امرأة عظيمة وراء رجل عظيم
2013/07/29م
المقالات
2,467 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
امرأة عظيمة وراء رجل عظيم
المهندس هشــــام الــبــابــا
رئـــيــــس المكـــتب الإعــــــلامـــي
لحزب التحرير – ولاية سوريا
امرأة فذَّة لا أكاد أصدق أن توجد نساء بمثل هذه الصفات في تلك الأوقات المظلمة من تاريخ المسلمين. فمع أن الله أكرمها أن وُلدت في ظل دولة الخلافة العثمانية، إلا أنها لم تبصرها، ذلك أن الإسلام مُزقت دولته وعمرها يكاد يكون ست سنوات فقط. ومع ذلك فإنها كانت تتصرف وكأنها وريثة ذاك الإرث العظيم من عزة الإسلام وعزيمة المسلمات. وإنك إن سمعت سيرة حياتها لاتخالها إلا من عصر التابعين أو تابعي التابعين، فقد أدركت مهمة المسلم في الحياة بينما غيرها في جيلها يغطُّ في سبات عميق.
عندما زرت بيتها ولقيت أحد أبنائها، واستمعت لكثير من حكاياتها منه ومن أحفادها، قلت في نفسي أن لابد أن يشاركني كل مسلم بسماع سيرة هذه المرأة الصالحة بإذن الله، علَّنا نعتبر من قصص كلها تضحيات تعيش بيننا ونحن لانعلم بها. إنها الحاجة نزهة بكور، مواليد 1914م- 2000م في عين النخيل، منبج – ريف حلب. (منبج بلد الشعراء والعلماء، كأبي تمام والبحتري وغيرهم).
حدثني حفيدها الأخ ضياء عبيد، أبو يوسف، (حفظه الله) طويلاً عنها وعن «منتجها» الفريد، ابنها الأديب والشاعر والوجيه يوسف عبيد، أبو ضياء، رحمه ورحمها الله تعالى. قال فيما قاله، إنها نشأت في عائلة تحب العلم فتأثرت من سماع حوارات جلسات أعمامها في فترات صباها، فأحبَّت العلم والثقافة، وأجلَّت العلماء والمثقفين، وظهر ذلك جلياً في تربية أولادها.
ابنها «يوسف عبيد» ولد عام 1931م وكان أكبر أولادها، أرادت له مستقبلاً لايختلف عن أولئك الذين قرأت وسمعت عنهم من تاريخ المسلمين، أي إنها أرادته أن لايكون رتيباً عادياً، بل مميزاً. ولأنها أرادته مميزاً في الآخرة قبل الدنيا صمَّمت على تعليمه القرآن الكريم عند مشايخ البلدة، رغم صعوبة الأوضاع المعيشية والمواصلات آنذاك، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن الثامنة من عمره. وشاء الله تعالى أن يمتحن هذه المرأة العملاقة أكثر وأكثر، فأصيب يوسف في ذلك العمر بمرض الجدري ففقد بصره على أثر ذلك، فلم يثنِه هذا عن إعادة حفظ القرآن مرة ثانية وهو ضرير، وأصرَّت والدته على أخذه إلى مدينة منبج لتحصيل العلم، ومنبج هي المدينة العظيمة آنذاك بالنسبة لقرى منبج، ولكنها أخذته دون تأخير إلى هناك. ولما لم تُشفِ غليلَها المحبَّ للعلم ولتعليم ابنها دروسُ منبج، وهي المدينة الصغيرة التابعة لمدينة أعظم هي حلب، فإنها حملته وسافرت به إلى حلب وهو في الثالثة عشرة، فدرس العلوم الشرعية في مدرسة الشعبانية، وكانت الحاجة أم يوسف تعمل في الأرض بكل نشاط وهمة لتوفِّر نفقات دراسة ابنها الذي لم يخيب أمل والدته به، فأنهى دراسته فيها. ولما رأت فيه بوادر النبوغ أصرَّت على ذهابه إلى الحجاز لإتمام الدراسة حيث انتسب لجامعة محمد بن سعود في الرياض، ثم تخرج سنة 1963م، وعاد بعد ذلك إلى بلدته وتزوج بناء على رغبة أمه عام 1965. في عام 1966م رزق بمولود سمَّاه ضياء، ولم تكمل فرحته وفرحة أمه بحفيدها فاعتقل يوسف في نهاية 1966م بسبب انضمامه لحزب التحرير.
انضمامه لحزب التحرير:
يقول أبو ضياء: «انضم والدي (رحمه الله) والحاج مصطفى بكري (حفظه الله وأطال في عمره)، من بلدة كفرة-إعزاز-ريف حلب، أوائل الستينات لحزب التحرير حيث كانا أول من حمل الدعوة بفكر حزب التحرير في منطقة حلب». وأذكر هنا أن الحاج مصطفى بكري، أبو علي، كنا قد التقينا به وأجرينا معه مقابلة وأذعناها في مواقعنا.
