النباهة والاستحمار
1989/12/06م
المقالات
3,089 زيارة
إعداد: محمد أبو وائل
(الاستعمار) بالمفهوم الشائع اليوم هو فرض هيمنة الأقوياء على الضعفاء بهدف الاستغلال. وهذه الهيمنة تكون عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو فكرية. وأسوأ أنواع الاستعمار هو الاستعمار الفكري.
وقد نجح الغرب الكافر في بسط نفوذه الفكري على بلاد المسلمين وأبناء المسلمين. وقد رأينا أن الغرب يهاجم الفكر الإسلامي مباشرة في بعض الأحيان، ومداورة أحياناً أخرى. وحين يهاجم الفكر الإسلامي مداورة وتضليلاً يستعمل أسلوب (الاستحمار) مع المغفلين من المسلمين.
والمقال التالي مستوحى من محاضرة للدكتور علي شريعتي، رحمه الله، كان ألقاها في عام 1392هـ (1972م). ونحن نلخص ما جاء فيها مع بعض التعديلات البسيطة، والتدخلات القليلة.
إن الحالة الخاصة التي نعيشها تفرض علينا أن نقول كلمتنا الأخيرة أولاً، وأن نقرأ الكتاب من آخره، ومن هنا فإن الموضوع قد يبدو مملاً للذين لم يتعرفوا بعد على الظروف الفكرية للقضايا التي سأعرضها، وقد يحتاجون لمزيد من التأمل والدقة وخصوصاً أن الكلام يدور حول مسائل فكرية ليس علمية.
وقبل البدء بالشرح والتفصيل أريد أن أقول: يجب أن نكون نبهين، ولا نتوهم أنفسنا مغتنين فكرياً بالكفاءة العلمية، لأنها كفاءة كاذبة، ومدعي الاكتفاء كاذب، وهذا نوع من الغش الذي يختص به المتعلمون وحملة الشهادات في زماننا؛ لأن المتعلم بعد أن ينال دراسات عالية ويكتسب معلومات واسعة، ويتعرف إلى أساتذة كبار وإلى كتب مهمة، يشعر أنه أصبح مشبعاً بالعلم، يحسُّ في نفسه رضىً وغروراً، ويظن أنه بلغ من الناحية الفكرية أقصى ما يمكن أن يبلغه الإنسان الواعي، ولا شك أنَّ هذا انخداع يبتلى به المتعلم أكثر من غيره.. قد لا يفكر الأستاذ أو الفيزيائي أو الأديب أو المؤرخ أو الفيلسوف أنه يمكن أن يكون لا شيء من الناحية الفكرية وأنه في مستوى أقل العوام شعوراً، وحتى الأمي الذي لا يحسن الخط مثلاً قد يكون أرقى منزلة في الدراسة الإنسانية وفي معرفة الواقع والمجتمع. إن بقاء المتعلم سطحيّ التفكير فاقد الشعور، وإعطاءه ألقاباً بارزة كالدكتور والمهندس والبروفيسور حالة مؤلمة جداً فيما لو استمر هذا المتعلم عديم الفهم والنباهة والشعور بالمسؤولية تجاه أمته، إن خطر بقاء المتعلم سطحياً وأخرس وأعمى ولا شيء لخطر كبير جداً، لأن الإنسان إذا أُشبع بالعلم لم يعد يشعر بالجوع الفكري وبأهمية الفكر في حياة الأمة.
إن مجتمعات العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية المتأخرة صناعياً والتي لم تصل بعد إلى مستوى الأوروبيين والأميركيين في شتى المناحي الفنية، إن هذه المجتمعات الفقيرة المتخلفة تملك قدرات هائلة تستطيع أن تقف ضد الغرب وتجبره على الخضوع والاستسلام في وقت بلغ فيه الغرب الذروة من حيث التقدم العلمي والتقني، ورغم إقدامه على شراء النابغين والمتفوقين من العالم الثالث، حيث أنه مركز المال. وهذه الكفاءات صارت كالسلع المعدة للبيع والشراء تتبع المال أينما كان. إن امتلاك الغرب للميراث العلمي واحتفاظه بجميع الذخائر في الفروع العلمية كافة، سواء منها تلك التي ابتدعها هو أو تلك التي أخذها عن غيره، لا يعصمه من الخضوع أمام مجتمعات لا تملك أي نوع من أنواع الأسلحة، وقد يكون أفرادها حفاة ولا يمتلكون حتى آلة للدفاع عن حياتهم وحياة أسرهم! فمن هما طرفا الجدال والقتال في هذا العصر إذاً؟!
