بقلم:فضيلة الشيخ عثمان صافي
صدر في بيروت كتاب «دراسات حول الربا والفوائد والمصارف» تأليف الشيخ فيصل مولوي من طرابلس – لبنان. وخلاصة غرض المؤلف أن يقول: الربا حرام على الأغنياء حلال للفقراء، بل هو ملك مشروع للفقراء. وقد قام فضلة الشيخ عثمان صافي – من طرابلس أيضاً – وأصدر كتاباً (مخطوطاً) بعنوان:
أحدث بدعة منكرة إفساداً للدين وتضليلاً للمسلمين:
استحلال الربا للفقراء
وزعم الفوائد المصرفية ملكاً لهم
وهو رد على كتاب الشيخ فيصل المذكور دون أن يتطرق لاسم الشيخ فيصل.
والأصل في مجلة مثل «الوعي» أن تركز على ما يوافق بين آراء المسلمين لجمع كلمتهم وليس على خلافاتهم وردود بعضهم على بعض. ولكن الأمر أكبر من أن يُسكَت عليه، والحق أحق أن يُتَّبَع. هذا العصر هو عصر الرأسمالية وعصر الربا، وقد أثر في كثير من (علماء) المسلمين المحدثين وجرفهم في تياره فصاروا يعطون الفتاوى التي توافق الهوى وتوافق العصر الرأسمالي ولو كانت تتصادم مع ما هو معلوم من الإسلام بالضرورة. ربما توهّم أصحاب هذه الفتاوى أنهم يحسنون صنعاً، ولكنهم مخطئون وخاسرون، ووهمهم هذا لا يبرئ ذمتهم أمام الله وأمام المسلمين.
وقد رأت «الوعي» أن تنشر قسماً من الفصل الثاني من كتاب الشيخ عثمان فيما يلي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكرة المؤلف: تعريف، ونقض، وكشف مغالطات وتناقضات
لقد سبق لنا أن عرفنا بفكرة المؤلف في أكثر من مناسبة، وهي تتلخص في قوله: «إن الفوائد حسب رأينا الفقهي ملك للفقراء» (ص76).
ولقد خصص المؤلف – لفكرته بعد تهيئة القارئ كي يتقبلها كما بينا – فصلاً، جعله الأخير في كتابه بعنوان: «ماذا نفعل بالفوائد المصرفية» (ص 69 – 77).
ومن الطبيعي، لدى من تراوده نفسه محاولة إفساد في شرع الله تعالى وابتداع ما لم ينزل به سلطاناً، بل الاعتداء على ما أنزل الله فيه سلطاناً، من الطبيعي أن يجد نفسه أمام اضطرار لممارسة أساليب شاذة، لا سيما حين يكون المستهدف استحلال أحد كبائر المحرمات إن لم نقل أكبرها على الإطلاق، والذي لم يقف الأمر بشأنه عند ثبوته القطعي بالكتاب والسنة والإجماع وحسب، بل استمر العمل على طهارة المجتمع منه طيلة العهود الإسلامية، التي لم يجرؤ أحد من نصراء الإسلام أو المناهضين له على مساسه بتحليل واقتحام ما اجترأ عليه المؤلف من حِمى.
ولا نحسب أنه سيكون غريباً على قارئنا أن ننقل له من عجائب ما حواه كتاب المؤلف وعلى لسانه – أنه صرح هو بالحقيقة السابقة، على طريقته في تعويد القارئ على قبول التناقضات – حيث يقول وتحت عنوان: «الربا في ظل الحكم الإسلامي»:
«إزاء التشديد في تحريم الربا في القرآن الكريم والسنة والمطهرة لم يعرف المسلمون التعاطي بالربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة، إلا أن مسالة الاستفادة من المال المجمد ونماءه بربح مضمون، ظلت تضغط على المسلمين حتى استحدثوا ما سميّ (بيع الوفاء) وهو بيع لأجل، يلتزم فيه المشتري بردّ العين المشتراة إلى البائع عندما يردّ الثمن إليه». وجاء كلامه هذا بعد عنوان سبع: «المصارف في البلاد الإسلامية» قال فيه – عن المصارف: «ولم تنتقل إلى البلاد الإسلامية إلا بعد انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى».
