مصعب بن عمير (رضي الله عنه)
1990/06/07م
المقالات
5,430 زيارة
الحياة الجاهلية
لقد قامت الحياة على العصبية بين القبائل، وكان الفرد لا يعطي ولاءه إلا لقبيلته، وبالذات للبطن الذي ينتسب إليه من بين بطون قبيلته الواحدة. ومن هنا قامت المنازعات بين القبائل لأتفه الأسباب يدفعهم حب الثأر أو التسلط أو غيرها من الدوافع المختلفة التي تجعلهم يقتتلون طويلاً ويريقون دماء بريئة لا ذنب لها إلا لانتسابها لهذه القبيلة أو تلك.
كذلك ارتبطت حياتهم القاسية بوجود الكلأ والمرعى حفاظاً على حياتهم ومواشيهم وكان زعيم القبيلة هو الذي يقرر ولا إرادة لغيره.
ولذلك قال قائلهم: وهل أنا إلا من عُزَيّةَ إنْ غَوَتْ غويتُ وإن ترشُدْ غزية أَرشُد.
وأصبحت الحرب والغزو طبعاً عندهم حتى قال قائلهم: وأحيانا على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا.
فها هي حرب البسوس دامت أربعين سنة لأن كليباً ـ رئيس قبيلة معد ـ رمى ضرع ناقة البسوس بنت منقذ. فاختلط دمها بلبنها. فأقدم لهذا حساس بن مرة وقتل كليباً واشتعلت الحرب بين بكر وتغلب حتى قال فيها المهلهل ـ أخو كليب ـ: «قد فنى الحيان، وثكلت الأمهات، ويتم الأولاد، دموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن».
وها هي حرب داحس والغبراء. وداحس هو فرس قيس بن زهير، وكان سابقاً للغبراء وهي فرس حذيفة بن بدر فكمن فتية وأعاقوا داحس بإيعاز من حذيفة إن هي سبقت. فسبقت الغبراء مما أثار حفيظة قيس وجرى قتال وقامت القبيلتان تنصران أبناءهما فنشب قتال كبير وأزهقت أرواح كثيرة.
وكانت القبائل كثيراً ما تنهب القوافل فتغير عليها وتقتل رجالها وتسبي نساءها وتسلب أموالها.
وكان الشباب يندفعون للقتال بعصبية جاهلية غير واعية دون سؤال عن سبب وتحر عن حق، ودون حساب للنتائج.
أما الخمر فكان شربها مسرفاً وتحدث عنها الشعراء، وكثرت أسماؤها وصفاتها. وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة ليلاً ونهاراً يرفرف عليها علم يسمى (غاية) وكان من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة خمر مرادفة لكلمة التجارة.
وكان القمار أيضاً من أمراض الجاهلية. قال قتادة: «وكان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله»، فيقعد حزيناً سليباً ينظر إلى ماله بيد غيره حتى أورثت بينهم العداوة والبغضاء.
وكانوا يتعاطون الربا ويجحفون فيه إلى حد الغلو والقسوة حتى صار الغريم يقول لغريمه: «زدني في الأجل وأزيد في مالك». وعن قتادة: «إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه». وقد ازداد التفاوت بين الغني الفاحش والفقر المدقع وازداد الظلم والجور.
أما الرقيق فحدث ولا حرج. فالعبد مظلوم لا يعرف له المجتمع حقاً في الحياة ولا يأبه به صاحبه ويباع ويشترى كالمتاع الرخيص.
أما المرأة فكان العرب يشعرون بخيبة أمل عند ولادة الأنثى ويتطيرون منها ويعتبرونها شراً وبلاء. وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى: ]وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ @ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[. فقد كانت قبائل العرب تئد بناتها خوفاً من أن يجرها الفقر إلى العار والفضيحة. وقد كان يستعمله واحد ويتركه عشرة. وقد ذكر أن قيس بن عاصم المنقرى وأد اثنتي عشرة بنتاً وقيل ثلاث عشرة بنتاً وقال له النبي بعدما أسلم: «اعتق عن كل واحدة نسمة».
