لمعرفة ما يجري في الخليج، وما يمكن أن تؤول إليه الأزمة الدولية الراهنة فيه، والأطراف الدولية في هذه الأزمة، فإنه لا بد من الرجوع إلى جذور الأزمة تاريخياً، وتطوراتها وربط ذلك كله بالسياسة الدولية والترتيبات الإقليمية.
لقد وضعت بريطانيا يدها قبل نهاية القرن التاسع عشر على معظم منطقة الخليج، ومنطقة البحر الأحمر، وجعلت منها مستعمرات ومحميات ومناطق نفوذ بريطانية من اجل حماية درة التاج البريطاني، وطرق مواصلاتها معها، ألا وهي مستعمرة الهند. وبعد أن تبين ما تحويه منطقة الخليج من مخزون نفطي ازداد طمع الدول الكبرى فيها، وازداد تمسك بريطانيا بها فزادت من سبل حمايتها لها، بإنشاء القواعد العسكرية، هنا وهناك.
ولما اعترى بريطانيا الضعف والهزال بعد الحرب العالمية الثانية، واحتلت أميركا مركز الدولة الأولى في العالم، تمارس دور الشرطي العالمي، أخذت أميركا تعمل على وراثة المستعمرات الأوروبية في كل مكان، ومنها منطقة الخليج. وعندما أعلنت بريطانيا سنة 1968 أنها حددت سنة 1971 موعداً لانسحابها عسكرياً من شرق السويس، طلب كيسنجر من مجلس الأمن القومي الأميركي وضع دراسة حول المنطقة وأمنها، وكيفية ملء الفراغ فيها. وقد بيّنت الدراسة الموضوعة أن إيران قوية ومرتبطة بأميركا يمكن أن تحقق الأهداف الأميركية في تلك المنطقة، وأن تحافظ على مصالح أميركا فيها. وبناء على ذلك فقد جدّت أميركا في السير في أخذ إيران من بريطانيا. ومما زاد من حاجة أميركا لذلك أن بريطانيا نفسها جعلت من إيران شرطياً للخليج تملأ الفراغ، وترعى المصالح البريطانية فيه، وتقف في وجه محاولات أميركا النفاذ إليه.
ولما نجحت أميركا سنة 1979 في الإطاحة بحكم الشاه، وأخذ إيران من بريطانيا، عهدت إليها بمهمة أخذ الخليج لأميركا، وممارسة دور الشرطي فيه، فأخذت إيران تعمل على تصدير الثورة الإسلامية والاضطراب إلى دول الخليج للإطاحة بأنظمة الحكم فيها، ولكنها فشلت في ذلك فشلاً تاماً.
ورداً على هذا عهدت بريطانيا إلى العراق ـ القطب الأخر في المنطقة ـ بمهمة حماية الخليج، وحماية مصالح بريطانيا فيه. ومن هنا كان الصراع السياسي، بل والدموي بين إيران والعراق أمراً حتمياً. لذلك فإنه لم يكن من المستغرب أن يتفجر الصراع السياسي بين الدولتين ولما يمضي وقت طويل على نظام الحكم الجديد في إيران، ذلك الصراع الذي لم يتأخر في التحول إلى حرب دموية مدمرة، امتدت ثماني سنوات. لكن إيران لم تحقق شيئاً في تلك الحرب لاستماتة العراق في الوقوف في وجهها، ولوقوف الدول الأوروبية في السر والعلن خلف العراق للذود عن الخليج من أميركا. فالحرب العراقية الإيرانية لم تكن من أجل الحدود، ولا من أجل اقتسام شط العرب، وإنما كانت حرباً من أجل الهيمنة والنفوذ، وكانت تمثل أزمة دولية بين أطراف المعسكر الغربي الرأسمالي، وإن كانت أدواتها الدول الإقليمية.
أدركت أميركا بعد ثماني سنوات من الخراب والدمار أن لا سبيل لها لأخذ الخليج مهما استمرت تلك الحرب، وأن استمرار الحرب قد يطيح بنظام الحكم في إيران، وأن لا سبيل لها للهيمنة على المنطقة إلا إذا أخذت العراق، فأوعزت لإيران بإيقاف الحرب، ثم أخذت أميركا تتحرش بالعراق بغية عزله دولياً لتحجيمه، وتحجيم دوره في المنطقة العربية، ثم الإطاحة بنظام الحكم فيه. ومما زاد من إصرار أميركا على ذلك أن بريطانيا قد دفعت بالعراق، الذي كانت كفته راجحة في الحرب إلى العمل على قيادة المنطقة العربية على حساب مصالح أميركا، وحساب عملائها، فنشبت أزمة سياسية بين أميركا والعراق.