وبعد حديثه عن بيع الوفاء قال: «وهكذا وصلت الهزيمة النفسية تجاه المصارف الغربية، وفشل المسلمين في اكتشاف الوسائل الاقتصادية الكفيلة بجمع الأموال واستثمارها ضمن الحدود الشرعية، وصلت إلى آخرها في استباحة التعاطي بالربح الصريح دون مواربة أو خجل» (ص 52 – 53).
ولما كان المؤلف أمام طريق وعر، مكتظ بالأشواك، فإنه لم يكن له بد من اللجوء إلى وسائل وأساليب يستطيع بواسطتها أن يحمل قراء كتابه على هضم فكرته، فانحرفت به رغبته هذه عن أصول النظر وقواعد العلم جملة وتفصيلاً، التي يقتضيها الشرف بالانتماء إليه إضافة إلى موجبات التقوى، لدرجة اضطر معها إلى مزاولة طرائق التدليس والعبث بالمنقولات عن كبار من الأئمة، حتى جاءت فكرته – التي أجهد في محاولة الإقناع بها – مبتناة على محض جمهرة من الأباطيل، مغشاة بما لا سبيل إلى محاولة تصويره على أنه حقائق.
وأول استخفاف منه بالعقول، توجهه بالسؤال عن الذي جعله عنواناً للفصل الأخير الذي خصصه لفكرته، وهو «ماذا نفعل بالفوائد المصرفية»؟.
من قارئ، يقع هذا الكتاب بين يديه، لا تأخذه الدهشة من هذا العنوان، الذي لا بد وأن يتفاجأ به بعد مسلسل الكلام في الكتاب عن حرمة الربا، وحرمة الفوائد المصرفية على وجه الخصوص؟ وعرضه لآراء – رغم من حملت من شوائب، ونقله لمقررات مؤتمرات تكرس هذه الحرمة؟
ومن المؤسف – إن لم نقل المضحك والمبكي – أن نجد أنفسنا أمام اضطرار لتوضيح المغالطة في تساؤله هذا، الذي يتبوأ موضع الرأس في التمويه والاستخفاف بالعقول في بدئه عرض فكرته.
إن إنساناً عادي الثقافة – بل متدنّي الفهم – يمكنه إدراك أن الفوائد، طالما كانت حراماً، فإن تساؤلاً عما يفعل بها لن يكون له معنى، وأنه يحمل النقض لحكم حرمتها، واعترافاً – صريحاً وليس ضمنياً – بالاستدراج تمهيداً لتشريعها، أي إضفاء الشرعية عليها.
ويبلغ استهتار المؤلف بمدركات القارئ أنه – حتى في التقديم للباب الذي خصصه لفكرته – يكرر الإقرار بمأثم الربا، حيث يقول: «وفي حالات أخرى لا يكون التعامل مع المصرف قد وصل إلى حدّ الضرورة الشرعية التي تبيح له ذلك فإنه يأثم بلا جدال» (ص 7). وسيأتي أن لا ضرورة شرعية تبيح التعامل ربوياً مع المصارف، ثم يضيف: «وفي الحالتين». يقصد «الإيداع بضرورة أو دون ضرورة» يعود المؤلف ليجدد السؤال: «فلا بد للمسلم أن يتساءل: ماذا يفعل في هذه الفوائد الناتجة عن عقد ربويّ محرّم حتى لا يقع في مأثم آخر» (نفس الصفحة).
ونشير هنا، قبل الانتقال إلى معانٍ تالية – وهذا وذاك وذلك يدخل ضمن أساليب ووسائل المؤلف المبتناة على التمويه والإلباس – ابتدأ – وفي مستهل افتتاحه للكلام عن فكرته – بما يمهد له الاسترسال في تمرير التناقضات وتعويد القارئ على تقبل التناقضات، فلتمريره المحرم الذي لا شبهة فيه، قدم المحرم الذي فيه – على حد زعمه – اشتباه، بقوله:
«لا بد أولاً من الإشارة إلى أن هذه الفوائد قد تنشأ عن تعامل اضطراري في إيداع المال لدى المصرف» ( 70) هذا، مع أنه قيّد الضرورة في سابق كلام له عنها، ثم يضيف: «ولكن هذه الضرورة تنحصر في فتح الحساب الجاري، ولا يمكن أن تؤدي إلى إقراض البنك بالربا أو الاقتراض منه كذلك» (ص 59) فقدم التعامل للضرورة كمدخل – وشافع – لاتباعها بالربا غير المشتبه به، هذا، مع أنه – إذا استبيح الربا لغير الضرورة، فإنه لا يبقى لما هو في مصافّ الاضطرار معنى. وعسى أن يخصص كلام عن الضرورة بإذن الله تعالى وعونه.