وكان يعضهم يرى أنه أحق بزوجة صديقه بعد موته. وكان يقول: «أنا أحق بامرأته فكان إما أن يختارها لنفسه أو يزوجها ويأخذ مهرها».
وكان إذا مات الرجل ورث ولده فيما يرث زوجاته جميعاً ـ ما عدا أمه ـ وتمتع بهن كما تمتع أبوه بهن من قبل.
وكانت حرم من الإرث حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم». أما النكاح: كان على عدة أنحاء كلها أشكال زنا منحطة إلا نكاحاً واحداً وهو نكاح الناس اليوم الذي أقره الإسلام.
.. فمنه أن الرجل يرسل زوجته لتستبضع من رجل نجيب طمعاً في نجابة الولد.
.. ومنه أن ما دون العشرة يجتمعون على المرأة كلهم يصيبها ثم تسمي أمه هي الطفل بمن يلحق.
.. ومنه اجتماع الناس الكثيرين على المرأة لا تمتنع عمن جاءها ـ وهي البغايا ـ وكن يضعن على أبوابهن رايات تكون علماً فإذا وضعت ألحقوا ولدها بالذي يرون، فأي أسرة هذه التي يكون الولد ممزقاً بين عشرة رجال.
أما عن عقائدهم المتنوعة فلم يكن عند الجاهليين تصور شامل عن الألوهية، وأنه لا رب ولا إله سوى الله وأنه هو وحده الذي يستحق العبادة. فقد كان الشرك أبرز عقائدهم وبصور مختلفة.
لقد كان الجاهليون يرون أن الله إله أعظم خالق الأكوان ومدبر السماوات والأرض بيده ملكوت كل شيء قال تعالى: ]وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[ وقال تعالى: ]وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[ وقال تعالى: ]وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[. ولكنهم عبدوا الله وعبدوا معه غيره لتقربهم إليه أو شفعاء أو ناصرين. فكانت غالبيتهم تعبد الأوثان من دون الله. ومنهم من عبد الملائكة وزعموا أنها بنات الله ومنهم من أقرّ بالخالق وكذلك بالرسل والبعث. ومنهم من عبد الجن والكواكب وكانوا يخرون لها ويتقربون إليها.
وقد روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: «كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير منه ألقيناه وأخذنا الآخر. فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به».
هذه هي كانت عبادة القوم إلا قليلاً منهم أقر بالوحدانية وترفع عن عبادة الأصنام كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة الأيادي والراهب بحير.
هذه العقائد الفاسدة لم تصن على الناس كراماتهم ولا حفظت أموالهم ودماءهم ولا حمتهم من العبث والاقتتال. لأن عباد الصنم لا يخاف عقاباً ولا يخشى عذاباً. وشارب الخمرة لا يعقل حلالاً ولا حراماً، والحياة القائمة على الهوى والعصبية لا تعرف للناس حقاً ولا واجباً.
هكذا كانت مكة لاهية عابثة عندما بدأت الدعوة. حياة لا تحفل بحلال ولا حرام، الأقوياء سادرون في غيهم، يأكلون أموال الناس بالباطل ويتاجرون بالحرام ويستحلون الحرمات. واليهود كعادتهم في يثرب يكيدون لمن حولهم ويورثون الضغائن والأحقاد بين القبائل ومن ثم يستغلون خلافاتهم لمصالحهم الدنيئة، والأصنام في بيت الله الحرام تعبد من دون الله.
ونشأت عند العرب أخلاق وشيم فردية نتيجة هذه الحياة: منها الفصاحة وقوة البيان، ومنها حب الحرية والأنفة والفروسية والشجاعة والحماسة في سبيل ما يؤمنون به، ومنها الصراحة والجرأة في القول، ومنها جودة الحفظ وقوة الذاكرة، ومنها قوة الإرادة والوفاء والأمانة.
وكانت صفات فردية جميلة تستغلها حياتهم الجماعية بصورة سيئة. فاستخدمت فصاحتهم وقوة بيانهم في وصف الخمرة والمرأة، واستخدمت فروسيتهم وأنفته وشجاعتهم وحماستهم وحبهم للحرية في غزوات الثأر والعصبية واسترقاق الآخرين، واستخدمت كرمهم في حب الشرف والمكانة والرياسة والعلو والاستعلاء بين القبائل. وكان الفرد منهم يضطر أن يسير مواصفاته هذه بحسب إرادة جماعته السيئة.
