بسم الله الرحمن الرحيم
دولة الخلافة وما يسمى بالأقليات (3)
علاقة دولة الخلافة برعاياها
——————–
ياسين بن علي
——————–
غير المسلمين في الدولة الإسلامية (أهل الذمة)
وجود غير المسلمين في دار الإسلام أمر حتمي وطبيعي؛ لأنه منسجم مع سنن الله الكونية القاضية بتنوع البشر واختلاف أديانهم، ومندرج في سنن الله التشريعية التي تحرم فتنة الناس عن دينهم، قال تعالى ( ) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )، وقال ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، وقال ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ). وهو أمر مطلوب إسلامياً لأنه طريق إلى هداية الناس إلى الدين الحق حين يخضعون لأحكام الإسلام فيلمسون عدل الإسلام وصحة أحكامه فيدخلون فيه طائعين عن رضا واقتناع.
والدولة الإسلامية دولة تطبق أحكام الإسلام في الداخل وتحمله بالدعوة والجهاد إلى الخارج، وترعى شؤون الرعية وتحمي الثغور. والمسلمون بمقتضى إيمانهم ودينهم ملزمون بتطبيق الإسلام وحمله بالدعوة والجهاد والدفاع عن ديارهم، كما أنهم ملزمون بإحسان الرعاية. وهم كذلك ملزمون بالخضوع لأحكام الإسلام. قال تعالى (في سورة الأحزاب): ( مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ْ)، وقال (في سورة النساء): ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ). ولذلك فإن المسلم الذي يحمل التابعية الإسلامية لا يحتاج إلى مزيد توثيق ليتمتع بحقوق التابعية ويلتزم بواجباتها؛ إذ دينه بحد ذاته يعد من أغلظ الميثاق، أما غير المسلم الذي يريد أن يحمل تابعية الدولة الإسلامية فإنه لا يؤمن بالإسلام ولا بأحكامه، وهو غير ملزم بمقتضى دينه بالدفاع عن بلاد المسلمين ودار الإسلام، لذلك فإن حصوله على التابعية في الدولة الإسلامية يستوجب حصول التزام من قبله تجاه الدولة والتزام تجاهه من قبل الدولة، والشكل القانوني لهذا الالتزام هو العقد. ولذلك بنى الإسلام وجود غير المسلمين في دار الإسلام، سواء أكان وجودهم مؤقتا أم غير مؤقت، على فكرة العقد، وهو موثِقٌ وعهد بين طرفين يستلزم حقوقاً وواجبات يراعيها العاقدان. قال تعالى: ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ). والمراد إن طلب منك أحد من أهل الحرب أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره أي أمّنه أو أعطه العهد والميثاق على ذلك؛ لأنّ الجوار هو أن تعطي الرجل ذمة أي عهداً وضماناً، وهو ما يفيد معنى العقد. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النّبي r قال: «ألا من قتلَ نفساً معاهدةً لهُ ذمَّةُ اللّهِ وذمَّةُ رسولِه، فقدْ أخفرَ بذمَّةِ اللّهِ، فلا يُرحْ رائحةَ الجنَّةِ، وإنَّ رِيحها ليوجدُ من مسيرةِ سبعينَ خَريفاً». وأخرج أبو داود عن عمرو بن شُعَيْبٍ عن أبِيه عن جدّه قال: قال رسول الله r: «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدّ مُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرّيهمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِه». وأخرج ابن هشام في السيرة عن عمر مولى غَفْرَة أن رسول الله r قال: «الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء السحم الجعاد، فإن لهم نسباً وصهراً». وفي هذه الأحاديث الثلاثة استعملت ألفاظ «العهد» و»الذمة» المفيدة للعقد؛ لأنّ الواقع اللغوي لهذه الألفاظ يدلّ على تقاربها.
جاء في لسان العرب: «والعَقْد: العهد، والجمع عُقود، وهي أَوكد العُهود». ومن الألفاظ القريبة من العقد لفظة العهد، قال الجرجاني (في التعريفات): «العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال، ثم استعمل في الموثق الذي تلزم مراعاته». ومن الألفاظ القريبة أيضاً لفظة الذمة. جاء في مختار الصحاح: «الذِّمامُ الحرمة، وأهل الذِّمَةِ أهل العقد. قال أبو عبيد: الذمة الأمان في قوله r «ويسعى بذمتهم أدناهم».