وبعد عرضه لمبررات وجهة نظره وعلى رأس تلك المبررات «إن ترك الفوائد للمصارف ليس مشروعاً» وذكره الأسباب لعدم مشروعيته. يكمل فكرته بالقول:
«وإذا ثبت لدينا أن ترك الفوائد للمصرف ليس مشروعاً، فإنه لم يبق أمامنا إلا أحد احتمالين: إتلافها أو صرفها للفقراء، وإتلاف المال لا يقول به عاقل، وليس مطلوباً في الشرع… » حتى ينتهي إلى القول: «وإذا كان المال لا يتلف ولو كان حراماً، فلم يبق إلا أن يصرف للفقراء» (ص 72).
يلاحظ تخدير الكاتب للقارئ هنا، في تجاهله الفارق بين أن تكتسب الربا من مصرف على حين غفلة من مودع – وسيأتي كلام بهذا الخصوص – وهذا ما يستساع اشتباهاً، وبين وجهة نظره، أي نظر المؤلف، بإعطاء نفس الاعتبار لما يذكر من الاستحلال لكل وديعة لها مردود ربوي، الذي هو مقصد المؤلف من فكرته. ثم يشرع – بعد ذلك – بعرض منقولات توهمها أدلة، وسيأتي فضخ فساد الاحتجاج بها، وأنها لا تمت إلى ما يهدف ويهوي بصلة.
هكذا – بكلام مثقل بالتحايل على المعاني ويلبس فيه الحق بالباطل، ولا يتقبله قلب مؤمن بحال، وينفر منه طبعه وتشمئز نفسه إن لم نقل يرتجف فؤاده – وعلى غفلة من القارئ وممارسة أساليب من التأثير النفسي عليه وضع هذا الرجل حجر الأساس لإضفاء الشرعية على أشد ما حرّم الله تعالى من كسب فيما أنزل:
أولاً: مغالطة المؤلف الكبرى في تسويغ فكرته:
استناده الخاطئ إلى استباحة الحرام، وتشويه رأي الفقهاء في الإفادة من المحرم. من المعروف أن من المبادئ التي بني عليها الإسلام، إحلال الحلال وتحريم الحرام. فالله تعالى خلق العباد، وما حولهم، فأحل ما أحل لهم منه وحرم ما حرم، ولم يترك الوحي صغيرة من ذلك ولا كبيرة إلا وعرف بحكمها وبيّنه.
وكان مما شرع الله تعالى أن يجتنب المحرم ويغتني بالحلال، وأن تؤتى الواجبات ويستجاب له بترك المنهيات، حتى أعذر في الواجبات ما لم يعذر في الحرام، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» ذلك أن الواجب – وهو فعل – يتطلب كلفة وطاقة ولهذا حدود، بينما الحرام ترك، وهو موقف سلبيّ واجتنابيّ لا يعذر العبد بغشيانه.
ثم، بموجب أحكام الشرع – بخصوص ما حرم الله كالذي أحل، يتعين قبول تلك الأحكام، حتى يعتبر هذا القبول معياراً للإيمان فيدخل باب العقائد، كما أن رفضها – أو العبث بها – يدخل في أبواب الكفر والارتداد، وإذا كان لمسلم وجه أعذار فيما يشتبه عليه من أمر دينه، فليس كذلك الحال بالنسبة للقطعيات والبديهيات من أمور الدين، ومن الأخير: تحريم الربا، فإذا كان رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وهذه منه صلى الله عليه وسلم مزيد من الإيضاح والبيان لقوله تعالى: ]وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ[ فإن حكم خطر الربا يأتي في موقع الذروة مما هو مبيّن.
ومما ينبني – ديانة، وشرعياً، وأصولياً – على ما تقدم، أنه يمعرفة حكم الله تعالى في شيء حلال هو أم حرام، فإنه ينقطع الجدل فيه وإثارة الاشكالات حوله.