ومن هنا كان أن اختار الله العرب من دون الناس ليبعث فيهم رسوله وينزل عليهم رسالته. فالفصاحة والبيان ما أجملها من صفة إذا استخدمت في التعبير عن الحق وتبيان زيف الباطل. والصراحة في القول إلى حد الجرأة هو ما تحتاجه الدعوة الصادقة إذا نزلت فيهم، وشجاعتهم وفروسيتهم هي ما تحتاجه حمية الدعوة للحق. وقوة الإرادة وصلابتها في بث الدعوة والصبر عليها والامتثال بها والفاء والأمانة في حفظ الحق وأدائه هي من الصفات التي يجب أن تتوفر بأهل الدعوة، وقد كانت عند العرب كأفراد وهذا ما أهلهم أكثر من غيرهم لأن تكون الدعوة فيهم.
في هذه الأجواء الفكرية والاجتماعية عاش معصب.
كان من بني عبد الدار من أهم بطون مكة.
وكان من أبرز شباب مكة المترفين، بل كان معلماً ترفه وجماله ونعمائه، لا تشغله أمور العيش، يحظى بكل ما تشتهيه نفسه من أطايب الدنيا، وكل همه مع الفتيان من مثله الخمر واللهو والنساء، وكان جميلاً يلبس الحلل الفاخرة والنعال الحضرمية والعطور المنعشة، واللمة الحسنة وله مال وفير. يحضر نوادي مكة وملاهيها ويكون قطب الرحى بين شبابها. تحبه النساء وتهواه العذارى وتحيطه نظرات المعجبين ويشار له بالبنان وكان يقضي وقته لهواً وطرباً وشرباً ويغرف في الحياة العابثة ولا يخاف قله ولا يحسب حساب فقر. وكان نسبه محل فخر وعشريته ذات مكانة فهم سدنة البيت وحملة اللواء وأصحاب الندوة فلا غرو أن يتصدر مجالس قريش في نواديها ويوم حجيجها وفي كل مواقفها الخطرة.
وليس أدل على جمال طلعته من أن المشركين حسبوه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل في أحد، وصاحوا قتل محمد.
قال ابن سعد في طبقاته الكبرى: كان مصعب بن عمير فتى مكة شباباً وجمالاً وسبيباً (جمال شعر). وكان أبواه يحبانه وكانت أمة مليئة كثيرة المال. تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأمتنه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال وكان رسول الله يذكره ويقول: «ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أرق حلية ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير».
نزول الإسلام
نعم في هذه الأجواء الفاسدة جاءت دعوة الإسلام: دين قيم من لدن حكيم خبير يخاطب الإنسان في وجوده ومصيره ويضعه في خطة المرسوم له بعد طول ضلال، ويحدد له مكانته ودوره من بين المخلوقات ويرفض تفسيرات العقل القاصر المحدود لهذا الوجود. فعرّف الناس بإلههم الأحد وربهم الحق وخالقهم المهيمن واللطيف الخبير ومن ثم طلب منهم أن يعبدوه وحده لا شريك له. وقد خاطبهم الله بكتابه العزيز مخاطبة تقنع بها العقول وتقرّ بها الفطرة وترتاح لها النفوس وتنشرح. فآمن من آمن في بدء الدعوة وهم قليل مستخفون. وهنا شعر كفار مكة بالخطر عليهم من هذا الدين الجديد، وتحرك الزعماء خوفاً على سلطانهم ومعهم اتباعهم عصبية لمواجهة من عاب آلهتهم وضلل آباءهم وسفه أحلامهم وأجمعوا على خلافهم وفراق دينهم.
وكان تعذيب الكفار للمؤمنين الجدد بالغاً وقد تنوع: فمن تسفيه إلى سخرية إلى تهديد وتعذيب وسجن ومطاردة وحصار وقطيعة وقتل وإلى إشاعات وطرد. وكان أبو جهل لعنه الله يقول لمن اسلم: «تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنغيلن رأيك (نقبحه) ولنضعن شرفك» وإن كان تاجراً كان يقول له: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن أموالك».
