتأثر البعض مشاعرياً بخطيب مفوّه أو غنيّ مقتدر، أو حامل شهادة عالية، أو غير ذلك من المعايير غير الدقيقة. وأن كثيراً ممن يطلبها ويتولى مسؤولية رعاية شؤون الناس، ليس من أهل كفايتها.
وهذا شرط انعقاد، وهو كغيره من الشروط الستة الأولى، لاتنعقد الإمارة إلا بها. وإذا اختل شرط واحد، اختل عقد الإمارة، فهو من الأهمية بمكان عظيم. ورُبّ قائل يقول: إن أصحاب الصلاحية الذين يقبلون الترشيح هم محكمة المظالم الذين يحصرون المرشحين في ستة أشخاص ثم في شخصين هم مجلس الأمة باعتباره نائباً عن الأمة لأنه يمثلها، وهؤلاء جميعاً يعرفون معنى أن يكون قادراً ومن أهل الكفاية لإمارة المؤمنين. فنقول:
أولاً: هذا الكلام ينطبق على مبايعة خليفة للمسلمين، ومع ذلك لامانع من وضع معايير تساعد مجلس الأمة وتساعد محكمة المظالم في حصر المرشحين.
ثانياً: بالنسبة إلى أمير الخاصة، فمنهم المعيّن ومنهم المنتخب، وبالتالي فالحاجة للتبصّر في هذا الأمر وإن كانت في حال الأمير المنتخب أكثر منها في حالة المعيّن، باعتبار الثاني يعيّن من قبل أمير العامة وهو من أهل الخبرة والدراية، ومع ذلك فالنصح مطلوب شرعاً لكل مسلم والإمام بالنّصح أولى.
ثالثاً: إذا أردنا أن نجعل الأمر مبنياً على الثقة في حسن تقدير كل هؤلاء، وهم ولا شك أهل للثقة في حسن الاختيار، فما لزوم هذه الشروط أصلاً ؟!! فهم لا يقبلون للترشح إلا المسلم الرجل الحر البالغ العاقل العدل القادر، وانتهى الأمر.
فإذا كان الحديث عن شروط انعقاد، لاتنعقد الإمارة إلا بها، وباختلال واحد منها يختلّ عقد الإمارة، خاصة كانت أو عامة، فلا بدّ لها من ضبط ووضوح، ومن هنا جاءت أهمية تناول هذا الشرط والوقوف على حسن ثقافة الانتخاب، ضمن رؤية واضحة ومعايير مضبوطة ما أمكن لذلك والله المستعان.
أن يكون قادراً ومن أهل الكفاية على القيام بتولي أمور المسلمين وأعبائها:
عن ابن حجيرة الأكبر عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله استعملني، قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» رواه مسلم .
تُرى، ما الذي جعل أبا ذر رضي الله عنه ضعيفاً؟ وهل كان ضعفه جسدياً ناتجاً عن مرض أو إعاقة مثلاً؟ أو عقلياً ناتجاً عن ضعف في فهم ما يجب فهمه؟ أو كان ضعف التزام بحيث إنه يُفرّطُ في التكاليف، أو يُفرِطُ في التضحية ويحملُ غيرَه على ذلك؟ وما هي القدرة والكفاية المطلوبة؟ أهي بدنية أم عقلية؟… أما عن أبي ذر رضي الله عنه فهو أصدق الناس لهجة كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أتى بغفار وأسلم مسلمتين طائعتين مبايعتين، فلم يكن ضعفه جسدياً، ولم يكن رضي الله عنه مفرّطاً، بل كان مفرِطاً في الصدق والتضحية مما يضعف رعاية الشؤون .
ولنحاول بدايةً أن نقف على معاني هذه الكلمات عند أهل اللغة: القدرة والكفاءة والاستطاعة والعجز:
ورد في معجم لغة الفقهاء: الكفاءة في العمل: القدرة على أدائه كما يؤديه المحترفون له عادة. وفي المفردات للراغب والبصائر وغيرهما: العَجْز أصلُه التَّأَخُّر عن الشيءِ وحُصولُه عند عَجُزِ الأمر، أي مُؤخّره كما ذُكِرَ في الدُّبُر، وصار في العُرْف اسماً للقُصور عن فِعلِ الشيءِ وهو ضِدُّ القُدْرة.