وفيما يتعلق بالربا – على وجه الخصوص – لم يقف الأمر بأهل العلم، والفقه، أن بيّنوا أحكامه العامة، ولكنهم أفاضو – رحمهم الله وجزاهم خيراً – في التعريف بمنافذ وتتبع محال الاشتباه فيه، والتعريف بكافة ملابسات احتمال الوقوع فيه، حتى أدنى صغيرة من ذلك، وخصصوا لذلك الصفحات الطوال، ونلفت – هامشياً هنا – إلى أن تحرياتهم خصصت القسط الأكبر منها لربا الفضل الذي شك فيه المؤلف وعبث بمنقولات عنه.
ما ذكرنا هو الموقف المتوجب تجاه ما شرع الله تعالى، والحيدة عنه بصدق فيها أنه اعتداء على الدين. قال تعالى: ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا[ (سورة الأحزاب: 36) وقال جل شأنه أيضاً: ]وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ[ (سورة النساء: 14) وبهذا المعنى توابعه آيات لا تكاد تحصى وكذا أحاديث.
وما ابتدع المؤلف من كفرة ورأي، يشكل أكبر التعدّيات على شرع الله تبارك وتعالى، وذلك بانحرافه عما أنزل. فبدلاً من القبول والإذعان لتحريم الربا القاطع – الذي شهد على نفسه بإقراره بعظم جرم فعله، واجتناب وتحاشي أي مسلك أو توجه مضادّ لما شرع الله، وجدناه يجرؤ على توجيه السؤال الآثم عن الفوائد الربوية ماذا نفعل بها.
والسؤال الذي يضغط على ذهن القارئ لكتابه أو من تبلغه فكرته: على أي شيء اعتمد هذا الرجل، حتى استساغ لنفسه مثل هذا الانحراف؟
والجواب فيما سبق من بعض ما مارسه من أساليب، وسيأتي التعريف بالمزيد من ذلك، وأما أكبر خدعة اعتمد عليها ومرّرها – على غفلة من القارئ – فهي استناده إلى وجهة نظر لأهل العلم في مسالة تتعلق بالحرام، مع أنها لا تمت إلى ما يهدف إليه بصلة.
رأي للفقهاء في الحرام (السائب) وتحريف المؤلف له:
في سبيل أن يتضح هذا للقارئ، ينبغي له أن يعلم أن الأصل في الحرام أن يكون محدد العين أو القدر، معروف الجهة التي نتج عنها والمسلك الذي أوصل مكتسبه أو الحائز عليه إليه، وهذا أمر بدهي، يدرك من نصوص لا يأتي عليها الحصر، وتشمل كل نص حرم الكسب من جهة معينة، أو حرم شيئاً أن ينتفع بهز حتى حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من المصادر المشتبه بها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ ليدنه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام… » وقوله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
ومما يعّرف بوضوح المحرمات، أن الله تعالى جعلها استثناء، حيث جعل الأصل في الأشياء الحلّ، إلا ما حرّم، وبهذا يحصر المحرمات ويحدد نطاقها، لا سيما وأن الله تعالى جعل لها معالم مُعترف بها.
غير أن مما ينبغي التنبيه إليه بهذا الصدد أن هذا الأصل هو فيما حرم من الأشياء دون الأفعال، التي تتطلب أحكاماً شرعية خاصة تحدد الواجب منها والمندوب والمحرم والمكروه والمباح، والربا طالها التحريم من الناحيتين: الفعل، وهو التعامل بها، والعين، وهو ما يكتسب عن طريق التعامل بها.
ثم، أن كافة المحرمات معرف كله في الكتاب والسنة، وبالتفصيل وبالغ الوضوح، ومحدد بكلياته وجزئياته، حتى لا تكاد تجد مما اختلف فيه بين الأئمة إلا النـزر اليسير، وإنما تكشف خلافاتهم من جراء تحريهم واستقصائهم، سواء في التعريف بأعيان المحرمات، أم السلوكات المحظورة.
ونجد هذا على أوسع وأشمل ما نجد، بخصوص الربا، فلقد تعقبوا مختلف صنوف التعامل من البيوع والرهن والإجارة وسواها، ولم يذروا باباً من أبواب الاشتباه إلا طرقوه، وعرّفوا بمسالك الحرمة والاشتباه في كل ما قد يتخاطر إلى الأذهان إلا وبينوا أحكام الله تعالى فيه.
