إننا حينما نمعن الفكر في هذا الكون، ونلاحظ وحدة نظامه من أبعد كوكب فيه عنا إلى أصغر ذرة من ذراته، ونلاحظ تسياره البديع دون خلل أو اضطراب، أو فساد في أرضه وسمائه، في حركة نجومه وكواكبه، في وحدة نظام مجراته، في كل جامد أو متحرك، في كل نامٍ أو ذي حياة، في ترابط بعضه ببعضه ترابطاً تاماً، مع أن كل جزء فيه يعمل في نطاقه ومجاله، دون أن يكون عمله هذا سبباً في فساد عمل أي جزء آخر من الأجزاء التي لا حصر لها في هذا الكون الكبير. فدراسة ظواهر الكون دلت على أن هذا الكون خاضع لقوانين واحدة، وأنه سائر ضمن خطط من الخلق لا تفاوت فيها. إن القوانين السائدة في الأرض هي القوانين السائدة في السماء. ثم إن الأرض وما فيها جزء مرتبط مع سائر ما في الكون، فهي خاضعة لنظام شامل مسيطر على الكون كله.
وهذا يدل على أن الخالق المهيمن على الكون كله واحد، ولو أنه كان متعدداً لتباينت قوانين الكون ولتعارضت ولانتهى الأمر بها إلى التصادم والفساد في الكون.
لذلك نعلم جازمين أن المهيمن على الكون كله، والمنظم له، والموجه لكل جزء فيه، واحد لا يشركه في أمره شريك. وهذا المعنى هو ما نسميه «بصفة الوحدانية» أو «توحيد الربوبية» أي: أن الله واحد لا شريط له في الخلق والتدبير والملك، وغير ذلك من الصفات التي يدل عليها اسم الرب.
وقد وصف الله نفسه في القرآن الكريم بأنه واحد في ربوبيته لا شريك له. فقال تعالى: ]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[ وقال تعالى، يعلّم رسوله ـ أن يقول للمشركين في سورة (صَ): ]قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[.
كما أقام سبحانه وتعالى الدليل العقلي على وحدانية في ربوبيته فقال تعالى في سورة الأنبياء: ]أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ[ وفي هذا النص دليل على نفي الآلهة المشاركة في الكون الواحد.
وقال تعالى في سورة الإسراء: ]قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا[ وفي هذا النص دليل على نفي الآلهة في الأرض دون إله العرش.
وقال تعالى في سورة المؤمنون: ]مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ[. وفي هذا النص دليل على نفي الآلهة المتعددة في أكوان متعددة.
ومضمون الدليل في الآية الأولى (آية الأنبياء) بعد ما قررت الآية السابقة لها فكرة اتخاذ المشركين لآلهة من الأرض ينسبون إليهم أحياء الأموات (هم ينشرون)-: أنه لو تعددت الآلهة في الكون لفسد نظام السماوات والأرض، ولاختل تماسكهما القائم على وحدة نظام ووحدة تسيير. وهذا من الأمور البديهية المشاهدة لأن الإرادات الحرة إذا توجهت على مخلوق واحد فلا بد أن تتعارض، ومتى تعارضت تنازعت، ومتى تنازعت فسد نظام المخلوق، والكون كله مخلوق مترابط بوحدة نظام وتسيير ـ كما هو مشاهد ـ فلو كان آلهة أرباب غير الله لفسد نظامه واختل وجوده وبقاؤه. وقد تضمنت هذه الآية في استدلالها برهاناً قاطعاً على نفي فكرة تعدد الآلهة الأرباب، وهذا البرهان الذي أوردته هو ما يسمى عند علماء التوحيد (برهان التمانع). وبهذا يثبت لدينا عقلياً: أن الرب الخالق المنعم الرازق، المحيي المميت الذي بيده الخلق والأمر والنفع والضر والخير والشر وهو الذي يبتلي ثم يحاسب ثم يجازي ـ واحد لا شريك له.