واسْتطاعَ: أَطاقَ. نقله الجَوْهَرِيّ. قال ابنُ بَرّيّ: هو كما ذَكَرَ، إلاّ أَنَّ الاستطاعَةَ للإنسانِ خاصَّةً والإطاقَةَ عامَّةٌ تَقولُ: الجَمَلُ مُطيقٌ لِحِملِه ولا تقلْ: مُستَطيعٌ. فهذا الفرقُ ما بينَهُما أي القُدرَةُ على الشَّيءِ. وقيل: هي اسْتِفعالٌ من الطَّاعَةِ. وفي البصائر للمصَنِّفِ: الاستطاعَةُ أَصله الاستِطْواعُ، فلمّا أُسْقِطَتْ الواوُ جُعِلَت الهاءُ بدلاً عنها.
وقال الرَّاغِبُ: الاستطاعَةُ عندَ المُحَقِّقينَ: اسمٌ للمعاني التي بها يَتَمَكَّنُ الإنسانُ مِمّا يُريدُه من إحداثِ الفعلِ وهي أَربعَةُ أَشياءَ: بِنْيَةٌ مَخصوصَةٌ للفاعِلِ، وتَصَوُّرٌ للفِعْلِ، ومادَّةٌ قابِلَةٌ لتأْثيرِهِ، وآلَةٌ إنْ كانَ الفِعْلُ آلِيّاً كالكِتابَةِ، فإنَّ الكاتبَ يحتاجُ إلى هذه الأَربعَةِ في إيجادِه للكِتابَةِ؛ ولذلكَ يُقال : فلانٌ غيرُ مُستَطيعٍ للكتابَةِ: إذا فقدَ واحِداً من هذه الأَربَعَةِ فصاعِداً. ويُضادُّ الاستطاعة العَجْزُ، وهو أَن لا يَجِدَ أَحَدَ هذه الأَربعةِ فصاعِداً، ومَتى وَجَدَ هذه الأَربعةَ كلَّها فمُستطيعٌ مُطلَقاً، ومتى فقدَها فعاجِزٌ مُطلَقاً، ومتى وجَدَ بعضَها دونَ بعضٍ فمُستَطيعٌ من وَجهٍ عاجِزٌ من وَجهٍ. ولأَنْ يُوصَفَ بالعجزِ أَولَى.
والاستِطاعَةُ أَخَصُّ من القُدْرَةِ وقوله تعالى: ]وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[. فإنَّه يحتاجُ إلى هذه الأَربعة. وقولُه صلّى الله عليه وسلَّم: «الاستِطاعَةُ الزَّادُ والرَّاحِلَةُ» فإنَّه بيانٌ لِما يُحتاجُ إليه من الآلةِ. وخصَّه بالذِّكْرِ دونَ الآخر إذْ كانَ مَعلوماً من حيثُ العقلُ مُقتَضى الشَّرعِ أَنَّ التَّكليفَ من دونِ تلكَ الأُخَرِ لا يَصِحُّ. وقولُه تعالى: ]لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ [ فالإشارَةُ بالاستطاعَةِ ههنا إلى عدَمِ الآلةِ من المالِ والظَّهْرِ ونحوِه، وكذا قوله عزَّ وجَلَّ: ]وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ [ وقد يُقال: فلانٌ لا يستطيعُ كذا لِما يَصعُبُ عليه فعلُه. ورجل ذو قُدرة ومَقْدُرَة ومَقدِرَة، إذا كان ذا يسار. وقال جابر المغربي: من رأى أنه ضعيف فإنه يفرّط في أداء الفرائض، وإن كان عليه حق لا يقوم به، وقيل الضعف ضعف القدرة وضعف الهمة وليس بمحمود إلا أن يرى الإنسان أن زوجته ضعيفة فإنه صلاح في دينها.