وأهمية الخليج لا تكمن من بتروله كثروة هائلة فحسب، وإنما تكمن أيضاً في ذلك البترول كأداة تحكم في أوروبا واليابان. فالخليج يمثل شريان الحياة لبريطانيا، ويوقر الطاقة لأوروبا واليابان من غير عوائق، وبأسعار معقولة، مما يساهم مساهمة فعالة في ازدهارها الاقتصادي.
ومنذ بداية السبعينات أخذت أوروبا تشق عصا الطاعة علناً على أميركا، ووصلت إلى درجة من القوة الاقتصادية تمكنها من مزاحمة أميركا. كما أصبحت البابان قوة اقتصادية تنافس أميركا في الأسواق العالمية، وفي أميركا نفسها. ولما فشلت أميركا في حلّ التجمع الاقتصادي الأوروبي، وفشلت في فتحه أمام اقتصادها، وفشلت في فتح الأسواق اليابانية، فكرت في قطع شرايين الحياة عن بريطانيا، وضرب أوروبا واليابان ضربة قاصمة في الخليج. فهي إن أخذت الخليج، وسيطرت على بتروله أصبح بمقدورها أن تعطي وتمنع، وأن تصل وتقطع، فتضع أوروبا واليابان تحت رحمتها، وتخضعها لمشيئتها. ولهذا فإن الخليج يمثل فعلاً مصلحة حيوية لأميركا، كدولة تسعى للهيمنة على العالم، لقوة تأثيره في الدول الأخرى، وأن نظرة أميركا للخليج ليست نظرة عابرة، وإنما هي نظرة استراتيجية. أما الدول الأوروبية فترى أن مصيرها السياسي والاقتصادي مرتبط بدرجة كبيرة بمصير الخليج، فنظرتها للخليج نظرة مصير.
يضاف إلى ذلك أن أميركا كانت قد خرجت من عزلتها بعد الحرب العالمية الثانية بحجة محاربة الشيوعية، والوقوف في وجه أطماع الاتحاد السوفياتي في السيطرة على العالم، فعمدت تحت ذلك الستار إلى وراثة المستعمرات الأوروبية، وإلى ممارسة دور الشرطي العالمي. لذلك كان من الطبيعي أن يؤدي اندحار الشيوعية، وانكماش الاتحاد السوفياتي على المسرح الدولية إلى نقلة، أو إلى المطالبة بنقلة في السياسة الخارجية الأميركية. فأخذت الأصوات ترتفع داخل أميركا وخارجها داعية إلى تقليص دور أميركا العالمي، وإلى عودة أميركا إلى القارة الأميركية، وأخذ الشعب الأميركي يطالب بتقليص التزامات أميركا الخارجية، وأن تركز دولته على الشؤون الداخلية، لأن الرأسمالية قد انتصرت، والشيوعية قد اندحرت، وأن زمن التضحية، والمطالبة بالتضحية قد انتهى.
ولكن محاربة الشيوعية كانت الذريعة لخروج أميركا من عزلتها ولم تكن السبب، وأن ساسة أميركا لم يخرجوا أميركا من عزلتها ليعيدوها إليها مختارين. فالسعي للهيمنة على العالم، والتحكم في مصائره هو السبب الحقيقي لخروج أميركا من عزلتها، ولن تتراجع أميركا عن ذلك ما لم تجبر إجباراً. ولذلك فليس غريباً أن تأخذ أميركا في التفتيش عن ذرائع جديدة تحقن الشعب الأميركي بها حقناً للإبقاء على دورها العالمي، وأن يأخذ ساستها في طواف العالم دون كيشوت، بحثاً عن خصوم للحرية والديمقراطية، وعن أعداء يهددون مصالح أميركا الحيوية التي تمس مشاعر الشعب الأميركي، مما يظهر الحاجة الماسّة للإبقاء على دور أميركا العالمي من غير تغيير، بل إلى تعميقه وتوسيعه.
كما أدى اندحار الشيوعية، وانحسار دور الاتحاد السوفياتي إلى تمدّد دول أوروبا وعلى رأسها بريطانيا لملء الفراغ، وإلى العودة إلى بعض مراكز نفوذها التقليدية. فعمدت بريطانيا إلى إعادة ترتيب أماكن تواجدها في البلاد العربية، ومنها منطقة الخليج، بعد أن لاحظت تشققاً في بعضها، وتسرباً لشيء من النفوذ الأميركي إليها، ولتجعل منها تكتلات أقوى، أي إعادة الحياة لبيت كان يبدو مهجوراً، وإعادة ترتيب ذلك البيت. فدفعت بصدام حسين لاجتياح الكويت حلاً لمشكلة العراق المالية، ليمارس دوره القيادي في المنطقة العربية، حلاً لمشكلة الكويت، التي أخذ نظام الحكم فيها يتضعضع.