والعقد في الشرع هو ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يظهر أثره في محله. والذمة والأمان والعهد كلها عقود، فيها ربط بين طرفي الإيجاب والقبول المتمثل بكل من جهتي المسلمين وغير المسلمين. وبمقتضى عقد الذمة الذي يعقد بين غير المسلم والدولة الإسلامية يحوز غير المسلم على تابعية الدولة الإسلامية ويصبح من رعاياها، فله عليها حق الرعاية والحفظ والأمان، ولها عليه الخضوع لأحكام الإسلام، وأن يؤدي مالاً مقابل حفظه وحمايته لأنه غير مكلف بالجهاد.
هذا هو واقع عقد الذمة، فهو عقد على التابعية والحفظ والأمان، ومن يعقد لهم يُسمَّون في عرف الإسلام أهل الذمة. ونظرية عقد الذمة هي أرقى صيغة قانونية عرفتها البشرية لتنظيم العلاقة بين الدولة والمقيمين فيها من غير المؤمنين بالأسس التي قامت عليها أو الوافدين الجدد إليها ممن يرغبون في الإقامة فيها والحصول على تابعيتها. وإن المرء ليستغرب من النفور الموجود عند بعض المثقفين المسلمين وعند كثير من غير المسلمين من مصطلح أهل الذمة مع ما له من دلالات إيجابية وأخلاقية تشعر بالعهد والأمان ومسؤولية الدولة الإسلامية في حماية الذمي ومراعاة حقوقه، في الوقت الذي يتبنون فيه لفظ الأقلية مع ما فيه من إيحاءات سلبية وإسقاطات غير أخلاقية إذ أخذه من القلة يشعر بالاستضعاف وقلة الشأن، كما يفيد تحييد فئة من الناس في المجتمع من المجتمع.
إنّ دخول غير المسلم في ذمة المسلمين يوجب على الدولة وعلى المسلمين الوفاء بعهده وحسن معاملته، فيكون كالمسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم في إطار أحكام الشرع. وللوقوف على بعض الحقوق الممنوحة في الإسلام لأهل الذمة وعلى الدلالات الإيجابية التي يحملها هذا المصطلح نسوق بعض النصوص الشرعية:
– قال تعالى: ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )
– وقال تعالى: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ). أخرج الواحدي في أسباب النزول عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )، قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد، فتحلف لئن عاش لها ولد لتهوِّدنّه. فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا. فأنزل الله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ). قال سعيد بن جبير: «فمن شاء لحق بهم، ومن شاء دخل في الإسلام».
– وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبيr قال: «من قتل معاهداً لم يَرِحْ رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً».
– وأخرج أبو داود عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله r عن آبائهم دِنْية عن رسول الله r قال: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه [أي أخاصمه] يوم القيامة».
– وروى مسلم عن ابن أبي ليلى، أن قيس بن سعد وسهل بن حنيف، كانا بالقادسية فمرت بهما جنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض [أي من أهل الذمة المقرين بأرضهم على أداء الجزية]، فقالا: إن رسول الله r مرت به جنازة، فقام فقيل: إنه يهودي ؟! فقال: «أليست نفساً».
– وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير أن هشام بن حكيم وجد رجلا وهو على حمص يشمس ناساً من النبط في أداء الجزية، فقال ما هذا؟ إني سمعت رسول الله r يقول: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا».
– وذكر أبو يوسف في الخراج كتاب النبي r لأهل نجران وفيه: «… ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليه دنية، ولا دم جاهلية، ولا يخسرون ولا يعسرون ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقاًّ فبينهم النَّصفُ غير ظالمين ولا مظلومين… ».
– وأخرج البيهقي في الدلائل من كتاب عمرو بن حزم: « … ومن كان على نصرانية أو يهودية فإنه لا يغيَّر عنها…» وفي السيرة لابن هشام من كتاب الرسول r إلى وفد حمير: «… ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية…».
فهذا غيض من فيض النصوص التي تتحدث عن حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية ويظهر منها الحرص على حسن معاملتهم وإعطائهم ما لهم وفق الأحكام الشرعية.