نشط أبو ضياء في الدعوة وذاع صيته لأن الفكر الذي اقتنع به أبى أن يبقى حبيساً في صدره، فكان شعلة بين أقرانه، وأصبح يُشار إليه بالبنان. وتابع انطلاقته في الدعوة حتى اعتقاله كما ذكرنا رغم كونه ضريراً عام 1966م، وأودع سجن الحسكة لمدة عامين.
موهبته الشعرية:
برز الحاج أبو ضياء في المجتمع المحيط به من خلال ماحباه الله من موهبة شعرية فذة أذهلت كل جلسائه، فحصل على شهرة في منطقته وصار شوكة في عيون النظام ذلك لأن كل أشعاره كانت سياسية فكرية لاذعة. ورغم سجنه القاسي وضنكه لبعده عن بيته وعائلته إلا أن والدته عانت ما عانته من هذا الأمر، فكانت تذهب من مدينتها إلى الحسكة رغم مشقة الطريق وصعوبة المواصلات لرؤية ابنها السجين، وكانت تحمل له نشرات حزب التحرير كي لا ينقطع عما يصدره الحزب، وكانت تُبدع في تهريب النشرات وكتب حزب التحرير تحت ثيابها تارة وبين أغراضها تارة أخرى، وكل همها أن تدخلها إليه في السجن كي يتابع الإصدارات.
كان (رحمه الله) يكتب في سجنه القصائد المتتابعة والتي كانت طويلة بشكل لافت، فمثلاً قصيدته «قبس من حراء» كانت تعد 360 بيتاً نذكر منها:
قبس من حراء
أيُّ فجرٍ لاحَ في الأفقِ سَنِيّاً مشرقَ الطلعة بسّامَ المُحَيَّا
مزَّقتْ أنوارُه سحبَ الدُّجى وسَرَى في الكونِ هَدْياً أحمديَّا
ولد المختارُ يا أرضُ ارقُصي طرباً واستقبِلي الدَّهرَ فتيَّا
إنه النورُ الذي أخرجَ منه رحمُ الظلماءِ إشراقاً بهيَّا
فاخمُدي يا نارُ لن تَلْقَيْ على عرشِك المعبودِ ربّاً كِسرويَّا
شاهَ وجهُ الشرك ِلم يبقَ له موكبٌ يختالُ في الأرضِ عِتِيَّا
وهوتْ تلك التماثيلُ التي شادَها الباغون تضليلاً وغيَّا
كان ينظم القصيدة كاملة في ذهنه، وعندما تكتمل القصيدة يدونها على الأوراق في أسلوب قل نظيره بين الشعراء. يقول ابنه ضياء «لما خرج والدي من السجن… كان ينظم الشعر في البيت ثم يناديني قائلاً: أحضر الورق والقلم واسمع واكتب»، كنت أجلس ويملي علي القصيدة كاملة في نسق واحد وتسلسل عذب شيِّق وكأنه يقرأ من كتاب.
استمر (رحمه الله) في نشاطه الحزبي والدعوي بعد خروجه من السجن بهمة وإصرار أقوى مما سبق، وكان بيته كأنه مركز للعلم والنقاش وحمل الدعوة الذي عُرف فيه في المنطقة كلها. وفي عام 1973 نظم قصيدة بعنوان «شهر العسل» يصف بها مهزلة حرب تشرين وزيارة وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر وعروسه نانسي التي تزوجها من جديد، ومما نظمه:
شرِبَ المُدامةَ وانثنى نشوانَ مغرورَ الأماني
واختال فوق الرِّيح في سباقة كالبرقِ جامحةِ العَنانِ
وعروسُه الحسناءُ باسمةٌ تتيهُ بعنفوانِ
والخصرُ ذو هيفٍ هلوكِ الذلِّ من يمناه داني
والخنجرُ المسمومُ في يده كتابُ الأُفْعُوانِ
لعبتْ به الصهباءُ عابثةً تعربدُ في الفؤادِ وفي الجَنانِ
وتوقَّدَ الغليونُ في شفتيهِ ينفثُ باللهيبِ وبالدخانِ
وحقائبُ الدولارِ مثقلةٌ فصاح النطقُ ساحرة البيانِ
فجاء إليه أحد المعلمين بثياب صديق فكتب القصيدة وذهب بها إلى المخابرات يطلعهم عليها، فاعتقل على أثر ذلك في سجن الحلبوني بدمشق.
ذهبت والدته الحاجة نزهة إلى دمشق وجلست أمام فرع المخابرات لرؤية ابنها فطُردت وضُربت وأُهينت ولكنها أصرت أن لاتغادر المكان حتى ترى ابنها، وتحملت مشقة السفر من منبج إلى دمشق كل 15 يوم لرؤية ابنها لمدة لاتتعدى نصف الساعة. وبعد سنة وثمانية أشهر أطلق سراحه فعاد إلى مزاولة حمل الدعوة ولم يثنه السجن عنها بل زاده إصراراً، وكذلك تابع نظم قصائده بنفس الوتيرة وربما أكثر شدة وقوة من أجل فضح طاغية سوريا.