وجدت الإدارة الأميركية في هذا العمل فرصة ذهبية لحل مشكلتها مع الشعب الأميركي، ولتوجيه ضربة قاضية للعراق ونظامه، ولدوره في الخليج، وفي المنطقة العربية، أملاً في فتح الطريق إلى الخليج. فجيشت الجيوش، وحشدت الحشود العسكرية في منقطة الخليج، وسخرت النظام الدولي والإقليمي لعملها هذا، وجرّت العالم إلى شفا حرب بدت للناظر وكأنها ستنفجر بضغطة على زناد، ولو من قبيل الخطأ. وعمل أميركا هذا يحمل جميع مقومات النجاح السياسي من الوجهة النظرية، لأنه انطلق تحت ستار الشرعية المحلية في أميركا، والشرعية الدولية والإقليمية، فحشدت أميركا الرأي العالم الأميركي والعالمي، بل والدولي يضاف إلى ذلك أن أميركا هي الدولة الأولى في العالم، ولا ينقصها القوة العسكرية أو المال.
ومع ذلك كله فإن الحرب مستبعدة، واحتمالات نجاح أميركا سياسياً غير مضمونه. فالحروب لا تنشب بضغطة خاطئة على زناد، وإنما بقرار سياسي.
أما استبعاد الحرب، واستبعاد القرار السياسي لخوضها من قبل أميركا ابتداء فللأسباب التالية:
أولاً: لا يعقل أن تقدم أميركا على إشعال حرب بحجم حرب فيتنام، إن لم تكن أوسع، في وقت تحاول أميركا فيها شفاء الشعب الأميركي من آخر أعراض حرب فيتنام، تلك الأعراض التي شغلت أميركا لعقدين من الزمن.
ثانياً: إن العراق ليس غرينادا ولا بنما يجتاح بنزهة من قبل قوات المارينز، ولا بحرب خاطفة. فالعراق دولة قوية مدججة بالسلاح الفتاك وذات خبرة عريضة في القتال وفنونه. يضاف إلى ذلك أن أميركا قد تجد نفسها مضطرة لخوض خرب على عدة جبهات مع العراق واليمن والأردن بل وشعوب المنطقة الإسلامية. وهذا يقتضي حشد مئات الآلاف من الأميركيين في حرب طويلة.
ثالثاً: لقد استنجدت أميركا بعملائها في العالم الإسلامي للتغطية على إنزال قواتها في السعودية. وهذا العمل، وإن كان يصلح في نظر أميركا للتغطية على عملية الإنزال، فإنه لا يصلح للتغطية على حرب تشعلها، بل على العكس فإنه يشكل كابحاً لها عن إشعال الحرب، لأن إشعال الحرب يعني أن تخسر أميركا كل شيء في المنطقة، حتى ولو قدر لها أن تنتصر عسكرياً.
رابعاً: تعمد أميركا بعد حرب فيتنام، وكما جاء في مبدأ نيكسون، إلى عدم إشراك قواتها العسكرية في النزاعات الإقليمية، وتعتمد عوضاً عن ذلك على المنظمات الإقليمية، وعلى عملائها من القوى المؤثرة. فهي تعتمد في البلاد العربية على مصر، وتعتمد في منطقة الخليج على إيران.
أما أنه ليس من اليسير نجاح أميركا سياسياً في أخذ العراق، وأخذ الخليج، فلأن أوروبا لن تسمح ـ ما دام عندها القدرة ـ بسويس ثانية، تدفع بأوروبا للجثو على ركبها أمام أميركا، وأن أوروبا ستحارب بشتى الأساليب للدفاع عن نفسها في الخليج، بل وللانتقام من سويس 56. وتدرك أميركا أن أوروبا وإن سارت معها ابتداء إلا أنها لن تذهب بعيداً في سيرها معها، وإن سيرها مع أميركا إنما هو لوضع العراقيل أمام أميركا، ولشل قدرتها على العمل. وستعمل الدول الأوروبية على شرذمة الأزمة إلى قضايا جزئية، وإلى حرفها عن مسارها، وستعمل على نزع المظلة الدولية من على أميركا لخروج أميركا نفسها على القانون الدولي، كما ستعمل على تشقيق المقاطعة الاقتصادية والالتفاف عليها.
وستتكفل الأيام بنزع الشرعية المحلية في أميركا نفسها عندما يسيطر القلق النفسي على الشعب الأميركي، وتراوده خواطر فيتنام، فينقلب على حكومته¨