وقد عَدَتْ قريش على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه. ووثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم ليفتنوهم عن دينهم. فصبر من صلب في الحق وافتتن من افتتن من شدة البلاء. فمنهم من كان على عزيمة من الأمر كبلال عندما كان يطرحه سيده أمية بن خلف في بطحاء مكة إذا حميت الظهيرة ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره ثم يقولن له: «لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللآت والعزى» وكان يجيبهم: «أحد أحد» وكان بلال رضي الله عنه يقول: «والله لو علمت كلمة أغيظ لهم منها لقلتها». ومنهم من أخذ برخصة الله له بعد ألجأه ضعف النصير من قومه وشدة البلاء إلى قول ما ليس بحق افتداء من أذاهم البالغ من غير اطمئنان القلب له كما حدث مع عمار بن ياسر.
وقد أعطت قوة الإيمان للمسلمين الأوائل ثباتاً على الإسلام أمام المحن. وتكونت نواة من الدعاة المسلمين مؤمنة أعمق ما يكون الإيمان وصادقة أفضل صدق وصابرة ومصابرة، تخلت عن كل شيء من أجل رضاء الله وفي سبيل عقيدتها. ونزعت عن نفسها تعلق الجاهلية وحميتها وانسلخت من حمأة الطيش الجاهلي الظالم وفرغت النفوس من خط النفوس.
ولا بد أن قوة الفكر وفراغ النفس وضياعها واختفاء الهدف من حياة مصعب هي التي جعلته من أوائل المؤمنين. فقد دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم وأسلم وهو ابن أربع وعشرين سنة فصدق به وخرج فكتم إسلامه خوفاً من أمه القوية وقومه. وكان يختلف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم سراً.
دخل مصعب في الإسلام والدعوة مضطهدة بما لا يحتمله إلا المؤمنون، وظل وفي مخليته صور من المعذبين المضطهدين يحرقون بالنار ويجرون بيد الغلمان في دروب مكة ويضربون بالسياط ويحرمون الماء والطعام والنوم ويلقون أشد الأذى. لذلك كان يرى مشتقات الطريق أمامه واضحة.
دخل مصعب في الإسلام وكانت الأيام تزيده يقيناً بأن هذا هو الحق، وأن هذه هي دعوة الحياة وأن ما دونه الباطل الذي لا شك فيه. دخل وفي نفسه طمأنينة الرضوان بعد أن فرغ نفسه من حب الدنيا وملذاتها وملأها بحب الله ورسوله.
دخل إلى دار الأرقم ابن أبي الأرقم التي كانت تقوم بجانب الصفا ولا تبعد عن الكعبة كثيراً، وغدت بيت الإسلام الأول ومنطلق دعوته ومركز تجمع عبادة المسلمين الأوائل يجتمعون فيها ويتلقون دروس الإيمان ومنهج الدعوة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخفى مصعب إسلامه عن أهله انسجاماً مع منهج الدعوة في بواكيرها. ولكنه لم يستطع أن يخفي إسلامه إلا لفترة قصيرة من الزمن. فهو بعد إيمانه لا بد أن يختفي من نوادي مكة ومن لياليها ولم يعد يرى بين شبابها اللاهين ولم تعد تجد نساء قريش عنده القبول ولم تعد آماله ومطامحه تتوافق مع آمال قومه ومطامحهم. ولا بد أن يتساءل أصحابه عن ذلك. وهو بعد إيمانه لا بد أن يظهر عليه الجد والوقار بعد حياة الخفة والعبث فتحس عليه أمه القوية التي كانت تحبه كثيراً وتحاول أن تصل إلى ما يدور في نفس ابنها فلا تتمكن. وقد كان إسلامه واعياً وعن إرادة،وقد روى ابن الأثير خبر إسلامه فقال: «كان من فضلاء الصحابة وخيارهم ومن السابقين إلى اسلم ورسول الله في دار الأرقم وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه. وكان يختلف إلى رسول الله سراً. فبصر به عثمان بن طلحة العبدري يصلى فأعلم أهله وأمه فأخذوه فحبسوه لم يزل محبوساً حتى هرب وهاجر إلى الحبشة وقد بدأت محنته بعد أن عرفت أمه. وتجمع الروايات كلها على أن مصعب بن عمير أصابته المحنة القاسية بعد إسلامه. وكان كالعلامة الفارقة بين المسلمين لسعة الفرق بين والجاهلية والإسلام في حاله».
