على أثر الأحداث الأخيرة حدثت نقلة نوعية في التفكير عند أهل البلد (السعودية) بعامة وعند الشباب الواعي بخاصة.
فقبل أحداث الخليج كان للعلماء التقليديين – ابن باز وابن عثيمين… – سلطان لا ينازع على الشباب، ورغم وجود تململ بين أوساط الشباب لما كانوا يرونه من انحرافات متزايدة عن الإسلام، إلا أنهم ما كانوا ليخرجوا عن رغبة العلماء. وطبعاً كانت العقدة الرئيسية في هذا: وجود عدم الخروج على أولي الأمر. إلا أن موقف العلماء من الاستعانة بالكفار جاء ليزعزع ثقة الشباب بهم لمعارضته لما هو معلوم من الدين بالضرورة. وقد جاءت فتوى العلماء المجيزة للاستعانة بالكفار ضربة قاصمة لنفوذهم على الشباب المسلم، خاصة إذا علمنا أنه خلال السنين الأخيرة كان هناك تركيز على ملفت للنظر على دوائرهم على مفهوم «الولاء والبراء». فقد عملوا من خلال مؤلفاتهم ومحاضراتهم على نشر هذا المفهوم وتعزيزه، بل وجعله أساساً من أسس العقيدة. وقد كان أحدهم عندما يُستفتى عن جواز استقدام خادم أو خادمة نصرانية أو هندوسية يقيم الدنيا ولا يقعدها. فإذا بهم يجيزون الاستعانة بمئات الآلاف من جيوش الكفار.
وقد شاءت رحمة الله أن يكون هناك بصيص من نور وسط هذا الجو الظلامي. فمنذ بداية الأحداث قام الشيخ سفر الحوالي – رئيس قسم العقيدة في جامعة أم القرى في مكة – بإلقاء سلسلة من المحاضرات الجماهيرية انصبّت على معارضة التدخل الأميركي.
وقد كان للموقف القوي الجرئ الذي وقفه الشيخ سفر الأثر الحاسم في إحداث تبلور واضح في الرأي العام – في وسط الشباب الملتزم – مناقض لموقف العلماء ورافض لفتواهم. وقد اغتاظ العلماء التقليديون من الشيخ سفر لأنه فضح موقفهم ن وإن لم يتخذ منهم موقفاً هجومياً مباشراً – وسفه رأيهم وأفسد عليهم الرأي العام. فسارعوا إلى دعوته للقاء بهم بشكل خاص وطلبوا أن يكون الحوار والنقاش محصوراً بينهم، أي أن لا ينشر على العامة. وقام أحمد نائب وزير الداخلية والمسؤول عن المخابرات بالاجتماع مع الشيخ سفر طالباً منه عدم إحداث بلبلة في المجتمع في هذه الأيام العصيبة. فقام الشيخ سفر بتأليف رسالة من 120 صفحة مطوّلة وجهها بشكل خاص إلى العلماء، أي لم تكن رسالة مفتوحة لعامة الناس. إلا أنها تسربت بعد ذلك وتدولت عن طريق الأيدي. هذه الرسالة تفصل كثيراً في الأدلة الفقهية التي تحرم الاستعانة بالكفار، فقد سبق له وعالج هذه الناحية في محاضراته السابقة. إلا أنها ركزت في جلها على فهم الواقع السياسي للازمة، بالذات كشف مطامع أميركا في المنطقة وتخطيطها لاحتلال آبار البترول منذ سنين على عهود نبكسون وكارتر وريغان. أي أن الرسالة أرادت أن تقول إن العلماء لم يفهموا مناط الحكم وبالتالي كانت فتواهم في غير موضعها، وعليه فإنها فتوى خاطئة باطلة.
وقد تلقف الشباب المسلم هذه الرسالة وغيرها بشغف شديد إذ أكدت هذه الرسالة لهم جهل العلماء. وهكذا ظهر تيار جديد في البلد مغاير للعلماء. فبالإضافة إلى الشيخ سفر الحوالي تكلم الشيخ ناصر العمر والشيخ سلمان العودة والشيخ إبراهيم لبابيدي، تكلموا كلهم مؤيدين لموقف الشيخ سفر ومحذرين من الاستعانة بالأميركان. ولكن الشيخ سفر كان أكثرهم جرأة ووضوحاً في طرحه.
ثم تزامنت أحداث لتؤكد للشباب المسلم خطورة الوضع وما تدبره أميركا للمنطقة، منها مظاهرة النساء بالسيارات في الرياض والتي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. ثم جاءت كتابات غازي القضيبي وزير الصحة السابق والذي يشكل رأس حربة التيار العلماني في البلد، الذي يطالب بحكم ديمقراطي علماني، وإن لم يجهر بذلك بوضوح. فقد قام القصيبي بنشر كتاب اسماه «حتى لا تكون فتنة» حذر فيه من حتمية الحرب الأهلية الوشيكة الوقوع (حسب زعمه) بين السلفيين والعلمانيين.