علاقة الدولة برعاياها ومنهم أهل الذمة
تتجلى علاقة الدولة الإسلامية برعاياها في جانبين، الجانب الأول هو جانب الحكم ورعاية الشؤون، والجانب الثاني هو جانب تطبيق الأحكام الشرعية والقوانين.
أما في جانب الحكم ورعاية الشؤون فإنه لا يجوز للدولة أن تفرق بين رعاياها، بل يجب عليها أن تعاملهم جميعهم معاملة واحدة دون أي تمييز بناء على عرق أو لون أو جنس أو دين. جاء في المادة الخامسة والسادسة من مشروع الدستور المستنبط من كتاب الله سبحانه وسنة رسوله r وإجماع صحابته رضوان الله عليهم، والقياس الشرعي الذي قدمه حزب التحرير للأمة ليكون دستوراً لدولة الخلافة ما يلي:
«المادة 5: جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية يتمتعون بالحقوق ويلتزمون بالواجبات الشرعية.
المادة 6: لا يجوز للدولة أن يكون لديها أي تمييز بين أفراد الرعية في ناحية الحكم أو القضاء أو رعاية الشؤون أو ما شاكل ذلك، بل يجب أن تنظر للجميع نظرة واحدة بغض النظر عن العنصر أو الدين أو اللون أو غير ذلك».
والأدلة على هاتين المادتين مفصلة في كتاب مقدمة الدستور عند شرحهما، ويكفي أن نذكر هنا أن النصوص الشرعية التي جاءت تخاطب المسلمين في أبواب الحكم والقضاء ورعاية الشؤون جاءت عامة غير مفرقة بين مسلم وغير مسلم، ولا بين عربي وعجمي، ولا بين أحمر وأسود من الناس، بل جاءت آمرة بالتسوية والعدل، قال تعالى (في سورة النساء): ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ). فاستعمل هنا لفظ الناس الدال على العموم، وقال تعالى (في سورة المائدة): ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ). فأوجب العدل حتى عند البُغض، فالعدل هو أقرب للتقوى.
وقال r: «الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته» (رواه البخاري)، فجعله محاسباً عن رعيته كلها دون تفريق. وقال r: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة»، أخرجه أبو داود، فنص r في هذا الحديث خاصة على وجوب معاملة أهل العهد بالعدل، وجعل نفسه خصيم من ظلمهم يوم القيامة في إشارة إلى شدة حرمة مثل هذا الظلم. والنصوص الشرعية في هذا الباب كثيرة؛ ولذلك فإنه لا يعلم فيه خلاف بين المسلمين منذ فجر الإسلام، يقول ابن عابدين في الحاشية شارحاً معنى وجوب كف الأذى عن الذمي وحرمة غيبته كالمسلم: «لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد». وقال القرافي (في الفروق): «عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا، وذمة الله تعالى وذمة رسوله e، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيَّع ذمة الله تعالى وذمة رسوله r وذمة دين الإسلام، وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله e، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة».
هذا في جانب الحكم ورعاية الشؤون، وأما في جانب التشريع وتطبيق القوانين، فإن الإسلام جاء بنظام شامل لكل أمور الحياة، من عبادات وحكم واقتصاد وتعليم وسياسة خارجية وقضاء وغير ذلك، وهذا النظام وإن كان منبثقاً عن العقيدة الإسلامية غير أنه لا يقتصر على البعد الروحي، بل هو تشريعات وقوانين قابلة للتطبيق في دولة، والإسلام حين يأمر بتطبيق هذا النظام إنما ينظر إلى هذه الناحية التشريعية والقانونية فيه لا إلى الناحية الروحية الدينية، فيأمر بتطبيق الأحكام الشرعية على رعايا الدولة كلهم دون ملاحظة لاختلاف دينهم إلا في الأحكام التي تقتضي طبيعتها وموضوعها اختصاص أهل دين بها، كأن يغلب عليها الطابع الديني. فمثلاً أحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج وغيرها هي أحكام شرعية كسائر الأحكام الشرعية، ولكن القيام بها يستلزم الإيمان بالإسلام، فكان تطبيقها على غير المسلمين غير وارد؛ لأن ذلك يكون إكراهاً لهم على الإسلام فيما حرم الإسلام الإكراه في الدين؛ ولذلك فإن غير المسلمين يستثنون من تطبيق أحكام العبادات هذه ولا تطبق إلا على المسلمين، لأن إيمانهم بالعقيدة الإسلامية يوجب ذلك فلا يكون إكراهاً في حقهم. وبتتبع النصوص الشرعية وعمل النبي r وما كان عليه الخلفاء الراشدون يتبين أن الإسلام أوجب تطبيق أحكام الإسلام كلها على المسلمين دون استثناء. وأما غير المسلمين من رعايا الدولة فإنه جعل الأصل تطبيق أحكام الشرع عليهم كالمسلمين، وإن كانوا لا يؤمنون بالأساس الذي انبثقت عنه وهو العقيدة الإسلامية؛ لأن هذا ليس شرطاً في تطبيقها، واستثنى من ذلك أموراً لاعتبارات متعددة تقتضي هذا الاستثناء ويمكن أن نلخصها على النحو الذي جاء في المادة السابعة من مشروع الدستور لجزب التحرير:
«المادة 7 – تنفذ الدولة الشرع الإسلامي على جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، على الوجه التالي:
أ – تنفذ على المسلمين جميع أحكام الإسلام دون أي استثناء.