ومضمون الدليل في الآية الثانية (آية الإسراء): أنه لو كان مع الله آلهة تحكم وتتصرف، وتحيي وتميت، وترزق وتشفي، ومن أجل ذلك تستحق أن تعبد ـ كما يقول المشركين ـ للزم أن تتخذ هذه الآلهة سبيلاً لمنافسة ومنازعة ومقاتلة إله العرش ـ الذي يعترفون به رباً خالقاً ولا ينكرون وجوده وقدرته ولكنهم يشركون معه آلهة أخرى ـ لأن الربوبية المتضمنة لكمال التصرف وكمال القدرة، لا تقبل الخضوع والاستسلام لربوبية فوقها، أما وأنها لم تتخذ هذا السبيل لإله العرش، ورضيت بضعفها وآلهيتها المزعومة في نطاق الأرض، فإن ضعفها هذا من أكبر الأدلة على أنها مخلوقة كسائر المخلوقات، وقد انتحلت لها الإلهية انتحالاً باطلاً، لا يصاحبه دليل تقبله العقول.
لذا: فالله منزه عن الشركاء، له الإلهية وحده، وله الربوبية وحده، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ومضمون الدليل في الآية الثالثة (آية المؤمنون): أنه لو كان مع الله إله خالق آخر، لكان من أبسط النتائج البديهية أن يجمع كل إله خالق مخلوقاته، ويذهب بها، متصرفاً فيها تصرفاً مستقلاً. ثم لعلا بعض الآلهة المتعددة على بعض ـ بمقتضى سيادة الألوهية واستقلالها ـ وأن كل واحد لا بد أن ينفذ مراداته ولو تعارضت مع إرادة غيره. ومن ذلك ينشأ التنازع ثم غلبة الأقوى على الأضعف ومن ثم يقال: الأضعف لا يصلح لأن يكون رباً، فليس هو بإله، ولكن كل ذلك غير واقع لأن الله واحد لا شريك له وسبحان الله عمّا يصفون.
وقد استخدم القرآن أيضاً بيانات خطابية غير برهانية للتنفير من الشرك أوضح فيها أن عقيدة التوحيد أكرم للإنسان وأصلح له من عقيدة الشرك. ومن هذه البيانات الخطابية قول الله تعالى في سورة (الزمر): ]ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ[, متشاكسون: متعارضون لا يتفقون. سلماً لرجل: خالصاً له لا يشاركه فيه أحد.
أي أن عقيدة التوحيد تجعل الإنسان عبداً لأله واحد فقط. أما عقيدة الشرك بالله فتجعله عبداً لآلهة متعددة متشاكسه. وأيهما أكرم للإنسان: أن يكون عبداً لواحد فقط أو عبداً لمتعددين؟! قال تعالى في سورة يوسف: ]أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[.
إذا قسنا هذا بالأمثلة الإنسانية، وجدنا أن العبد الرقيق من الناس يفضل أن يكون ملكاً لرجل واحد، لا ملكاً لرجال متعددين متشاكين لا يتفقون، لأن عبوديته للواحد أحب لنفسه وأكرم لها، فكيف يختار هؤلاء لأنفسهم عقيدة الشرك مع أن عقيدة التوحيد هي الأكرم لها، وهي العقيدة الحقة التي تدعمها الأدلة البرهانية؟!
وبأسلوب البيان الخطابي النفسي هذا ـ مع البيانات البرهانية السابقة ـ تمت محاصرة الإنسان المتجه للشرك محاصرة تامة، فكرياً ونفسياً، وبهذا الحصار تنقطع جميع أعذار المشركين.
ثم أن كون وحده هو الرب الخالق المدبر للأمر كله، ولا شريك له في ربوبيته يستلزم عقلياً أن يكون هو وحده المستحق للعبادة، فلا يصح أن يعبد غيره، وكل عبادة لغيره شرك له، وإفراد الله وحده بالعبادة دون سواه هو ما يطلق عليه عبارة: (توحيد الألوهية) وبهذا يتم الربط بين توحيد الربوبية وتوحدي الألوهية، ويشملها جميعاً لفظ: (الوحدانية).
وصفة الوحدانية هذه: من صفات الله التي نادى بها جميع الأنبياء والمرسلين دون استثناء، وهي من الصفات التي تتقبلها بديهة العقل عند من لفظ إلى الحقيقة الربانية أدنى نظر، وقد أعلنها جميع أصحاب الفلسفات المضيئة وأقاموا عليه البراهين الواضحة والحجج الدامغة.
