دولة الخلافة وما يسمى بالأقليات (4): التشريع الإسلامي وأهل الذمة
2013/08/29م
المقالات
2,619 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
دولة الخلافة وما يسمى بالأقليات (4):
التشريع الإسلامي وأهل الذمة
ياسين بن علي
يقول بعض الناس بأن الإسلام ميَّـز في أحكامه بين المسلمين وغير المسلمين وأعطى للمسلمين حقوقاً لم تعطَ لغيرهم، وخصوصاً في مجال المشاركة السياسية، فلم يجز لغير المسلم مثلاً أن يكون حاكماً، وأوجب الجزية على غير المسلم بينما لم يوجبها على المسلم، واشترط في الأحزاب السياسية أن تقوم على أساس الإسلام، وهكذا فإن الإسلام يميز بين الرعايا فيعطي قوماً ويمنع آخرين، يعطي المسلمين ويمنع غير المسلمين، فكيف يُدَّعى بأن الإسلام لا يميِّز بين الرعية؟
وللإجابة على هذه القول ينبغي أن نقف على واقع التشريع الإسلامي:
لقد نظر التشريع الإسلامي إلى البشر بوصفهم الإنساني، وجعل الخطاب موجهاً إلى الإنسان، وقد عرَّف علماء الأصول الحكم الشرعي بأنه: (خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد) فالتكليف متعلق بالعبد، ولذلك صرح علماء الأصول بأن الكافر مكلف ابتداء بأحكام الإسلام لأنه مشمول بها وإن كان لا يلزم بها جميعها في الدولة. فقوله تعالى في سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)) موجه إلى الناس مسلمهم وكافرهم، وذكرهم وأنثاهم، وأبيضهم وأسودهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤَدِّيَه» (رواه أحمد) عام يشمل جميع الناس. والتشريع الإسلامي يعالج مشاكل الناس باعتبارها مشاكل إنسانية فقط لا بأي اعتبار آخر، فلا ينظر إلى المشكلة من ناحية اقتصادية مثلاً، بل ينظر إليها على أنها مشكلة إنسانية تحتاج إلى وضع معالجة لها فيقوم بعلاجها على النحو المناسب. وعليه فإن التشريع الإسلامي لا يعرف التمييز في أحكامه مطلقاً، غير أن ذلك لا يعني أنه يجعل للناس جميعهم حكماً واحداً في كل قضية، بل يراعي أوصافاً معينة عند التشريع تلائم واقع القضية المراد علاجها. فمثلاً حين نظم علاقة الرجل بالمرأة لاحظ في أحكامه وصفي الذكورة والأنوثة لتعلقهما المباشر بهذه المسألة، فجاء بأحكام تتعلق بالمرأة تختلف عن أحكام الرجل بهذا الاعتبار، فجعل عورة الرجل تختلف عن عورة المرأة، وخصها بأحكام الحيض والنفاس والولادة إذ طبيعة بنيتها الجسدية تقتضي ذلك، وجعل الأصل في المرأة أن تكون أماً وربة بيت وعرضاً يجب أن يُصان إذ طبيعة استعداداتها الجسدية والنفسية المختلفة عن الرجل تقتضي ذلك. وفي المقابل أوجب على الرجل القيام على أمر المرأة والعيال ورعاية شؤونهم وأوجب عليه النفقة لهم، ولما قسم الميراث أعطى أحياناً للذكر مثل حظ الأنثيين مراعياً ما أوجبه على الذكر من النفقة على المرأة. فهذا الاختلاف في الأحكام لا يعد تمييزاً بين الناس بل وضع للأمور في موضعها وعلاج صحيح للمسألة، ومثلاً أوجب الإسلام على الرجل الجهاد وصلاة الجمعة بينما لم يوجبهما على المرأة، فلا يقال هنا بأن الإسلام قام بعملية تمييز لحساب المرأة على الرجل، إذ طبيعة جسديهما وطبيعة الأعمال التي أنيطت بهما في الشرع تقتضي هذا الاختلاف في الأحكام. ولما أوجب الزكاة على الغني دون الفقير، وأوجب الضريبة عند الحاجة على أغنياء المسلمين دون فقرائهم، لم يميز الفقراء على حساب الأغنياء، إذ أمر إخراج المال مرتبط بامتلاكه والقدرة على إخراجه، فلا يصح أن يفرض إخراج المال على غير مالكه كما يفرض على المالك. والإسلام حين جعل العقل مناط التكليف، وجعل البلوغ والقدرة من شرائطه، فجعل للمجنون والصغير وغير القادر أحكاماً تختلف عن أحكام العاقل والبالغ والقادر، لم يقم بعملية تمييز لصالح هؤلاء على أولئك، ولا لأولئك على هؤلاء، بل نظر إلى هذه الأوصاف المؤثرة فرتب عليها اختلافاً في الأحكام؛ لأنها تقتضي هذا الاختلاف، إذ لا يصح أن أسوي بين العاقل وغير العاقل في التكاليف، أو أن أكلف الإنسان فوق طاقته.