إنه «العلم»في معركة مع «الفكر»، هذا الحافي الجائع الذي قضى عليه أن يبقى فقيراً مريضاً. ولكنه ـ أي الفكر ـ إذا تسلح بالإيمان والعقيدة، فإنه سيستطيع بنباهته التغلب على ذاك الذي جمع المقدرات العلمية والصناعية وادّخر ثروة العالم، وحتى لو كان هذا الفكر أمِّياً.
إذاً هناك شيء آخر غير الثورة والقدرة والعلم والتكنولوجيا، شيء لو صرفنا النظر عن وجوده لهزمنا أمام حفاة الدهر، إنه الفكر والعقيدة، فإذا ما فقدناه فإننا سننهار من الداخل مهما بلغنا من التقدم العلمي والتكنولوجي (شرط أن نبلغ ولكنا لا نبلغ).
إن المجتمع الذي يرتبط بهدف عالٍ، بعقيدة وإيمان، يتفوق على كل قدرة؛ إنَّ مجتمعاً كهذا ستكون له بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة حضارة كما ستكون له صناعة وسينتج على مستوى عالمي أيضاً، وهناك نماذج كثيرة في الزمن الماضي، وفي وقتنا الحاضر. أما إذا كان المجتمع فاقداً لنموذج يهدف إليه، فاقداً للإيمان وللوعي الفكري والسياسي، وليس همه إلا التقدم العلمي والصناعي، فإن وُفِّق لنيل ما يروم ـ ولن يوفَّق ـ فإنه سيبقى مستهلكاً وإن ظن أنه منتج، وهذه هي الخديعة الكبرى التي وقعت فيها جميع البلاد المتأخرة، فخسرك قوة الفكر، خسرت ذلك الشيء الذي يهب الرقيق العجوز المحروم قدرة تزلزل الجبال. وهكذا فإذا كنا أصحاب عقيدة فإنه متى وفّقنا أن نجتاز مرحلة الإيمان بنجاح، فإننا سنكون صانعين لأكبر مدنية. أما إذا لم نشعر بنقص فكري ولم تنكشف لنا قضية الإيمان والعقيدة، ولم تتضَّح طريقنا، فإننا سنبقى محتاجين أرقاء للمنتجين، نعتمد على حضارتهم ونستهلك إنتاجهم. ولقد كشفت التجارب طيلة الخمسين سنة الماضية [أي السبعين سنة الماضية] أن المجتمعات التي بدأت من نقطة عقائدية، وتحركت بعد تحقق وعيها الفكري والسياسي، وقفت اليوم في صف القدرات التي تصنع المدنية العالمية. لكن المجتمعات التي اقتدت بالحضارة الغربية دون وعي سياسي ودون عقيدة، بل بمجرد نهضة كاذبة، قد ظلت مستثمرة للحضارة الغربية مستهلكة على الدوام، وخاضعة للذل والعبودية تحت سيطرة الاستعمار، والأمثلة والنماذج على ذلك متوفرة وكثيرة!!.. ماذا عمل بنا الغرب نحن المسلمين؟ لقد احتقر ديننا، شعورنا، فكرنا، ماضينا، لقد استصغر كل شيء لنا إلى حدٍ أخذنا معه نهزأ بأنفسنا ونسخر من أمتنا ونشمئز منها. أما الغربيون فقد فضلوا أنفسهم وأعزوها، ورحنا نحن نقلدهم في الأزياء والأطوار والحركات والكلام والمناسبات، وبلغ بنا الأمر أن المثقفين عندنا صاروا يفخرون بأنهم نسوا لغتهم الأصلية، ويتباهون بتطعيم كلامهم بالألفاظ الإفرنجية!! ما هذه السخافة؟! وكيف يفخر الإنسان بفقد شعوره ووعيه!؟ وما أشبهه عند ئذ بالعبد الذي يُهينه سيده ويضربه فيلجأ إليه ليأمن سخطه. هكذا يلجأ العنصر الذي يعتبر نفسه راقياً ويعتز بتمدنه إلى تحقير شعوب أخرى لأجل السيطرة عليها واستعمارها حتى يضر المهان من تلك الأمور التي سببت إهانته ويلجأ إلى المصدر الذي شنَّع عليه وأعابه فيخرج نفسه على شاكلته لئلا يقع في إطار تهمة وتشنيعه [وممن وقع في هذا الفخ علماء المسلمين الذين نادوا بإلغاء تعدد الزوجات والذين قالوا إن الجهاد حربٌ دفاعية والذين حاولوا إلغاء أحكام الجزية والذين قالوا تتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان، والذين يتلمسون للأحكام الشرعية الأدلة العلمية ـ مع أن الحكم الشرعي دليله النص وليس العلم ـ وغيرهم ممن حاولوا الفرار من اتهامات الغرب فوقعوا في مصيدته].