لذلك فإننا في عقيدتها الإسلامية: نؤمن إيماناً عميقاً راسخاً بأن الله وحده لا شريك له، بيده الخلق، وبيده الأمر، وهو على كل شيء قدير.
وحيث أنه تعالى واحد، وبيده النفع والضر، فنحن لا نعبد غيره ولا نشرك بعبادته أحداً. وبذلك نستجمع في عقيدتنا.
1- مبدأ توحيد الربوبية لله تعالى: فهو رب السماوات والأرض لم يشركه في حلقها وتربيتها ومدها بالبقاء شريك.
2- ومبدأ توحيد الألوهية لله تعالى: فله تعالى الأمر والنهي والحكم والقضاء وهو الذي يستحق وحده العبادة ولذا فنحن نعبده وحده، ولا نشرك بعبادته أحداً. ومن توحيد الألوهية: عبادة الله وحده بما أمرنا أن نعبده به على الشكل الذي امرنا به، دون أن نخترع من عند أنفسنا عبادة لم يأذن بها الله.
ومن توحيد الألوهية أن نحكم شريعة الله لنا في كل أعمالنا الفردية والجماعية لأن الله سبحانه له الخلق ومن له الخلق فله الأمر، وعبادة الله تكون بطاعته فيما أمرنا به وفيما نهانا عنه، وكل حكم على خلاف حكم الله يمثل استنكافاً عن طاعته في ذلك الحكم، فإذا كان ذلك طاعة لغير الله تعالى فهو شرك بالله فيما هو من خصائص ألوهيته، وهو يمثل نقضاً جزئياً لتوحيد الألوهية وإذا كان ذلك اتباعاً لهوى النفس فهو لون من ألوان عبادة الهوى.
وأمام هذه الحقيقة من حقائق الألوهية التي نثبتها في عقيدتنا الإسلامية ، وهي «أحدية الربوبية والألوهية» تتضح نقطة خلاف كبرى بيننا وبين كثير من مثبتي الألوهية الضالين عن منهج الحق وتتحدد أمامنا طريق من طرق الافتراق بيننا وبينهم.
وأما إثبات اصل الربوبية فهم شركاء معنا فيه ولكنهم افترقوا عنا:
أ- إما بإثبات أرباب متعددين غير الله تعالى يتقاسمون الخلق والتكوين بينما نحن نثبت أن الله وحده الخالق ولا خالق سواه.
ب- وأما إثبات آلهة غير الله تعالى لهم نوع تصرف في أمور الكون فهم بذلك يستحقون العبادة مع الله تعالى بينما نحن نثبت أن الله وحده هو الإله الحق المتصرف في كل شيء ولا يستحق أحد سواه العبادة مهما كان شأنه ومهما ارتفعت منزلته.
فالمجوس مثلاً: يعتقدون بالرب الثنائي.
والنصارى يجعلون الرب ثلاثياً، مركباً من ثلاثة أصول تجتمع وتفترق في صورة لا يمكن أن تهضمها العقول.
وبعض الناس من الوثنيين: يعتقدون بأرباب كثيرة جداً.
وبعض الوثنيين الآخرين يعتقدون بالآلهة المتصرفة التي تستحق العبادة مع الله تعالى فيعبدونهم ليقربوهم من الله زلفى.
وكل هذه المعتقدات: معتقدات باطلة مردودة لا يمكن التسليم بها إلا في حالة تعطيل العقول عن التفكير، وشد الأفهام بعصائب من التقليد الأعمى أو تغشيتها بحجب كثيفة من الهوى الجامح والغرض الجانح.
أما عقيدتنا: فلا إله إلا الله ولا رب ولا خالق سواه ولا يستحق العبادة أحد غيره.
ولما كانت هذه عقيدتنا التي لا محيد عنها: فإننا نكفر كل من أشرك بالله فجعل معه إلهاً آخر، سواء كان من أهل الأوثان، أو ينتسب إلى أي دين من الأديان السماوية، لأن بعقيدته هذه قد خالف قطعاً أصول الدين الذي ينتسب إليه، وناقض في اعتقاده الفاسد الباطل مبادئه المنزلة الصحيحة.