وهذا عينه ما فعله التشريع الإسلامي عندما فرَّق في الأحكام بناء على وصفي الإسلام والكفر، فالمدقق في الأحكام التي حصل فيها اختلاف بين المسلم والكافر يتبين له أن هذا الاختلاف اقتضته طبيعة المسألة وكان لا بد منه ولكنه ليس تمييزاً، ولنأخذ على ذلك بعض الأمثلة:
لقد اشترط الإسلام في الحاكم سواء أكان خليفة أم معاون تفويض أم والياً أم عاملاً، وفي القاضي أن يكون مسلماً ولم يجز شغل هذه المناصب من غير مسلم؛ وذلك لأن الدولة الإسلامية تنفذ الشرع الإسلامي في الداخل وتحمل رسالة الإسلام إلى العالم الخارجي بالدعوة والجهاد، فعمل الحاكم في الدولة الإسلامية يدور بين تطبيق أحكام الإسلام ورعاية الشؤون وفق الأحكام الشرعية وبين حمل الدعوة الإسلامية إلى غير المسلمين في الخارج، وهذه الأعمال تقتضي طبيعتها أن يكون القائم بها مؤمناً بالإسلام عقيدة وشريعة، إذ لا يتصور أن يطبق الإسلام ويحمله دعوة للعالمين من لا يؤمن به. وقل مثل ذلك في القاضي، فإن القاضي يفصل الخصومات بين الناس حسب أحكام الإسلام وينطق بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام، فلا يتصور أن يقوم بمثل هذا العمل من لا يؤمن بالإسلام، ألا ترى أنه لما كان القاضي الذي يقضي بين غير المسلمين في أمور زواجهم وطلاقهم وفق أحكام دينهم، لا يقضي حسب أحكام الإسلام فإنه جاز أن يكون غير مسلم، بل حرم أن يكون مسلماً. يقول الأستاذ محمد أسد في كتابه (منهاج الإسلام في الحكم): «إننا يجب ألا نتعامى عن الحقائق، فنحن لا نتوقع من شخص غير مسلم مهما كان نزيها مخلصاً وفياً محباً لبلاده متفانياً في خدمة مواطنيه أن يعمل من صميم فؤاده لتحقيق الأهداف الأيديولوجية للإسلام، وذلك بسبب عوامل نفسية محضة لا نستطيع أن نتجاهلها، إنني أذهب إلى حد القول إنه ليس من الإنصاف أن نطلب منه ذلك، ليس هناك في الوجود نظام أيديولوجي، سواء أقام على أساس الدين أم على غير ذلك من الأسس الفكرية، يمكن أن يرضى بأن يضع مقاليد أموره في يد شخص لا يعتنق الفكرة التي يقوم عليها هذا النظام. هل يقع في خيال أحد – على سبيل المثال- أن يُسند في الاتحاد السوفياتي منصب سياسي مهم – دع عنك منصب رئاسة الدولة أو الحكومة – إلى شخص لا يؤمن بالشيوعية عقيدة ونظاماً؟ بالطبع لا. وهذا أمر منطقي لأنه ما دامت الفكرة الشيوعية هي القاعدة التي يقوم عليها النظام السياسي، فإن الأشخاص الذين يؤمنون بأهداف هذه الفكرة هم وحدهم الذين يمكن الاعتماد عليهم في قيادة الشعب نحو تحقيق غاياتها السياسية والإدارية». بل تذهب كثير من النظم العلمانية في الغرب أبعد مما ذكر، إذ تمنع الذي لا يؤمن بالمبادئ العلمانية الديمقراطية من أن يكون موظفاً من