إن الثقة بالنفس توفر للإنسان الوعي الفكري، وهو أن يعرف أي فكرٍ يختار، وبأي أمة يجب أن يرتبط، ولأي مبدأ أو أي حضارة ينتمي، أين هو الوعي الذي يجعلني أشعر بنفسي كموجود إنساني. كما توفر له الوعي السياسي بالمعنى الرفيع للسياسة لا بمعناها الصحفي اليومي بل بالمعنى الرفيع، أي بشعور الفرد بمرحلة المصير التاريخ للمجتمع وعلاقته به، وشعوره بانضمامه وارتباطه بأمته، وشعوره بمسؤوليته كرائد وقائد في الطليعة من أجل الهداية والقيادة والتحرير.
فالنباهة إذاً نباهتان: نباهة إنسانية (فكرية) ونباهة اجتماعية (سياسية). والشعب الذي يفقد هاتين النباهتين يصبح مهندسه خير وسيلة لاستيراد البضائع الغربية إلى بلاده، وعالمه موظف أجير يستمد فكره ونهجه في التحقيق الأجنبي داخل البلاد وخارجها. وهكذا نرى أن أدمغة العالم الثالث تنقسم إلى قسمين: قسمٌ منها يصدِّر إلى الخارج باذلاً نبوغه وقابليته في خدمة الأجنبي غير عابئ بما قد يخسر مقابل ألفي تومان تزاد على الراتب، وقسم يعود إلى البلاد ليشكل الدعامة الخامسة للبلاد لاستهلاك واردات الأجنبي سواء منها البضائع التجارية أو الأفكار المنحرفة.
إن الشيء الوحيد الذي ينجي الإنسان والأمة من شؤم الاستنزاف الفكري هو النباهة الإنسانية والنباهة الاجتماعية اللتان تتحدث عنهما الرسالة العقائدية الإسلامية، وينبغي أن تكون هاتان النباهتان مقياساً لكل مسلم، فالمزوِّرون اليوم أصبحوا على درجة من الخبث لا يستهان بها، إنهم يصنعون في الأساس عيناً ونظرة، ولذا فالإفلات من مصائدهم وكشف مخططاتهم يستلزم للإنسان أن يبصر ويعلم في أي مؤامرة معقدة يدور، وبعدها أي شيء يريدون فعله بهذا الجيل، ومن يغفل عن هذا سيكون ضحية لمدية في أيديهم، يُسَرُّ ويرقص لذبحهم إياه في بلاهة وحماقة مدهشتين.
لا بد من مقياس للتطبيق: لا بد من الدارية الفكرية الإنسانية ولا بد من الدراية السياسية الاجتماعية. وأي دعوة أو كلام أو ثقافة تكون خارجة عن إطار هاتين الدرايتين ليست إلا تخديراً للأفكار من أجل تسخير الإنسان كما يُسخَّر الحمار، ومن هنا أطلق على هذا العمل إسم «الاستحمار»!!
فمعنى الاستحمار إذاً في تزييف فكر الإنسان وشعوره وتغيير مسيره عن الوعي الإنساني والاجتماعي. إنه لمن سوء الحظ أن لا ندرك ما يراد بنا، فنُصرف عما ينبغي أن نفكر فيه كأفراد ومجتمعات فيصيب عدوُنا الهدفَ ويسخر طاقاتنا وقدراتنا في سبيل خدمته كما يُسخَّر الحمار ونحن لا نشعر!!. ومن أجل هذا قلتُ: «إنك إذا لم تكن حاضر الذهن في الموقف فكن أينما شئت» كن واقفاً للصلاة أو جالساً لمطالعة أحد الكتب العلمية أو راكضاً خلف الكرة في ملعب كرة القدم أو منكباً على تأليف رسالة في الفقه أو على حفظ أحد التفاسير… فالمهم أنك لم تكن حاضراً في الموقف. إن المستعمرين ـ من أجل صرفك عن الحقيقة التي يشعرون بخطرها ـ قد لا يدعونك دائماً إلى القبائح والانحراف حتى لا يثيروا انتباهك فتفر منهم إلى المكان الذي ينبغي أن تصير إليه، بل هم يختارون دعوتك حسب حاجتهم، فيدعونك أحياناً إلى ما تعتقده أمراً طيباً من أجل القضاء على حق كبير، حق إنسان أو مجتمع؛ فعندما يشبُّ حريق بيت جارك ويدعوك أحد للصلاة والتضرع إلى الله في هذا الوقت ينبغي أن تعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق والانصراف عنه إلى عمل آخر هو «الاستحمار» وإن كان عملاً مقدساً، وإن أي جيل ينصرف عن التفكير في الدراية الإنسانية كعقيدة واتجاه فكري ومسير حياتي وتحرك مداوم إلى أي شيء حتى ولو كان مقدساً هو الاستحمار بعينه.