ولما كان الشرك في العبادة يستلزم في مضمونه عدم توحيد الربوبية اقتضت حكمة تصحيح عقيدة المشركين الرجوع بهم إلى الأدلة التي تثبت وجود الله وتفرده بالربوبية لتكون هذه العقيدة الصحيحة هي الأساس لتصحيح الفقرة الثانية من العقيدة الإسلامية وهي فقرة توحيد الألوهية أي إفراد الخالق وحده بالعبادة. وإثبات أن أية عبادة لغيره شرك به جل وعلا، وكفر بحق إفراده بالعبودية.
صفة مخالفته تعالى للحوادث
وحيث كان من أظهر الأدلة العلمية والعقلية ـ التي أكدت لدينا وجود تلك القوة الخلاقة وراء هذه الظواهر الطبيعية ـ هو أن كل ما في هذه الظواهر لا يصلح أن يكون هو بنفسه الإله الخالق. لأنه متصف كما نشاهد دائمً بصفات تدل على أنه حادث، كصفات التغير والحركة، والزيادة والنقصان، والجمع والتفريق، والتناكح والتناسل، والضعف والعجز، والحاجة إلى أكل أو شرب أو نوم، أو غير ذلك مما نراه في موجودات كوننا المادي.
وحيث أننا نعلم أن كل شيء حادث لا بد وأن يكون قد أوجده موجد، وأحدثه محدث قبله، بدليل أننا لا نرى حدثاً يحدث في عالمنا المادي إلا وهو متأثر بسبب سبقه. لذلك: فإننا نحكم عقلاً بأنه لا يمكن أن يكون الخالق العظيم الذي آمنا به، من نوع هذه الظواهر المادية التي تعتريها صفات الحوادث، أو مشابهاً لها ولو بوجه من الوجوه فلا يمكن إذن أن يكون للخالق سبحانه زوجة أو ولد، أو يكون بحاجة إلى أكل أو شرب أو نوم، أو مكان يوجد فيه، أو زمان يجري عليه لأنه سبحانه هو خالق هذه الأشياء كلها فكيف يكون بحاجة لها، وقد كان الله ولا شيء معه.
ولو كان الخالق سبحانه يشبه شيئاً من هذه الظواهر المادية، لكان هو أيضاً مثل هذا الشيء في احتياجه إلى خالق يخلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. وهذا المعنى هو ما نسميه بصفة: (مخالفته تعالى للحوادث) أو تنزهه تعالى عن مشابهة الحوادث.
وقد جاءت الديانات السماوية كلها توضح وتؤكد هذه الحقيقة في تنزيه الخالق سبحانه، ولذلك أجمعت على: أن الإله لا يمكن أن يتجسد في صورة إنسان أو حيوان أو جماد، أو يحل في جسد مادي، أو يكون له زوجة أو ولد، أو أن تأخذه سنة أو نوم، أو أن يأكل ويشرب، أو نحو ذلك من صفات المخلوقات، رداً على الوثنيين والمجسدين والمشبهة، الذين يشبهون الله سبحانه وتعالى بخلقه فيكفرون بذلك.
وقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بقول الله تعالى في سورة (الشورى): ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[. وقوله تعالى: ]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[. وقوله تعالى في سورة البقرة: ]اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ[. وقوله تعالى في سورة المائدة: ]لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[، وقوله تعالى في سورة الأنعام: ]وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[.
ولما كان من صفات المخلوقات الدالة على حدوثها وأنها بحاجة إلى محدث: أن لها بداءة وأن لها نهاية وجب أن يكون من صفات الخالق السلبية أن لا بداءة له، وهذا معنى (القدم) وأن لا نهاية له وهذا معنى (البقاء) فمن صفات التنزيه لله تعالى (القدم والبقاء) بمعنى: أنه سبحانه لا بداءة ولا نهاية. وفي الدلالة على ذلك جاء في أسماء الله الحسنى ]هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ[ فالأول: هو الذي لا شيء قبله، والآخر: هو الذي لا شيء بعده. وأمام هذه الحقيقة الثانية من حقائق الألوهية التي نثبتها في عقيدتنا الإسلامية وهي «خالفته تعالى للحديث» تتضح نقطة خلاف كبرى ثابتة بيننا وبين كثيرين من مثبتي الألوهية الضالين عن منهج الحق، وتتحدد أمامنا طريق ثانية من طرق الافتراق بيننا وبينهم.
وتجمع هذه النقطة المبادئ الثلاثة التالية:
المبدأ الأول: مبدأ صمدية الله تعالى (أو صمدية الألوهية).