موظفي الدولة كأن يكون معلماً أو أستاذاً جامعياً، وتشترط على الموظفين القبول بالمبادئ الديمقراطية وحفظها، وتلزمهم أن يقسموا على ذلك من أجل القبول بتوظيفهم. بينما يقصر الشرع اشتراط الإسلام في المناصب التي تقضي طبيعتها بأن يتولاها من يؤمن بالإسلام. أما الوظائف الأخرى فلا يشترط في موظفي الدولة أن يكونوا مسلمين، بل يجوز لأهل الذمة شغل هذه الوظائف مع أنهم لا يؤمنون بالإسلام وهو الأساس الذي قامت عليه الدولة.
واشترط الشرع كذلك في الأحزاب السياسية أن تكون قائمة على أساس العقيدة الإسلامية، وأجاز تعدد هذه الأحزاب تبعاً لاختلافها في الاجتهادات، وبالنظر في واقع الأحزاب يتبين أنها تنظيمات يؤمن أفرادها بفكرة يريدون تطبيقها في واقع الحياة، ولما كانت الدولة الإسلامية قائمة على الإسلام وتطبق أحكام الشرع، فإنه من غير المتصور القبول بقيام أحزاب تطرح برامج ومشاريع غير قائمة على الإسلام وتسعى إلى تطبيقها لأن هذا يعني بالضرورة هدم الدولة وهدم الأسس التي قامت عليها. وتبعاً لذلك فإنه لا يتصور أن يقوم على أمر الأحزاب أو يشارك فيها من لا يؤمن بالإسلام عقيدة وشريعة؛ لأن هذا يتناقض مع دينه وقناعاته. وفي البلاد الغربية العلمانية يشترطون في الأحزاب حتى يُعترف بها كأحزاب سياسية رسمية، وتستطيع المشاركة في الحياة السياسية، يشترطون أن تقوم على أسس علمانية ديمقراطية، ويمنعون قيام أحزاب على غير هذه الأسس. وفوق ذلك فإنها تضع كل شخص لا يؤمن بالديمقراطية وينشط فكرياً أو سياسياً تحت المراقبة والمساءلة وتضيق عليه في أبواب الرزق.
وأوجب الشرع الجهاد على الرجال المسلمين ولم يوجبه على أهل الذمة، إذ الجهاد هو استفراغ الوسع في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، ويدخل فيه القتال لحماية الديار، ولما كان أهل الذمة كفاراً فإنه لا يستقيم أن يكلفوا بالجهاد لإعلاء كلمة الإسلام؛ لأن هذا لا ينسجم مع دينهم وعقيدتهم، وقد يقودهم إلى قتال أبناء دينهم من أعداء المسلمين. ومع أن الإسلام لم يوجب عليهم الجهاد فإنه أجاز لهم أن يقاتلوا في صفوف الجيش الإسلامي إن قرروا هم ذلك بمحض إرادتهم دون إكراه، خصوصاً إذا كان القتال من أجل حماية الديار وحفظ الأوطان. ولما كان المسلم مأموراً بالجهاد وتقديم ماله ونفسه في سبيل الله مع ما ينبني على ذلك من حماية الديار ورعايا الدولة الإسلامية ومنهم أهل الذمة والذب عنهم ولم يكن الذمي ملزماً بالجهاد، فقد فرض الإسلام على الذمي مالاً يؤديه القادر من الرجال مرة في السنة مقابل توفير الحماية له ولعياله، ولم يوجب على المسلم دفع هذه الضريبة المسماة جزية إذ المسلم ملزم بأكثر منها بكثير بسبب إلزامه بالجهاد.