ومن الجدير اللفت إليه في موضوعنا، أن ربا النسيئة لم يتطلب منهم جهداً ولا تقصّياً، ذلك أنه لا مجال البتة للنظر فيه، واستحوذت أذهانهم على ربا الفضل – كما أسلفنا – رغم وصف من وصفه بأنه حرام سداً لذريعة ربا النسيئة، وايلاؤه الاهتمام من قبلهم، وتشديدهم فيه، وإجماعهم على تحريمه – خلافاً لزعم المؤلف أنه لجمهورهم – يدل أوضح دلالة على بالغ اهتمامهم بالربا والتأكيد على فظاعة التعامل بها، والتحذير من مقاربة أدنى شبهات فيها، وبوسع القارئ أن يقدر سبب اهتمامهم بالذرائع، وأدق دقائقها، وهذا يجعل المحرم الأكبر في منزلة هي فوق ما يقبل النظر أو المساس.
غير أن الفقهاء، توسعاً منهم في التعريف بدين الله وأحكام الشرع، لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا وتطرقوا إليها في أبحاثهم، فتناولوا بالنظر كافة الاحتمالات وتفاصيل أحداث قد تعرض للمسلم. وكان مما نال حظاً من تحقيقاتهم: «الحرام»، حين ينقطع عن سببه، ويجهل مصدره ومناط تحريمه، ويتعذر معرفة أصله ومورده، أو إعادته إلى مرجعه.
ماذا يفعل به؟
ولتوضيح هذه النقطة نقول:
أن حراماً يصل إلى يد، من المفترض أن يكون مصدره معروفاً: سرقة مثلاً أو نهباً، أو نصباً، أو ناتجاً عن تعاقد محرم، بيع أو إجارة أو رهن أو سوى ذلك.
ففي حال حصول تجاوز للشرع، ولا يحصل البتة أن يتواجد حرام الا بتجاوز للشرع، إماّ قصداً، أو خطئاً. أقول: في حال تحقق اكتساب حرام بارتكاب مأثم، فالمتعين على المسلم أن يصحح الوضع، ولا خلاف بين أهل العلم قاطبة على الأمرين جميعاً: وجوب امتناع المسلم عن الكسب الحرام، وإعادة المكتسب عن طريق الحرمة إلى الجهة التي كانت تملكه عن طريق الحلال.
والواجبان هذان متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، حتى يصح القول: أن من يحلل محرماً مكتسباً عن طريق غير مشروع، ثم يُحِلّ استبقاءه أو التصرف به وعدم إعادته إلى جهة حله، يعتبر مستحلاً لما حرم الله، وهذا ارتداد والعياذ بالله تعالى.
من هنا أوجب الشرع أن يعاد الحق إلى نصابه، ووجوب إعادة الأوضاع – مطلق أوضاع – إلى مواقعها التي تتفق مع أوصافها الشرعية، وإعادتها تتفق – من الوجهة التشريعية – مع شرعة تحريم الحرام، ذلك أنه من قبيل التناقض في مبادئ التشريع، أن يحرم الحرام، ثم يسمح بإقرار التجاوز باكتسابه، بل أن الإسلام – دين الله تعالى الحق – ألحَقَ مأثماً بالمكتسب للمحرم، وفرض على صنوف منه عقوبات في الحياة الدنيا قبل الآخرة، إضافة إلى وجوب إعادته إلى وضعه من الحل، كالمسروق يعاد إلى المسروق منه، مع تحمل السارق تبعة السرقة.
والسؤال – الذي طرحه الفقهاء هنا: ماذا لو جُهل مصدر الحرام، وأيسَ من معرفة مصدره، أو حصل عائق يحيل إعادة الأمور إلى نصابها، بإرجاع الحرام إلى مالكه الأصلي الذي امتلكه عن طريق حِل، بان جُهد هذا المالك، حتى لم تتوفر أية وسيلة لرفع «وصف الحرمة» عن هذا المال، وإعادة «وصف الحل» إليه، حتى انقطعت الصلة لهذا المال – كل الانقطاع – بسبب وجوده ومصدره؟.