والاستطاعة والقدرة والقوة والوسع والطاقة متقاربة في المعنى وفي اللغة، وعن ابن الأَعرابي: العَجْزُ نقيض الحَزْم، عَجَز عن الأَمر يَعْجِزُ وعَجِزَ عَجْزاً فيهما. وعَجَّز فلانٌ رَأْيَ فلان إِذا نسبه إِلى خلاف الحَزْم كأَنه نسبه إِلى العَجْز، ويقال أَعْجَزْتُ فلاناً إِذا أَلفَيْتَه عاجِزاً، والمَعْجِزَةُ والمَعْجَزَة العَجْزُ قال سيبويه: والعَجْزُ الضعف، تقول عَجَزْتُ عن كذا أَعْجِز، وفي حديث عمر ولا تُلِثُّوا بدار مَعْجِزَة أَي لا تقيموا ببلدة تَعْجِزُون فيها عن الاكتساب والتعيش وقيل بالثَّغْر مع العيال ، وفي الحديث كلُّ شيءٍ بِقَدَرٍ حتى العَجْزُ والكَيْسُ، قيل أَراد بالعَجْز: ترك ما يُحَبُّ فعله بالتَّسويف وهو عامّ في أُمور الدنيا والدين. قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث أبي ذر رضي الله عنه: قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا أَصْل عَظِيم فِي اِجْتِنَاب الْوِلَايَة وَلَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْف. وَهُوَ فِي حَقّ مَنْ دَخَلَ فِيهَا بِغَيْرِ أَهْلِيَّة وَلَمْ يَعْدِل فَإِنَّهُ يَنْدَم عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُ إِذَا جُوزِيَ بِالْخِزْيِ يَوْم الْقِيَامَة، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا وَعَدَلَ فِيهَا فَأَجْره عَظِيم كَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَار، وَلَكِنْ فِي الدُّخُول فِيهَا خَطَر عَظِيم، وَلِذَلِكَ اِمْتَنَعَ الْأَكَابِر مِنْهَا وَاَللَّه أَعْلَم. وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرّ إِنَّك ضَعِيف، وَإِنَّهَا أَمَانَة، وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة خِزْي وَنَدَامَة إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «يَا أَبَا ذَرّ إِنِّي أَرَاك ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبّ لَك مَا أُحِبّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اِثْنَيْنِ، وَلَا تُوَلَّيَنَّ مَال يَتِيم».
هَذَا الْحَدِيث أَصْل عَظِيم فِي اِجْتِنَاب الْوِلَايَات، لَا سِيَّمَا لِمَنْ كَانَ فِيهِ ضَعْف عَنْ الْقِيَام بِوَظَائِفِ تِلْكَ الْوِلَايَة، وَأَمَّا الْخِزْي وَالنَّدَامَة فَهُوَ حَقّ مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا، أَوْ كَانَ أَهْلًا وَلَمْ يَعْدِل فِيهَا فَيُخْزِيه اللَّه تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَيَفْضَحهُ، وَيَنْدَم عَلَى مَا فَرَّطَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَعَدَلَ فِيهَا فَلَهُ فَضْل عَظِيم، تَظَاهَرَتْ بِذلك الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة كَحَدِيثِ: «سَبْعَة يُظِلّهُمْ اللَّه» وَالْحَدِيث الْمَذْكُور هُنَا عَقِب هَذَا (إنَّ الْمُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور) وَغَيْر ذَلِكَ، وَإِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ مُنْعَقِد عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَلِكَثْرَةِ الْخَطَر فِيهَا حَذَّرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَكَذَا حَذَّرَ الْعُلَمَاء، وَامْتَنَعَ مِنْهَا خَلَائِق مِنْ السَّلَف، وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى حِين امْتَنَعُوا .
لعل من أدق ما نقلنا من أقول العلماء ما قاله الراغب عن الاستطاعة ـ وهي بمعنى القدرة ـ ولعلنا ولاشك ، ملزمون بجعل سيرته عليه الصلاة والسلام خير نبراس ومحلّ تأسٍ ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ، رضي الله عنهم .
