استئناف الحياة الإسلامية
1989/12/06م
المقالات
2,612 زيارة
سيد قطب
الذين يفزعون حين ندعو إلى استئناف حياة إسلامية، وإلى إقامة مجتمع إسلامي، ويتخوفون أن يكون في هذا الاتجاه ما يجور على طائفة، أو يوقع الاضطرابات في علاقة..
هؤلاء؛ إنما يقيمون فزعهم وتخوفهم على غير أساس، ويستمدونها من الجهل بحقيقة الحياة الإسلامية وطبيعة المجتمع الإسلامي.
إننا ندعو إلى عالم أفضل حين ندعو إلى استئناف حياة إسلامية، وإلى إقامة مجتمع إسلامي.. وإننا ندعو إلى عدالة اجتماعية أكلم من كل تصور للعدالة الاجتماعية، في أي نظام آخر فرفته البشرية. كما ندعو إلى تنسيق أجمل لطبقات الأمة وطوائفها وأفرادها جميعاً.
إن العالم الآن يعاني حيرة فكرية واجتماعية، ويعاني اضطراباً في نظمه وأوضاعه، ويعاني قلقاً لا اطمئنان فيه على نظام للحكم أو نظام للحياة، ويجد الحانقون على الأوضاع القائمة، في كثير من بلاد العالم الفرصة السانحة للهدم: هدم النظم السياسية، والنظم الاجتماعية، لأن هذه النظم أصبحت مزعزعة وعلى وشك الانهيار، حتى في البلاد التي تظن أن نظمها ثابتة، وأنها تملك من القوى المادية ما تدافع به عن هذه النظم.
ولكن النظم لا تحميها المدافع والدبابات، والقنابل الذرية، والجيوش والبوليس، وأن النظم تعيش لأنها تلبي حاجة طبيعة في حياة المجتمع، وحاجة شعورية في ضمائر الناس. فأما حين تفقد هذين السندين، فإن قوة الحديد والنار لن تكتب لها الحياة، وعبر الحياة كلها تنطق بهذه الحقيقة، التي تكذب على مدى التاريخ.
فنحن حين ندعو إلى استئناف حياة إسلامية وإلى إقامة مجتمع إسلامي، إنما نريد أن نتقي الهزات الاجتماعية المدمرة، وأن نقيم حياتنا كذلك على أرض صلبة، وعلى أسس أعمق من الأسس المزعزعة التي لا تستند إلى عقيدة، ولا ترتكز إلى فكرة.. وفي الوقت ذاته نطلب لنا ولكل من يهتدي بهدينا، حياة أفضل في عالم أفضل.
إن النظام الإسلامي، هو النظام الوحيد في العالم اليوم، الذي يقوم على أساس فكرة «العالمية» بمعناها الصحيح. لأنه النظام الوحيد الذي يسمح بأن تعيش في ظله جميع الأجناس وجميع اللغات وجميع العقائد، في سلام… وذلك إلى جانب تحقيق العدالة المطلقة بين جميع الأجناس وجميع اللغات، وجميع العقائد.
والماركسية تدعي أنها تهدف إلى نظام عالمي ولكن أي نظام عالمي لا يمكن أن يقوم بلا حرية في العقيدة، وبلاد الستار الحديدي كلها تحرم قيام عقيدة فيها غير العقيدة المادية، ومن لا يعتنقون هذه العقيدة لا يستطيعون مزاولة نشاطهم في الاتحاد السوفياتي أو سواه، ذلك إذا استطاعوا مجرد الحياة!
إننا ندعو إلى نظام، تستطيع جميع العقائد الدينية أن تعيش في ظله بحرية وعلى قدم المساواة، ويتحتم فيه على الدولة وعلى جماعة المسلمين، القيام بحماية حرية العقيدة، وحرية العبادة للجميع، وأن يلجأ غير المسلمين في أحوالهم الشخصية إلى ديانتهم كذلك، وأن يكون لجميع المواطنين فيه حقوق وتبعات متساوية، بدون تمييز… وأن يرتكز هذا كله على عقيدة في الضمير، لا على مجرد التشريعات والنصوص، التي لا تكفي وحدها للتنفيذ السليم.
إننا ندعو إلى نظام، يملك جميع أجناس العالم، من سود وبيض وحمر وصفر أن تعيش في ظله بحرية وعلى قدم المساواة بلا تفريق بين العناصر والألوان واللغات. لأن كلمة غير واضحة الإنسانية تجمعهم، بلا تمييز عنصري ولا محاباة فيه.
إننا ندعو إلى نظام، الحاكمية فيه لله وحده، لا لفرد من البشر، ولا لطبقة ولا لجماعة. وبذلك تتحقق فيه المساواة الحقيقة. ولا يكون لحاكم فيه حقوق زائدة على حقوق الفرد العادي من الشعب. ولا تكون هناك شخصية أو شخصيات مقدسة فوق مستوى القانون. ولا تكون هناك محاكم خاصة للشعب، ومحاكم خاصة للوزراء أو غير الوزراء. إنما يقف فيه الحاكم الأعلى مع أي فرد من الشعب أمام القضاء بلا تمييز ولا استعلاء.