إن الإسلام حين يُفهم على حقيقته كعقيدة حية واضحة تتصل بكل لحظة من حياة الإنسان والمجتمع فتجعل إلزامه بأوامر الله ونواهيه التزاماً صادقاً متيناً، يصبح تحركه تحركاً واعياً واثق الخطوات، ينم عن عمق في الدراية الإنسانية الفكرية، بحيث لا يسمح للأفكار الدخيلة أن تشوّش عليه فكره فتبقى عقيدته صافية نقية حية متفاعلة مع حياته وسلوكه، كما ينمُّ عن عمق في الدراية الاجتماعية السياسية بحيث تحدد له عقيدته قضاياه بدقة ووضوح، وتجعل وجوده من أجل نصرة مبدئه وتطبيقه في الواقع، وهذا ما يدفعه إلى إدراك الواقع إدراكاً عميقاً مستنيراً فيعرف ما يدور حوله محلياً ودولياً وما هي الخطوات والمواقف التي يجب اتخاذها.
هذا هو الإسلام في حقيقته، عقيدة فكرية سياسية ينبثق عنها نظام لكل شؤون الحياة: نباهة فكرية وسياسية ينتج عنها التزام متين بالأوامر والنواهي، هذا هو الإسلام الواعي أما الدين الاستحماري فهو الذي يقول لك: «لأي شيء تتحمل ثقل المسؤولية الاجتماعية ولأي شيء تحارب الظلم والطغيان؟ يكفيك أن تفتح كتاب الأدعية وتقرأ هذا الورد ست مرات وبعدها لا يبقى عليك شيء وستغفر ذنوبك كلها!! أو يكفيك أن تحفظ ما تستطيع من آيات القرآن غيباً فإنك سترقى بكل حرف درجة في الجنة!! أو يكفيك أن تدخل السرور إلى قلب واحد أو تقضي حاجة آخر حتى تبدل سيئاتك حسنات وتقضي عنك كل المسؤوليات الاجتماعية!!!».
للاستحمار إذا شكلان: مباشر وغير مباشر. فالمباشر منه عبارة عن تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة وسوقها إلى الضلال والانحراف. وأما غير المباشر فهو عبارة عن إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية الفرعية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية الكبيرة [وذلك كإلهاء المسلمين بالمطالبة بالرغيف من أجل صرفهم عن المطالبة بهدم النظام الفاسد أو إلهائهم بالمطالبة بجعل يوم الجمعة عطلة رسمية من أجل صرفهم عن المطالبة بالحكم بما أنزل الله…].
فمثلاً لنفرض أنني أنا قيِّمٌ على صغير غني وأريد أن ألهيه فأختلس ممتلكاته وأنقلها باسمي دون أن يعلم، فقصدي إذاً أن أستحمره بإحدى أدوات الاستحمار، فإذا ما رأيته جميلاً ذا قامة مناسبة أشجعه على الرياضة ذاكراً له محاسنها فيسير في واد من الخيالات والأمنيات كالمباريات الدولة والألعاب الأولمبية ويعيش أسير أحلام الشهرة وما شابه، وإذا رأيه من غير هذا النوع بل من طراز أولئك المثقفين المتجددين فأشجعه على الدراسة وأذكر له فضائل العلم حتى يحصل على الشهادات العالية ثم أعمل حتى أساعده على السفر، إلى أميركا لإتمام دراسته وأتكفل بتأمين ثلاثة أو أربعة آلاف تومان له شهرياً وما ذلك إلا لاختلاس ثروته وميراثه؛ وإن كان غير صالح للرياضة أو للدراسة بل هو من نوع أولئك العاطفيين يهوي العزلة والخيالات، فأشجعه على الزهد والعزلة والأدعية والزيارات وأبذل له كامل ما يريد من أجل نذور وزيارة، وما ذلك إلا لكي ألهيه وأقضي حاجتي معه!!.. وأخيراً يصبح عندنا جماعة مشغولة بالأدعية وأخرى مهووسة بالرياضة وفريقٌ منشغل بالفنون والآداب وآخر بالعلم فكل شيء إذاً يشغلني أنا كإنسان ونحن كمجتمع عن النباهة الفكرية والنباهة السياسية هو أداة استحمار مهما بدا حسناً وجميلاً.
1989-12-06