المبدأ الثاني: مبدأ استحالة التولد بكل معانيه بالنسبة للألوهية.
المبدأ الثالث: مبدأ انفراد الألوهية بصفات الكمال.
وفيما يلي إيضاح لهذه المبادئ الثلاثة:
أ- مبدأ صمدية الله تعالى:
والصمدية تعنى معنيين اثنين:
المعنى الأول: معنى إيجابي وهو: أن الله سبحانه هو الذي يُصمد إليه أي يرجع إليه في كل أمر وذلك لأنه هو المتصف بجميع صفات الكمال، فهو القادر على كل شيء، والفعال لما يريد، والذي بيده الخلق والأمر والجزاء، وما من قوة لغيره تعالى إلا بهبة منه، إذا شاء أبقاها، ومتى شاء سلبها، لذلك فلا رجوع في أي مطلب ـ لمن تدبر وعقل ـ إلا إلى الله تعالى.
المعنى الثاني: معنى سلبي وهو: أن الله سبحانه غني عن كل شيء، لأنه متصف بالكمال التام في كل شيء. فهو الموجود الذي له الوجود الذاتي ـ الذي لم يسبقه العدم، ولا يلحقه الفناء ـ إذ الأصل بالنسبة له سبحانه هو الوجود، فهو غني عن أن يمده بالبقاء أحد، كما هو غني عن أي شيء يتصل بمطلب يعود عليه سبحانه بنفع أو فائدة أو إرضاء شهوة أو إشباع غريزة لأن الله جل وعلا منزه عن كل ذلك. وأما الذي يحتاج إلى شيء من ذلك: فهو من أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، وهو من أصله العدم، وإنما وجد بإيجاد الله له، على صورة مليئة بالغرائز الطالبة لحاجاتها، والطبائع المساقة إلى أطوارها من تأليف وبناء، إلى تفريق وهدم، كما أنه لا يمتد بقاؤه إلا بإمداد الخالق له بالبقاء عن طريق الأسباب التي هيأها له في بيئة وجوده، وعلى وفق حكمته تعالى التي ينظم بها مخلوقاته.
وهذان المعنيان لمفهوم صمدية الله تعالى يوضحان أساسين رئيسيين من أسس المفهوم الحقيقي للألوهية: ذلك أن الإله الحق ـ الذي يؤمن به العقل بالبداهة والاستدلال البرهاني ـ وهو: الغني بذاته وصفاته الذي لا يحتاج إلى شيء والكامل في قدرته وعلمه وحكمته، الذي يفعل ما يشاء ويختار، والذي يرجع إلى قدرته وحده فعل كل شيء وخلق كل شيء وتقديره.
وحيث يدرك العقلاء هذه الحقيقة لمفهوم الألوهية، فإنهم ـ لا غرو ـ يرجعون إليه في كل حاجة من حاجاتهم التي يرجونها، أو يلحون في طلبها، فإن كانت من المطالب التي لها أسباب دارية معروفة فإنهم يسألون الله تعالى أن ييسر لهم أسبابها ويسهل لهم طرقها ويدفع عنهم العوائق والعقبات. وإن لم تكن لها أسباب مادية معروفة: فإنهم يرجعون إلى الله تعالى، سائلين أن يحققها لهم كيف يشاء وعلى ما يريد. ثم لا يشركون مع الله أحداً فيما يسألون، لأنهم يعلمون ويعتقدون اعتقاداً جازماً أن الله هو وحده القادر على كل شيء وهو حده الفعال لما يريد.
وتمكيناً لهذه العقيدة الإسلامية فقد علمها رسول الله إلى ابن عمه عبد الله بن عباس ـ وهو غلام صغير ـ وقد كان راكباً خلفه، فعن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله r يوماً فقال: «يا غلام: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف» رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح.
وحيث يعلم المؤمن هذه الحقيقة، ويحيي في فكره وقلبه صمدية الله تعالى، فإنه لا يرجع في أي أمر من أموره إلا إليه سبحانه، ولا يتقرب بأي قربى إلا قربى تدنيه من طاعة ربه ومرضاته.
(يتبع)
(من كتاب: «العقيدة الإسلامية» لعبد الرحمن حبنكة).