وهكذا لو تتبعنا الأحكام الشرعية التي اشتُرط فيها الإسلام لوجدناها جميعها من هذا الباب، بل هناك كثير من الأحكام الشرعية التي أعطي بمقتضاها أهل الذمة ما لم يعطَ المسلمون من الحقوق، ولكن ذلك أيضاً ليس من قبيل تمييز أهل الذمة على حساب المسلمين، بل هو من باب مراعاة وصفي الإسلام والكفر لمساسهما بالمسألة، فقد أوجب الشرع على المسلم الزكاة ولم يوجبها على الذمي؛ لأنها عبادة ولا يصح إلزام الذمي بالعبادة، وأوجب على المسلمين دفع ضرائب عند الحاجة إليها ولم يوجبها على أهل الذمة اكتفاء منه بما يجب عليهم من الجزية، وأجاز للذمي أكل الخنزير وشرب الخمر وحرم ذلك على المسلم ورتب عليه عقوبة. وغير ذلك من الأحكام التي يبدو عند عدم التعمق في فهم واقعها أنها تعطي حقوقاً للذمي أكثر من المسلم، ولكنها في الحقيقة لا تميز بين الناس بل تعطي الحقوق تبعاً لأوصاف لها أثر في إعطاء الحق. وهذا ليس مقتصراً على وصفي الكفر والإسلام، بل هناك أوصاف كثيرة رتب الشرع عليها اختلافاً في الأحكام، فالمسلم غير العدل لا يجوز أن يكون حاكماً أو قاضياً لأن من شروط الولاية والقضاء العدالة إذ لا يقومان إلا بها، فمن فقدها فقد بذلك حقه فيهما، ولكن هذا ليس تمييزاً بين الناس.
فالإسلام لا يفرِّق في الحقوق حيث لا مدخل لوصفي الإسلام والكفر ولغيرهما من الأوصاف، وحيث تكون إنسانية الشخص هي مدار البحث، فقد جعل الإسلام حق العيش الكريم وتوفير المسكن والملبس والمأكل والعمل والعلاج، وحسن المعاملة والتسوية أمام القضاء وفي رعاية الشؤون وكل ما هو من هذا القبيل، جعل ذلك كله لرعايا الدولة كلهم: مسلمين وغير مسلمين، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً.
وبمناسبة الحديث عن التمييز، فإن فكرة التمييز في الغرب وفي الدول العلمانية فكرة ضبابية غير محددة، وتستعمل كثيراً في غير موضعها، إذ لا يمكن أن يكون رفض التمييز يعني التسوية بين الأفراد في كل شيء وعلى كل صعيد، فإن ذلك إضافة إلى كونه خطأً من ناحية فكرية، فهو غير ممكن واقعاً. فلا يصح التسوية بين العالم والجاهل في باب العلم والفضل، ولا بين الصغير والكبير في باب الاحترام والتقدير وخبرة الحياة، ولا بين المتخصص وغير المتخصص في باب البحث. ولا بين الذكر والأنثى في باب الحضانة ورعاية الأطفال والقوامة على الأسرة، أو في باب القتال والجهاد، بل التسوية تكون في الإنسانية؛ لأن هذه الناحية هي التي لا يجوز التفريق فيها. ولأن الغرب لم يستطع ضبط هذه المسألة فقد أدت المطالبة مثلاً بعدم التمييز بين الرجل المرأة عنده إلى مصائب في المجتمع وتدمير الأسرة؛ لأنه ظن أن عدم التمييز يعني جعل الرجل كالمرأة والمرأة كالرجل، وهذا مستحيل لأنهما مختلفان. فالتسوية بينهما من كل وجه ظلم لهما وهدر لما ميز الله به كل واحد منهما عن الآخر. أما من حيث إنسانيتهما فإنهما ولا شك سواء، ولا يجوز التمييز بينهما.
2013-08-29