مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
2013/08/29م
المقالات
1,974 زيارة
مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
( وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) ).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
من هذه الآيات يتبين ما يلي:
-
يذكِّر الله سبحانه بني إسرائيل بالنعم التي أنعمها عليهم وكفرهم بها، فقد أنـزل الله التوراة على موسى \ ثم تابع الرسل إليهم على شريعة موسى \ كلما هلك نبي خلفه نبي إلى زمان عيسى بن مريم \. ومعنى ( وَقَفَّيْنَا ) أي أردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض كما يقفو الرجل الرجل إذا سار في إثره من ورائه، وأصله من القفا أي الخلف، وهي هنا للدلالة على تتابع الأنبياء إليهم من بعد موسى إلى زمن عيسى ).
-
ويذكّرهم الله سبحانه بإرسال عيسى \ إليهم مؤيداً ببينات واضحات معجزات تدلّ على أنه رسول من عند الله، من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بما يدخرون ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) آل عمران/آية49. وقد أيد الله سبحانه عيسى \ بروح القدس وهو جبريل \ ( وَأَيَّدْنَاهُ ) نصرناه وقويناه، ومنه أيدك الله أي قواك.
( بِرُوحِ الْقُدُسِ ) لفظ مشترك وهي تتردد هنا بمعنى جبريل – عليه السلام – أو الكـتـاب المنزل على عيسـى (الإنجيل) أو الاسـم الذي كان عيسـى يحـيـي بـه المـوتى ( الْقُدُسِ ) المطهرة و( بِرُوحِ الْقُدُسِ ) هنا جبريل – عليه السلام – وذلك بدلالة الآية الأخرى ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ) المائدة/آية110 فالآية الكريمة ذكرت روح القدس وذكرت الإنجيل، وعليه فروح القدس غير الإنجيل، وكذلك ذكر روح القدس في الآية قبل ذكر الخلق من طين وإحياء الموتى فهو ليس الاسم الذي يحيي عيسى به الموتى وبالتالي يكون روح القدس هو جبريل عليه السلام.
-
ثم بين الله سـبحـانه لؤمهم وقساوة قلوبهم حيث إنَّهم كانوا كلما أرسل إليهم نبي بغير ما يشـتـهون فلا يحقق لهم مصالحهم الدنيوية، كانوا يستكبرون عن اتّباعه ومن ثم يقتلون بعض هؤلاء الأنبياء ويكذبون بعضهم أو يقولون استهزاء إن قلوبهم قد خلقت مغطاة مقفلة ( غُلْفٌ ﯩ ) فلا تنفتح لقول هؤلاء الأنبياء، وكلّ ذلك: التكذيب والقتل والقلوب الغلف بسبب استكبارهم.
ويبين الله في آخر الآية أنهم كاذبون بزعمهم أن قلوبهم خلقت هكذا، ولكنهم استحقوا لعنة الله والطرد من رحمته لأنهم كفروا بالله باختيارهم، وكفروا برسله على علم، فهم لا يؤمنون إلا بالقليل الذي يوافق أهواءهم أي يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كما وصفهم الله، فقد أنكروا بعض ما في كتابهم من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره مما لا تهوى أنفسهم.
( فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ) (الفاء) سببية لبيان سبب لعنهم وكفرهم فهم لا يؤمنون إلا بالقليل مما أنزل عليهم. (ما) زائدة لتوكيد معنى القلة، وقد قال الله عن الإيمان بالقليل إنه كفر وهذا يعني أن من لم يؤمن بكلّ ما أنزل إلى وقته يكون كافراً لأن الله سبحانه يقول ( بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ) أي أنهم اعتبروا كفاراً لإيمانهم بالقليل وليس بكلّ ما أنزل عليهم.
وإدخال ( بَلْ ) على الكلام ينقض ما قبلها، وعليه فإن ( قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُون ) تعني تكذيباً من الله سبحانه للقائلين من اليهود ( قُلُوبُنَا غُلْفٌ ).