-وقد أصيب بمحنة الفقر:
فقد روى الترمذي في سننه على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان منه من النعمة والذي هو اليوم فيه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة وراح في حلة ووضعت بين يديه صحنة ورفعت أخرى وسترت بيوتكم كما تستر الكعبة؟» قالوا يا رسول الله: نحن يومئذ خير منا اليوم، فنفرغ للعبادة ونكفي المؤونة. فقال رسول الله: «لأنتم اليوم خير منكم يومئذ».
وفي صحيح البخاري عن خباب أن مصعباً لم يترك إلا ثوباً فكانوا إذا غطوا به رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا به رجليه خرج رأسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر».
-وكذلك أصيب بمحنة الأهل والأقارب:
فالمؤمن تنقطع كل وشيجة له مع غيره إلا مع الله. قال تعالى: ]لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[ فها هي أمة التي يحبها كثيراً تريد أن تستغل حبها لابنها لترده عن دينه فتمتنع عن الأكل والشرب لتضغط على ابنها. يقول السهيلي: «وحلفت أمه حين أسلم وهاجر ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع إليها. فكانت تقف للشمس حتى تسقط مغشياً عليها. وكان بنوها يحشون فاها يشجار ـ عود ـ فيصبون فيه الخشاد لئلا تموت. ثم صب عليه العذاب وقيد في الأصفاد بعد أن كان حراً سيداً «فأخذه أهله وقومه وحبسوه فلم يزل محبوساً إلى أن هاجر إلى الحبشة». وفي الطبقات لابن سعد أن مصعباً عندما عاد من المدينة ذهب توا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فأرسلت أمه تعاتبه وتقول له: «يا عاق أتقدم بلداً أنا فيه لا تبدأ بي؟! فقال: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما ذهب إليها قالت له: إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد؟ قال: أنا علي دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله. فأرادت حبسه فقال: لئن أنت حبستني لأحرضن على قتل من يتعرض لي. قالت: فاذهب لشأنك وجعلت تبكي!!. فقال مصعب: يا أمه إني لك ناصح وعليك شفيق فاشهدي أن لا إله إلا الله وأن محمداَ عبده ورسوله قالت: والثواقب لا أدخل في دينك فيزرى برأيي ويضعف عقلي ولكني أدعك وما أنت عليه وأقيم على ديني».
-وكذلك أصيب بمحنة الجوع والتعذيب:
ولعل أكثر ما يدل على مدى ما عاناه من جوعه ما رواه سعد بن أبي وقاص فقال: «فأما مصعب بن عمير فإنه كان أشرف غلام بمكة بين أبويه، فلما أصابه ما أصابه لم يقوَ على ذلك فلقد رأيته وأن جلده ليتطاير تطاير جلد الحية. ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي فتعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا». ويحدثنا السهيلي عن مصعب فيقول: «فلما أسلم أصابه من الشدة ما غير لونه وأذهب لحمه ونهكت جسمه حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه وعليه فروة قد رقعها فيبكي لما كان يعرف من نعمته».
لقد ترك مصعب قريشاً ثلاث مرات فرارا بدينه من الفتنة إلى الحبشة مرتين، ومرة إلى المدينة ليعلم أهلها الإسلام. ولعل اختيار مصعب للذهاب إلى المدينة ليدل دلالة واضحة على ما يتحلى به مصعب من صفات الخير حتى اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم دون سواه.
-وكذلك أصيب معصب بمحنة الجاه والمكانة:
لقد كانت المكانة التي يحتلها مصعب رفيعة. فهو من قبيلة لها مكانتها في الجاهلية فهم حملة اللواء وأصحاب الندوة وأصحاب السلطة، وهو في قبيلته من أجمل شبابها. وإذا كان حب الجاه منعطفاً خطيراً ومنزلقاً كبيراً يهوي به الكثير. فإن مصعباً رفض هذا الجاه وتخلى عن هذه المكانة خوفاً من أن يخسر منزلته عند ربه فحفظ الله له مكانته في الدنيا والآخرة.