ب – يُترك غير المسلمين وما يعتقدون وما يعبدون ضمن النظام العام.
ج – المرتدون عن الإسلام يطبق عليهم حكم المرتد إن كانوا هم المرتدين، أما إذا كانوا أولاد مرتدين وولدوا غير مسلمين فيعاملون معاملة غير المسلمين حسب وضعهم الذي هم عليه من كونهم، مشركين أو أهل كتاب.
د – يعامل غير المسلمين في أمور المطعومات والملبوسات حسب أديانهم ضمن ما تجيزه الأحكام الشرعية.
هـ – تفصل أمور الزواج والطلاق بين غير المسلمين حسب أديانهم، وتفصل بينهم وبين المسلمين حسب أحكام الإسلام.
و- تنفذ الدولة باقي الأحكام الشرعية وسائر أمور الشريعة الإسلامية من معاملات وعقوبات وبينات ونظم حكم واقتصاد وغير ذلك على الجميع ويكون تنفيذها على المسلمين وعلى غير المسلمين على السواء، وتنفذ كذلك على المعاهدين والمستأمنين وكل من هو تحت سلطان الإسلام كما تنفذ على أفراد الرعية إلا السفراء والرسل ومن شاكلهم. فإن لهم الحصانة الدبلوماسية».
ما جاء في البنود «ب، د، هـ» بأدلته المفصلة المبينة في كتاب مقدمة الدستور عند شرح المادة السابعة هو تخصيص من قانون دار الإسلام لمصلحة غير المسلمين؛ إذ المسلمون ملزمون في هذه المجالات بأحكام الإسلام، وهذه الاستثناءات تجعل عيش غير المسلمين في الدولة الإسلامية عيشاً سهلاً مطمئناً لأنها تمكنهم من العيش حسب دينهم ومن تطبيق أحكامه دون أن يجدوا تناقضاً بينه وبين القانون العام في الدولة، فلا يقعون في الحرج ولا يشعرون بإكراه في الدين. أما سائر الأحكام التي يلزمون بها فهي أحكام لا تمس دينهم ولا تستلزم منهم التنازل عنه أو مخالفته لأنها ذات طابع عام، وهم عندما يعيشون في غير الدولة الإسلامية سيخضعون أيضاً لقوانين وتشريعات ليست في دينهم ولكنها من وضع البشر، فما الذي يضير غير المسلم إذا كان التشريع والقانون المطبق مأخوذاً من نص شرعي إسلامي؟ وما الفرق عنده فيما لو أخذ هذا التشريع من مصادر وضعية؟ فمثلاً يوجب الإسلام أن يكون النقد قائماً على قاعدة الذهب والفضة فيما لا توجب النظم الوضعية القائمة الآن ذلك، فأين الإشكالية في خضوع غير المسلم لهذا القانون في الدولة الإسلامية؟ ومثلاً يحرم الإسلام أي عمل للمرأة فيه استغلال لأنوثتها فيما تجيز الأنظمة الوضعية ذلك وتحث عليه، فهل يضير غير المسلم بوصفه الديني أن يخضع للحكم الشرعي في الدولة الإسلامية فيحفظ بذلك عرضه؟q