وحين اختار الله سبحانه وتعالى لبني اسرائيل ملكاً يقاتلون وراءه في سبيل الله، اختار طالوت عليه السلام، وبيّن علامات صلاحيته لتلك القيادة، بقوله على لسان نبيهم: ]وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [ فجعل القدرة الجسمية اللازمة والعلم الواجب علامتان على أهليته للقيادة. وليس كما ظن القوم أن الأحقية التاريخية وسعة المال هما مقومات القيادة والإمارة. يقول الإمام القرطبي: قوله ]إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ[ أي اختاره وهو الحجة القاطعة، وبيَّن لهم مع ذلك تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء، فتضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلا حظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليه، لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته، وإن كانوا أشرف منتسباً….. وهذه الآية أصل فيها…. وقيل: زيادة الجسم كانت بكثرة معاني الخير والشجاعة، ولم يرد عظم الجسم، ألم ترَ إلى قول الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه
فيخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير لب
فلم يستغن بالعظم البعير
وختاماً، فإن حاولنا وضع الإصبع على معايير للقدرة والكفاية نقل:
أولاً: نضوج الشخصية الإسلامية المتميزة بما تشمل من عقلية واعية ناضجة مبدعة، ونفسية راقية مؤدبة بخلق الإسلام.
ومن نضوج وتمام هذه الشخصية العلم، وهو العلم اللازم لرعاية الشؤون وتصريف الأمور وقيادة الناس، فإذا كان الاجتهاد من شروط الأفضلية فإن من علامات القدرة والكفاية للإمارة العلم بما يلزم للعمل بها من أحكام، وإلا جهل ما وجب عليه أن يعمل، فكيف يعمل بما لا يعلم .
و تعوّد حمل المسؤولية والنظر الدائم بعين الرعاية، وهذا يتطلّب أن يكون مخالطاً لعامة الناس، يتفهّم مشاكلهم ومتطلّباتهم ويحسّ بأوجاعهم، وأن يكون مخالطاً للوسط السياسي، يعرف كيف تدار الأمور وترعى الشؤون، ولننظر لسعد بن معاذ رضي الله عنه كيف كان في قومه، وكيف تعامل مع الإسلام إذ دعي إليه.
وأن يتّصف بالصبر، والحلم، وسداد الرأي، وأن يكون مناسباً لموقعه، فإن ثابت بن أقرم والمسلمون معه حين تركوا أصحاب بدر على فضلهم، وأمّروا خالداً في مؤتة كانوا قد أحسنوا الاختيار بإقرار الوحي لحسن فعلهم.
والتروّي في اتخاذ القرار، حتى لا يندم على إبرام أمر، فإنما تكون الزلة مع العجلة، ولابد من حسن النظر في العاقبة. والحزم عند العزم، والشجاعة والجرأة، فإن التردد في مواضع الحزم مهلكة .
وسرعة إتمام الأعمال، فقد كره عليه الصلاة والسلام أن يبيت وعنده شيء من مال الصدقة، حتى يوصله لمستحقيه.
و المشاورة في كل شأن لقوله عليه الصلاة والسلام: ما شقي عبد بمشورة قط، وما سعد باستئثار رأي، وفضل الشورى والمشورة لا يخفى على عاقل.
اعتبار المسؤولية تكليف لا تشريف، فهو للأمة خادمها وراعيها، وقد روي عن أمير المؤمنين عمر أنه سأل أحد ولاته فقال: ماذا تصنع إن جاءك أحد رعيتك وقد سرق؟ قال الوالي: قطعت يده، قال عمر: فإن جاء أحد رعيتك يشكو الفقر قطعت يدك، فان الله ابتعثنا رعاة للناس لا جلادين لهم.
ثانياً: جعل مصلحة الشرع مقدمة على كل مصلحة، تطبيقه وحمل دعوته والحرص عليه، كما فعل الصدّيق رضي الله عنه في قراره محاربة المرتدين. فالمصلحة حيث كان الشرع مهما كلّف الأمر، لا ما ظنّه العقل مصلحة.
ثالثاً: صحة الجسم الطبيعية التي ليس فيها عجز عن أداء الواجبات والقيام على الأمر بما يصلحه.
ولعل هناك من يقول: هذه تعتبر من شروط الأفضلية، فنقول بل هذه مواصفات لابدّ منها حتى يكون قادراً ومن أهل الكفاية للإمارة وإلا فلا يكون كذلك. وهذه الصفات تُستشعر في سجايا من يترشح للإمارة باعتباره يتّصف بها عادة لا تكلّفاً وتقمصاً .
والله تعالى أعلى وأعلم.
الله أسأل أن يكرمنا بأمير للمؤمنين على الوجه الذي يرضيه سبحانه.q
2013-12-11