مصعب داعية أهل المدينة:
لقد كان من نتائج صدق إيمان مصعب الذي كان يسمى بمصعب الخير: الثبات والطمأنينة في الحق، والتمسك بأمر الله والوعي عليه، والصبر ومقاومة الضغوط. وقد تحقق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أفضل الهجرة أن تهجر ما كره ربك».
لقد كان نموذجاً حياً للداعية المسلم الذي يقوم بأمر دعوته على أكمل وجه ويمثلها بأجلى معانيها وأدق خصائصها. لذلك فقد كان يتمتع بالصفات التي تؤهله للقيام بالدور الذي ندبه رسول الله إليه. لذلك لم يكن اختياره عن عبث: فقد قال فيه عامر بن ربيعة رضي الله عنه: «كان مصعب بن عمير رضي الله عنه لي خذنا وصاحبا منذ يوم أسلم إلى أن قتل رحمه الله بأحد، خرج منا إلى الهجرتين جميعاً بأرض الحبشة، وكان رفيقي من بين القوم. فلم أر رجلاً قط أحسن خلقاً لا أقل خلافاً منه».
لقد هاجر مصعب الخير من مكة إلى المدينة معلماً ونزل في بيت الصحابي الجليل أسعد بن زرارة (أحد المبايعين في العقبة الأولى).
وانتقل مصعب من دور الصبر والاحتمال والتعذيب السلبية ضد شراسة الجاهلية إلى دور المجاهدة الإيجابية في تبليغ الدعوة ونشرها بالأسلوب المناسب والحجة البالغة. وكان عليه إعلان الدين بصورته الحقيقية وإزالة ما علق في أذهان الناس من دعاوى زائفة عن الدين وعن الرسول مما أشاعته قريش وحلفاؤها من المشركين.
وكانت مهمة مصعب هي أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين.
فقام مصعب بما طلب منه خير قيام. وخلع عن مسلمي المدينة كل تصور جاهلي. فوقف الخزرجي والأوسي جنباً إلى جنب في نصرة هذا الدين. وانتهت قصة الدماء الثارات. ولا ننسى أن القرآن المكي اهتم أكثر ما اهتم بتوضيح أصول العقيدة. فمحا بها كل أفكار الشرك. وامتازت نصوص القرآن بحيويتها وأثرها وذلك لأنها تناولت الواقع العملي. وكانت مرحلة مكة قريبة من ذهن مصعب يستفيد منها في تحركه الجديد. وكان يصد فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا رَؤوا ذكر الله».
وامتازت دعوة مصعب بكثرة الاتصالات والنشاط. فقد نزل إلى أسعد بن زرارة الذي قدم له الأكل والمأوى والحماية والإرشاد بمن يتصل. فكان خير معين له إذ وقف كل وقته وإمكاناته معه. يقول ابن سعد في طبقاته: «أن مصعباً نزل على أسعد بن زرارة وكان يأتي الأنصار في دورهم وقبائلهم فيدعوهم إلى الإسلام ويقرأ عليهم القرآن فيسلم الرجل والرجلان حتى ظهر الإسلام وفشا في دور الأنصار كلها والعوالي إلا دوراً من أوس الله وهي خطمة ووائل وواقف».
وقد امتازت الدعوة بأسلوب مصعب الهادئ في إيصال الحق والنافذ في التأثير. وبسهوله أهل المدينة وبساطتهم ونقاء سريرتهم. وبتوفيق الله في الهداية.