-
ومن أمثلة فسادهم وخبثهم يخبر الله سبحانه كيف كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم يستنصرون ( يَسْتَفْتِحُونَ ) على المشركين إذا قاتلوهم بالنبي الذي يجدون صفته في كتبهم ويتوعدونهم بأنهم سيفعلون بهم ويفعلون عند بعثته حين سيكونون من أتباعه. إلا أنهم كفروا به – صلوات الله وسلامه عليه – لما بعث بالقرآن الكريم المصدِّق لما في كتابهم من صفته ونعته وهم يعلمون علم اليقين أنه هو النبي الموعود الذي كانوا يستفتحون به ( يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) البقرة/آية146 وبذلك استحقوا لعنة الله بكفرهم ( فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ).
-
ولأنهم كفروا بالرسول الذي يعلمون صدقه ظلماً وحسداً ( بَغْيًا ) أن يكون من غيرهم فقد كانوا يريدونه منهم من نسل إسحاق، فلما وجدوه من نسل إسماعيل – عليهما السلام – أنكروا ما في التوراة عنه إذ كفروا على علم وهذا غاية السوء والعناد، وبذلك عرضـوا أنفسـهـم لعـقـوبـة مـن الله شـديـدة لا تغـادرهم أبداً ( عَذَابٌ مُهِينٌ ) أي عذاب يورث صاحبه ذلة وهواناً لا يفارقه أبداً فهو خالد فيه، وهو الذي خصّ به أهل الكفر.
وبناء عليه يكون اليهود قد عرّضوا أنفسهم لعقاب الله وبذلوها مقابل الكفر بما أنزل الله – أي القرآن – على رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يبعث منهم. فهم قد باعوا أنفسهم مقابل الكفر والعذاب المهين ولبئس هذا البيع أن يضحي المرء بنفسه ويبذلها بثمن فيه عقوبة له في نار جهنم خالداً مخلداً، فالبيع الرابح هو الذي تبذل النفس فيه مقابل رضوان الله وجنات فيها نعيم مقيم، أما بيعهم فهو بيع خاسر مهين ( بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ).
( اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ) أي باعوا أنفسهم، شرى واشترى تأتي بمعنى البيع والابتياع والقرينة هي التي تعين المعنى، فإذا أسندت هذه الأفعال إلى النفس كأن يقال: “شرى نفسه أو اشترى نفسه” أي باعها لأنه هو المالك لنفسه، فلا يصـحّ معـهـا ابتـيـاعها، وأما إذا أسندت هذه الأفعال إلى غير مالكها كأن يقال: “اشترى زيد من عمرو نفسه” أي نفس عمرو فهي تعني ابتاعها منه، وعلى نحو هذا قوله سبحانه: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه ) البقرة/آية207 أي يبيع نفسه في سبيل الله، وقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة ) التوبة/آية111 أي ابتاعها منهم مقابل ثمن عظيم وهو إدخالهم الجنة.
( فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ) أي رجعوا وانصرفوا نتيجة فعلتهم تلك بغضب على غضب، أي بغضب شـديد شديد: غضب على كفرهم بآيات الله في زمن موسى – عليه السلام – وكفرهم بعيسى – عليه السلام – وكذلك كفرهم برسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم على علم منهم بصدقه، فصحبهم الغضب الشديد في ذهابهم وإيابهم.
-
ثم يبين الله سبحانه كذبهم وتناقضهم فيما يقولون، فإنهم إن سئلوا لماذا لم تؤمنوا بما أنزل الله – أي بالقرآن الكريم – قالوا إننا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا من التوراة ولا يؤمنون بكتاب بعده، علما بأن هذا القرآن مصدق للمذكور في كتابهم حول صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم على علم بذلك إلا أنهم يعاندون ويكفرون. ويقيم الله الحجة عليهم ويظهر كذبهم فيما يقولون ( نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ) فهم لم يؤمنوا بما أنزل عليهم حيث قتلوا أنبياء الله وهو محرم قتلهم في التوراة التي أنزلت عليهم والتي زعموا أنهم يؤمنون بها ( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ).
وفي هذا بيان من الله سبحانه أن اليهود الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطى سلفهم سائرون، فهم غير مؤمنين لا بالذي أنزل عليهم كما زعموا ولا بالكتب وراءه المنزلة من عند الله (الإنجيل والقرآن الكريم).
2013-08-29