كان (رحمه الله) لاتقتصر قصائده على معاناة أهل الشام فقط، بل كان سباقاً لتناول كل قضايا الأمة الإسلامية في كل مكان، من الجزائر إلى تونس إلى مصر إلى اليمن إلى السعودية وحتى الشيشان والبوسنة والهرسك، ثم إلى محجبات فرنسا وكل قضايا المسلمين، نظمها قصائد بليغة في شعر عذب قل مثيله. وفي كل قصيدة من قصائده كان يحث الأمة على النهوض للتغيير وللعمل لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، فكان هذا بارزاً في شعره رغم عدم وعي المجتمعات آنذاك على هذه الفكرة. فعانى ماعاناه في الثمانينات من ملاحقات واستجوابات الفروع الأمنية في تلك الحقبة، فكتب عن مجزرة حماة قصيدة بعنوان «حماة المجد».
ومن أواخر قصائده العصماء قصيدة «أيها الشعب» يقول في مطلعها:
أيُّها الشعبُ الذي نام على مرقَدِ الذلِّ ولم يعصِفْ بقيدِ
كـيـفَ أصبحتَ مَقُوداً صاغــــِــراً تـخـفـِضُ الـرأسَ لـسـيـفِ الـمستبدِّ
ورضـيـتَ الـعـيشَ هونــــــاً بعدما كـنـتَ تـحـيـا نـاعـمــاً مـنـه بـرغدِ
أيُّ خـطـبٍ حلَّ حتــــــى أصبحتْ أمّـتـي فـي قـبـضـةِ الـخـصـمِ الألـَدِّ
وسـرتَ خـلـفَ ســــــرابٍ زائـفٍ لا تـرى غـيـر سراب لـيس يجـدي
تـقــــطّـع الـدرب بـــعـزمٍ واهـــنٍ فـي صحارى موحشات القـفر جرد
كان رحمه الله شاعر حزب التحرير فلم يكن يقبل بينشر قصائده إلا في مجلة الوعي حصرياً متخفياً باسم «يوسف ابراهيم» لأسباب أمنية. وفي عام 2000م اعتقل لدى المخابرات الجوية في دمشق لمدة عشرين يوماً مع أخيه وابنه ضياء، ثم أطلق سراحه لوحده، وبعد خمسة أيام توفيت والدته الحاجة نزهة عن عمر يناهز ستة وثمانين عاماً، ومنع من الخطابة في مسجد البلدة؛ فكان عام حزن له ذلك أنه اجتمع له فقدُ أقرب الناس له، وبقاءُ ابنه وأخيه بعيداً عنه في السجن، ومنعُه من التواصل مع الأمة عبر الخطابة، وفرضُ الإقامة الجبرية عليه.
توفي عام 2006م بعد أن ترك ثروة شعرية قلَّ مثيلُها وتعتبر بحق تأريخ سياسي لفترة مظلمة من حكم البعث وآل وحش. نُشر له ديوانان هما: الفجر الجديد، وقبس من حراء، تم نشرهما في بيروت من قبل حزب التحرير. وهناك دواوين مازالت في أشرطة الكاسيت وهي شهر العسل وهو ديوان كامل يتألف من 12 قصيدة كلها تحكي ظلم طاغية الشام وأبيه وعائلته، وقد تم إهداؤها إلى المكتب الإعلامي لحزب التحرير ولاية سوريا، والذي سينشرها تباعاً إن شاء الله تعالى.
وهناك أيضاً ديوان «تحت راية الخلافة»، وديوان «أصداء من نشيد الفاتحين»، وديوان «أصنام تحت فأس إبراهيم»، وهناك قصائد كثيرة مازالت في الأشرطة والأوراق تنتظر خروجها إلى النور. وكتب أبياتاً أوصى أن تكتب على شاهد قبره (رحمه الله)، يقول فيها:
أنا لم أكنْ وحدي على درب الحياة ولن أسيرَ بلا مَتاعْ
زادي ضياءُ الفجر يرشدُني السبيلَ فلا عِثارَ ولا ضَياعْ
فإذا طغى موجُ العُبابِ مزمجِراً فعقيدتي أقوى شِراعْ
فلأمَّتي خفقُ الضلوعِ وماتغنَّى الشعرُ أو خطَّ اليراعْ.
رحم الله الحاجة نزهة التي سلكت بالمرحوم بإذن الله الشاعر يوسف طريق النور فكان شعلة سبق زمانه، وأورث حملة الدعوة مجموعة نادرة من القصائد السياسية هي خير شاهد على الصراع الفكري والكفاح السياسي ومقارعة الحكام التي قام ومازال يقوم بها حزب التحرير.
وجزى الله عنا عائلة الشاعر التي استضافتنا وأكرمتنا في بيته، شقيقه وأولاده أحفاد الحاجة نزهة (رحمها الله) وخاصة محدثنا وجامع أشعار وتاريخ أبيه (رحمه الله)، الأخ الفاضل ضياء عبيد، أبو يوسف، جزاهم عنا خير جزاء.
2013-07-29