فقد روى ابن هشام في سيرته: «أن مصعباً وأسعد جلسا في بستان من بساتين بني ظفر. واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا. فأرسل سعد بن معاذ أسيد بن حضير لزجر الفتيين اللذين يسفهان الضعفاء. وكان أسعد بن زرارة ابن خالة سعد بن معاذ. فلما رأى أسعد أسيداً مقبلاُ نحوهما قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. فوقف عليهم متشتماً وأمرهما بالانصراف إن كانت لهم بأنفسهم حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكرهه. فقال أسيد: أنصفت. فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فأسلم. ثم قال أي أسيد: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد وسأرسله إليكما. انظروا كيف تحول إلى داعية مباشرة. فقدم على سعد وكاد له كيداً حسناً إذ قال له: إن بني حارثة قد خرجوا يريدون قتل ابن خالتك أسعد ليحقروك. فقام مغضباً. فلما جاءهم رآهما جالسين مطمئنين وحدث معه شبيه ما حدث مع أسيد فأسلم. فعاد إلى قومه وقال لهم: كيف تعلمون أمري فيكم. قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة. فقال لهم: كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله: فأسلموا حتى لم يبق في دار بني عبد الأشهل رجل أو امرأة إلا مسلماً أو مسلمة». فانظروا إلى أسلوب مصعب الهادئ وانظروا إلى سماحة وتسهل أهل المدينة وانظروا كيف أن الله إذا أراد إعزاز دينه كيف يهيئ أمره ففي ساعات من نهار تغير وجه المدينة اللهم وفقنا لما وفقت له مصعباً وقد كان له فضل إقامة أول جمعة في الإسلام.
وبعد توفيق الله لمصعب كان بيعة العقبة الثانية إذ أن مسلمي المدينة ائتمروا جميعاً فقالوا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في مكة ويخاف فرجلوا إليه وبايعوه على السمع والطاعة والنشاط والكسل والنفقة في اليسر والعسر لا يخافون في الله لومة لائم وعلى أن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ولهم بذلك الجنة. ليس المال ولا الجاه ولا الحياة فقط لهم الجنة. ثم كانت الهجرة ثم كانت الدولة وقامت أركانها وقام الجهاد طريقة لنشر الدعوة. وها هو مصعب يطل علينا من جديد في معركة بدر في مقدمة الصفوف وطلائع المجاهدين. وكان حاملاً للواء المسلمين في هذه المعركة. كذلك لا يعطي اللواء إلا لمن كان أهلاً له. فاللواء ما دام مرتفعاً في المعركة ما دامت معنويات المقاتلين ومتى سقط سقطت معنوياتهم. لذلك كان الهجوم يتركز على حامل اللواء لماله من أهمية على سير المعركة. ومن الطبيعي أن لا يعقد اللواء إلا لمن كان شجاعاً لا يتزعزع إيمانه ولا تنثني ركبته ولا تتراجع همته ولا تنحني هامته ولا تلين قناته. وهكذا كان مصعب. وهكذا أضيفت صفة خير جديدة لمصعب الخير، فهو من أوائل المسلمين في دار الأرقم وهو أول المهاجرين وهو من كتب الله عليه يديه إسلام أهل المدينة وهو الآن من البدريين ولعل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل دلالة واضحة على منزل البدريين في الإسلام. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً عمر: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم». وكان حامل لواء المسلمين في معركتي بدر وأحد.
ولنا وقفة مع مصعب أمام أسرى بدر:
لقد كان النضر بن الحارث بين أسرى بدر. وكان شديد الأذى لرسول الله. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه بضرب عنقه. فطلب النضر من مصعب أن يتدخل ويطلب العفو له من الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لمصعب: لو أسرتك قريش لدافعت عنك فقال مصعب: «أنت صادق ولست مثلك. إن الإسلام قد قطع العهود بيننا وبينكم».
وكان أبو عزيز ـ وهو أخو مصعب ـ من بين أسرى بدر فمر به مصعب وقال للأنصاري الذي يأسره شد يديه به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقال له أبو عزيز: يا أخي أهذه وصاتك بي. فقال له مصعب: إنه أخي دونك.
وفي أحد دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك اللواء لمصعب تكريماً له في جهاده.