ثم ضمن الكتاب هجوماً لاذعاً ضد الشيخ ناصر العمر والشيخ سلمان العودة والشيخ عائض القرني، أما الشيخ سفر فلم يتصدّ له. والذي يبدوا أن الشيخ سفر عنده من العقلية ومن الوعي ما يجعله هدفاً صعب المنال للقصيبي ولغيره. إلا أن الشيخ سفر حجازي ولا يُعرف بعد إلى أي مدى يستطيع أن ينجح في قيادة النجديين. فالشباب النجدي تغلب عليه عصبية – للأسف – ولذا تجدهم يلتفون حول الشيخ سلمان العودة (قصيبي). فما نشر كتاب القصيبي أسرع بعض السلفيين إلى الرد عليه خاصة وأنه [أي القصيبي] قد ضمن كتابه هجوماً مباشراً على مشايخهم، واتهمهم بأنهم يريدون أن يكونوا خمنيين. واتهم العودة بأنه يطمح لأن يكون خميني السعودية وعنف عليهم قائلاً بأن الحكم في السعودية قائم على الإسلام أصلاً وليس هناك من حاجة لأناس يتسترون باسم الدين للوصول إلى أغراض سياسية. ثم هاجم تنصيبهم أنفسهم أوصياء على الدين، وقال إنه ليس في الإسلام ولاية الفقيه، وبالتالي فتفسير النصوص الشرعية ليس حكراً عليهم. ثم ناشد العلماء الكبار أن يبينوا للناس عدم مشروعية قصر العلم على أشخاص دون آخرين، واستعان ببعض الأمثلة من كتابات الغزالي ليبين أن هناك مسائل فقهية اختلف فيها الفقهاء. ولذا فليس لأحد الحق أن يدعي لنفسه احتكار الفهم الشرعي، وهكذا.
فقام آخرون وردوا عليه. ولا زالت الساحة تتفاعل مع هذه الكتابات. ولا بد من الإشارة إلى أن ظهور هذه الرسائل المتضادة هو ظاهرة جديدة في المجتمع السعودي الذي كان إلى الأمس القريب خامداً من الجهة الفكرية. بينما هو الآن يغلي بعدة تيارات فكرية، حتى أن الحجاز – وهم المعروفون بخضوعهم لآل سعود وأهل نجد عموماً – قد تحركوا مؤخراً. وتفيد الأنباء بوجود عشرات منهم في السجون خاصة اتباع الشيخ سفر، وهم وإن لم يكونوا حزباً منظماً إلا أن اتباعهم لآراء الشيخ ونشرهم لها كاف لجعلهم مستهدفين من قبل السلطة. وقد يقول قائل: لِمَ لا تبطش السلطة بالشيخ سفر؟ والجواب معروف وهو أنه ليس في صالحها ذلك. فهذا من شأنه أن يلهب الشارع ضدها، إذ تفقد مصداقيتها هي وعلماء السوء الذين يوالونها. وهناك كثير من الأسباب التي تدفع بالسلفيين إلى التشكك بالحكم بالسعودية. والسلفيون يدركون أنهم مستهدفون من قبل أميركا، ويفسرون كل حدث بناء على هذه النظرة، فمظاهرة النساء كانت موجهة من الأميركان ضدهم، وكذلك حملات غازي القصيبي، وكذلك مشروع الدستور الذي زعم فهم أنه يضع اللمسات الأخيرة عليه في أول الأزمة. وهم يتخوفون من أن يكون مجلس الشورى مقدمة لإدخال العلمانيين فيه وإعطائهم وزناً مؤثراً في سياسات الدولة.
كل هذا بالإضافة إلى وعيهم على مطامع أميركا يزيدهم خوفاً. إلا أن السؤال يبقى قائماً. فهم ليسوا حزباً وبالتالي فليس لهم برنامج محدد المعالم وإن كانت الأحداث الأخيرة ساهمت في بلورة كثير من الأفكار عندهم، وكلهم الآن في مرحلة من التساؤل عن مجريات الأحداث ومن وراءها؟ وما دورهم هم؟ وما هو هدفهم؟ وهل حقاً أن السعودية دار كفر؟ وما هو موقف العلماء؟ ومن هي القيادة الجديدة؟ فمن الواضح الآن بروز تيار جديد مخالف ومنازع لسيطرة العلماء القدماء. وأبرز قيادي التيار الجديد الشيخ سفر والشيخ سلمان العودة والشيخ ناصر العمر، وهؤلاء عندهم اتباع من الشباب الذين يقودون، في مناطقهم، الشباب الآخرين. ومن المواضيع الأساسية الآن: هل السعودية دار كفر أو لا؟ كثيرون منهم يدندنون حول الفكرة ولكنهم يخشون الاعتراف بها¨