ههنا – وههنا فقط – واجه أئمتنا من السلف – رحمهم الله – السؤال الذي اعتمد عليه المؤلف تضليلاً: ماذا يصنع بالفوائد الربوية.
ومن يتأمل رأي الفقهاء يجد أن ميلهم إلى إنفاق المال السائب في وجوه الخير دون إتلافه، يرجع إلى أن أصل ومبدأ نوضحه فيما يلي:
أن المالك الأساسي لكل مال هو الباري جل شأنه، وإنما هو وديعة عارية في أيدي عباده من عليهم باستباحة الانتفاع به بشروط لاستحلاله.
وحين يضيع مال بأن يخرج عن وضعه الذي له فيه وصف يجعله مشروعاً، فإن هذا المال يضحى سائباً، ومن البدهي أنه – بخروجه من اليد التي ملكها الله إياه، وانتفاء وجود مالك شرعي له ترجع ملكيته إلى مالكه الأصلي، وهو الله تعالى.
وبارتفاع وصفه «ملكاً لفلان» – مثلاً، وانعدام مالك له، وتواجده – غير الشرعي – بيد آثمة، أو غير آثمة، فإنه – حين يكتسب وصف الحرمة لاقتنائه من إنسان بغير حق، فإن هذا الوصف يرتفع، حين يعاد ويحال إلى مالكه الأصلي، وهو الله تعالى.
الوضع الجديد لهذا المال، يعيد له وصفه بـ «الطيب»، ويترتب على هذا، أنه لم يعد خبيثاًن وبانتفاء وصف الخبث عنه، ينتفي الأشكال الذي يترتب على إفادة الفقير منه، من توهم أنه استبيح للفقير خبيثاً من العطاء أو الكسب.
وبهذا يتضح، أن ما قرره الفقهاء بشأن المال السائب، ينتظم مع مبدأ عدم التفريق بين غني أو فقير، بوجوب التحري وعدم الذوق لمال، إلا أن يكون طيباً، أي حلالاً.
غير أن ما نذكره من هذه الحقائق – والأصول – المتعلقة بالحرام، مقيدة بما نقلنا عن أهل الفقه من شروط للتصرف بالمال والتأكد من سيابته، وانقطاع أمل في إمكانية تصحيح وضعه.
والمؤلف بدعته التي استحدثها لا تمت إلى ما قصده الفقهاء بخصوص المال الحرام، وذلك من ناحيتين اثنتين:
الأولى: اضفاؤه الشرعية على كسب الحرام، بإقراره التعامل الربوي، واعتبار وجهة نظره – وهي فكرته – مخرجاً وحلاً لما صوره مشكلة، وحقيقة هذا الرأي استحلال لما جعله الله تعالى أشد ما يكون حرمه، استحلاله، بحجة مضللة والتي استند فيها إلى أن هذا المال ليس ملكاً للمصرف، ولا للمودع، مع أن مبدأ الكسب لهذا المال ممنوع وأبوابه موصدة بأشد ما يكون من الأحكام في الإغلاق.
الثانية: تغاضي المؤلف: كي يمر معه التجاوز السابق – عن القيود والشروط لاعتبار المال سائباً، وأن ما قرره الفقهاء من شرعية تحويل هذا المال للفقراء أو وجوه الخير، إنما ابتنى على أساس كون المال مما يصح إدخاله ضمن هذا الإطار.
وهكذا بجرة قلم وتسجيل خواطر وكلمات ناشز سطرت على ورق، شذ المؤلف عن شرع الله، ورسم له مساراً على نقيض ما أنزل، وبإقراره لأشد ما يكون من الكسب حرمة، وأكثر إبعاداً للمسلم عن ربه، جعله حلالاً بذرائع منها إعطاؤه للفقراء ويتقرب بذلك إلى الله، ضارباً – عُرضاً – بما يترتب عليها من نقض للشرع، وإفساد للدين.
فليس من قيمة تصفى على هذه الفكرة، سوى أنها صدرت عن شيخ يتبوأ منصب قضاء، وهذا الوصفان لا موقع لهما في ميزان العمل أو أي معيار من معاييره هذا في أزهى عهوده، فكيف في زماننا الذي نعيش فيه من أواخر أيام الدنيا؟
قال ربنا جل شأنه – فيما أوحى ووجه:
]أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ (المائدة: 16) ¨