ولقد كانت بداية المعركة لمصلحة المسلمين. ولكن بعد أن خالف الرماة الذين وضعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على الجبل وأمرهم أن يحموا ظهور المسلمين وأن لا يغادروه مهما كانت النتيجة إلا بأمر منه انقلبت ريح المعركة وانهزم المسلمون بعد معصية الرسول في المعركة. وقد اشتد الأمر على الرسول وثبت من ثبت من المسلمين وكان مصعب بينهم. فضرب ابن قمئة لعنه الله يد مصعب التي يحمل فيها اللواء فقطعها ومصعب يهتف ]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ[ ثم أخذ مصعب اللواء بيده اليسرى فضربه فقطعها. فضمها بعضديه إلى صدره فحمل عليه اللعين ثالثة فقتله وسقط مصعب وسقط واللواء فابتدر اللواء أخوه أبو الروم بن عمير فلم يزل في يديه حتى دخل إلى المدينة حين انصرف المسلمون. وهكذا قتل مصعب ]وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ@ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[ ولما أشرف الرسول صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد ومن بينهم حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب قال: «أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جرح يجرح في سيبل الله إلا والله بعثه يوم القيامة يدمى جرحه. اللون لون الدم والريح ريح المسك. انظروا أكثر هؤلاء جمعاً للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه في القبر».
ولما مر الرسول صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير الشهيد وقف عليه ودع له وقرأ: ]مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً[ ثم قال: «أشهدوا أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة. فأتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلى ردوا عليه».
ومما نستفيد منه في دعوتنا من معركة أحد أن الحاجة قد برزت إلى الثلة الواعية التي أعدها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة لتقف معه عند الشدة وتفتدي بنفسها حياة الرسول ومسيرة الدعوة. وكذلك نحتاج إلى إعداد أنفسنا الإعداد الذي يدافع عن الدعوة والخلافة والخليفة عن الملمات. والشدة والزلزلة لذلك يستفاد من هزيمة أحد كما يستضاء من نصر بد. ويستفاد من الصبر على الزلزلة يوم الخندق كما يستفاد من الإعجاب بالكثرة التي لم تغن عنهم من الله شيئاً في معركة حنين. والتقي من وعظ وغيره.
وها هو خباب بن الأرت الذي جاهد وامتحن وصبر يتذكر مصعباً فيثني عليه قائلاً: (هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله فمنا من قضى ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يوجد ما يكفن فيه إلا نمرة كنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه. وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر» ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها).
وها هو عبد الرحمن بن عوف عندما أتي بطعام وجعل يبكي. فقال: (قتل حمزة فلم نجد ما يكفن به إلا ثوباً واحداً. وقتل مصعب بن عمير فلم يوجد ما يكفن فيه إلا ثوباً واحداً. لقد خشيت أن يكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا) ثم جعل يبكي.
وكانت زوجته حمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب تسقي العطشى في أحد. وتداوي الجرحى. ولما انتهت المعركة وجاء النساء يسألن عن أزواجهن وأولادهن وإخوانهن. جاءت حمنة بينهن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: «يا حمنة احتسبي خالك حمزة بن عبد المطلب». فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون رحمه الله وغفر له. ثم قال: «يا حمنة احتسبي أخاك عبد الله» قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون رحمه الله وغفر له. ثم قال: «يا حمنة احتسبي زوجك معصب بن عمير». قالت: يا حرباه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن زوج المرأة منها لبمكان».
هذا هو مصعب الخير فليكن لنا مثلاً في تضحيته وصدقه وإخلاصه ووعيه وشجاعته وثباته واستشهاده.
ولم يكن معصب وحده هكذا بل كان واحداً في كتلة الرسول في مكة وواحداً من مجتمع المدينة الفريد.
ويكفينا فخراً أن نكون على طريق الرسول صلى الله عليه وسلم نستشعر مشابهة الأوضاع والظروف التي تمر معنا وكانت قد مرت مع الرسول وصحابته. فوا لله ما أحد يهجر من دنياه شيئاً في سبيل الله ودعوته إلا عوضه الله خيارً منها.
وما من أحد منا يؤثر رضاء الله ويرتضي دعوته إلا بلغه الله منازل الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً.
فاللهم أعنا وسدد خطانا ووفقنا لإقامة شرعك ونشر دعوتك حتى لا يبقى بشر إلا وقد بلغته دعوة رسولك فنكون شهداء على الناس ويكون الرسول علينا شهيداً. اللهم آمين والحمد لله رب العالمين.
1990-06-07