إننا ندعو إلى نظام يجعل لجميع المواطنين حقاً عاماً في الثروة العامة. لأن الملكية فيه أصلها للجماعة ـ مستخلفة فيها عن الله ـ والملكية الفردية عارضة، وفي حدود الانتفاع والفضل للجماعة حين تحتاج إلى فضول الأموال.
إننا ندعو إلى نظام، يقوم على أساس التكافل الاجتماعي، بل صوره ومعانيه، فلا يجوز فيه فرد أو يظمأ، وفي يد آخر فضلة زائد من ماله.. ثم يعمهم التكافل ويوسع دائرته. فإذا الجماعة مسؤولة عن كل فرد فيها، في إعداده للعمل، وتهيئة العمل له، وعن رعايته في أثناء العمل.. ثم عن كفالته إذا احتاج بعد ذلك، أو تعطل، أو عجز لسبب من الأسباب. لا تفرق في هذا التكافل بين عقيدة وعقيدة ولا بين جنس وجنس، ولا بين طبقة وطبقة.
نحن ندعو إلى نظام إنساني يقيم علاقاته الدولية على أساس المسالمة والمودة، بينه وبين كل من لا يحاربونه، ولا يحادونه، ولا يؤذون معتنقيه، ولا يفسدون في الأرض، ولا يظلمون الناس. فهو لا يحارب إلا المعتدين المفسدين الظالمين.
نحن ندعو إلى هذا النظام، فما الذي يخيف فرداً أو طائفة أو دولة، من أن يقوم مثل هذا النظام، في أي بقعة من بقاع الأرض، وخاصة إذا كان هذا النظام قائماً على أسس أخلاقية وطيدة، ومشاعر وجدانية عميقة، تضمن تنفيذ مبادئه، بدافع من داخل النفس، لا بمجرد القوة والسلطان.
أن قيام مثل هذا النظام، في بقعة من الأرض، يعد ضماناً للبشرية كلها، من الانحدار والتردي والهدم والتخريب لأنه يقيم لها منارة في وسط الظلام والأعاصير، ويمكن أن تهتدي بها وتفيء إلى شاطئ الأمن والسلام.
والبشرية اليوم في مفترق الطرق، وهناك اضطراب في الأفكار، وحيرة في الاتجاهات، وزعزعة في النظم فما الذي يؤذي هذه البشرية ـ أو فريقاً منها ـ حين يقوم نظام أخلاقي كي يحقق لها العدالة والطمأنينة والحرية والمساواة؟
إنه لا بد للمجتمعات اليوم من عقيدة، فخواء المجتمعات الغربية من العقيدة يجرفها دولة بعد دولة وشعباً بعد شعب إلى هاوية المادية. وهذه المجتمعات الغربية لا تملك أن تدفع عن نفسها هذه الكارثة لأنها تعتمد على القوة وحدها في دفع مذهب يصوغ نفسه في شكل عقيدة.. أما نحن فإننا نملك.. أن لدينا فرصة ليس متاحة للغربيين. إننا نملك إقامة نظامنا الاجتماعي على أساس عقيدة أقوى وأشمل وأكمل. فمن المحق إذن: أن نفرط في هذه الفرصة تقليداً للمجتمعات الغربية، التي تترنح وفي يدها القوى المادية بكل صنوفها، ونحن لا نملك إلا القليل من هذه القوى.
أريد أن أسأل: ما الذي يخيف جماعة أو دولة من هذا النظام، الذي يقوم على عقيدة تحميه وهي يحمي الجميع، ويقدم العدل للجميع، ويدفع عن نفسه هجمات المادية، بحكم ما فيه من مناعو، ومن قوة ذاتية، ومن تفوق في بنائه الفكري والاجتماعي؟
إنهم يتحدثون عن الفراغ، الذي يحدثه انسحاب جيوش الاستعمار من الشرق العربي الإسلامي! ويخشون أن تدهمنا الشيوعية! فإن كانوا صادقين في هذا فلماذا لا يدعوننا نسد الفراغ الاجتماعي في كياننا بإقامة نظام سليم، وطيد الأركان، متصل بعقائدنا الثابتة، وهو في الوقت ذاته عادل حر، يملك جميع البشر أن يعيشوا في ظله بسلام؟
لماذا يقفون في طريق تحقيق هذا النظام بنفوذهم المباشر. وهذا النظام يقوم في صد تيار الشيوعية عنا مقام مائة فرقة على الأقل، ومقام عشرات القواعد العسكرية والحصون.. هذه القواعد، التي لم تدفع عنهم في بلادهم زعزعة النظم الاجتماعية وتسرب الشيوعية؟
إنهم يحاربون هذا النظام؛ لأنه حين يقوم سيطارد الاستعمار كما يطارد الشيوعية. ولن يسمح لأي لون من ألوان الاستعمار تحت أي اسم، وتحت أي ستار، أن يعيش في هذا الوادي، ولا في الوطن الإسلامي كله.
لهذا هم يحاربون هذا النظام العادل الكامل، الذي يستمتع بحمايته وعدله واتباع ديانته ومخالفوه على السواء.
فلندرك نحن هذه الحقيقة، إن كان لنا عقل، وإن كان فينا إدراك. فقد آن أن نرتفع في التقليد على مرتبة الببغاوات والقرود.
1989-12-06