سؤال وجواب؟
1991/09/06م
المقالات
2,453 زيارة
السؤال:
هناك حديث شريف يقول: «لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرّض من البلاء ما لا يطيق».
يستدل بعض المسلمين بهذا الحديث على أن المسلم ينبغي له الابتعاد عن البلاء (أي المشاكل الصعبة). وبشكل أوضح فهم يأخذون من الحديث رخصة لترك بعض الواجبات ولارتكاب بعض المحرمات للابتعاد عن الوقوع في المشاكل. فمثلاً العمل السياسي لإقامة الدولة الإسلامية يعرّض العامل لنقمة الحكام: من سجن إلى طرد من الوظيفة إلى تعذيب جسدي. فهل في الحديث رخصة للقعود عن العمل في مثل هذه الحالات. وموالاة النظام القائم؟
الجواب:
قبل الكلام عن فقه هذا الحديث لنتكلم عن سنده، لنرى هل هو فعلاً حديث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وقال: حديث حسن غريب. قال ابن أبي حاتم عنه: “هذا حديث منكر” وقال الألباني “هو حديث منقطع” وأضاف الألباني: ثم وجدت للحديث شاهداً من حديث ابن عمر مرفوعاً، وفي سنده زكريا بن يحيى المدائني. يقول الألباني: إن كان زكريا بن يحيى المدائني هو أبو يحيى اللؤلؤي كان الحديث صحيحاً. أي أنه علق صحته على هذا الشرط [انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني المجلد الثاني ص 172]. فانقطاع السند الأول مؤكد، والسند الثاني فيه مجهول، فلا يصح الاستدلال بالحديث لأنه لم يصل إلى مرتبة الصحيح أو الحَسَن، وإن قال بعض الرواة إنه حسن لجهلهم بالعلة القادحة.
هذا من جهة السند وأما من جهة المعنى فلا بد أن نفهمه على ضوء الأحاديث الصحيحة وعلى ضوء الآيات الكريمة التي تناولت هذه المسألة. فعبارة (ما لا يطيق من البلاء) تحتاج إلى فهم شرعي: ما هي حدود الطاقة، وما هو الذي يعتبره الشرع فوق الطاقة؟ فما كان فوق طاقة الإنسان فهو غير مكلف به شرعاً لقوله تعالى: ]لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا[[البقرة:286]. ولا يجوز ترك حدود الطاقة أو حدود الوَسْع لكل فرد أن يقررها هو حسب مزاجه وهواه.
ونلفت نظر القراء إلى مراجعة تفسير الآية (106) من سورة النحل: ]مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ[[النحل:106] الآية جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله: “أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كيف تجد قلبك»؟ قال: مطمئناً بالإيمان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عادوا فعد»”. وأضاف: “ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل… وهو يقول: أحد، أحد. ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها. رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك”. وأضاف ابن كثير: “والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي”.
فالمسلم لا يحل له أن يترك فرضاً أو يرتكب محرماً إلا إذا تعرض إلى بلاء لا يطيقه فعلاً، وحدود الطاقة أو حدود الوسع هو ما عبرت عنه الشريعة بالإكراه الملجئ وهو وقوعه فعلاً تحت التعذيب أو توقعه الحقيقي إنزال التعذيب به، ذلك التعذيب الذي يخشى معه الهلاك أو الشلل أو كسر العظام أو قطع اللحم، فإن هذا يعطيه رخصة ليس لارتكاب كل محرّم بل لارتكاب بعض المحرمات التي لا تجر إلى محرمات أكبر منها أو مثلها.
ولا يحل لمسلم أن يترك فرضاً أو أن يرتكب محرماً خوفاً من إهانة أو تعذيب بسيط أو حرصاً على وظيفة أو مال أو رهبة من سجن، لأن كل ذلك ليس فوق الطاقة وليس أكثر من الوسع، ولا يصل إلى حد الإكراه الملجئ.
ولو كانت كل مشقة تُوجد رخصةً للمسلم أن يترك الفروض ويغشى المحرمات لما قامت للإسلام قائمة ولما وُجدت أمة إسلامية مجاهدة.
يقول تعالى: ]لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ[[التوبة:117] قال ابن كثير: “خرجوا إلى الشام عام تبوك في لُهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها” وكان خروجهم واجباً، والثلاثة الذين تخلفوا وقعت عليهم عقوبة المقاطعة. وقد بين الله فضيلة الصبر والتضحية: ]ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ @ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[[التوبة:120-121].
فالمسلم مفروض عليه أن يُقْدِم على الجهاد: ]كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ[[البقرة:216] بما فيه من تعريض النفس للقتل والجراح والأسر وفراق الأموال والأحبة. والأمر ليس متروكاً لهمّة المرء أن يضحّي أو لا يضحي، بل هو مجبر قال تعالى: ]قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[[التوبة:24]، ]يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ[[التوبة:111]، ]وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ[[الصف:11]، ]انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاَ وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ[[التوبة:41]. فإذا كان المسلم في الجهاد مكلفاً بكل ذلك فليس غريباً أن يكون مكلفاً بذلك أو بما هو قريب منه في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسألة مسألة نصوص وتكليف شرعي وليست مسألة مزاجٍ شخصي ليقدر كل فرد وسعه وطاقته حسب هواه.
ففي حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل في بلاد المسلمين لهدم أنظمة الكفر وإقامة الخلافة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله كلف الله المسلمين بالتضحية بالمال والنفس وتحمل المشقات والصبر عليها، كما كلّف في حالة الجهاد، وإن كانت أحكام الجهاد تختلف عن أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحكام إقامة الخلافة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله». ويقول: «كونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير، فوالله لموتة في طاعة الله خير من حياة في معصيته». ويقول: «لا يمنعنّ رجلاً هيبة الناس أن يقول بحقٍ إذا علمه». ويروي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه يقول يوم القيامة لمن يحجم عن قول الحق: «ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشيةُ الناس. فيقول: فإياي كنت أحقَّ أن تخشى». ويقول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» قال النودي في شرح الحديث (صحيح مسلم): “أما قوله صلى الله عليه وسلم فليغيره فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتابُ والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين”. وأنظمةُ الكفر المهيمنة في بلاد المسلمين هي من أكبر المنكرات، بل هي رأس الشر الذي يحارب المعروف وينمي المنكر ويحميه. فلا بد من إزالة رأس المنكر هذا. ومعلوم من الدين بالضرورة أن هذه الأنظمة هي منكر، ولا يعذر أي مسلم في جهل هذه الحقيقة مهما كانت معلوماته ضئيلة. وكل مسلم يستطيع أن يفعل شيئاً ما لإزالة هذا المنكر وإيجاد المعروف الذي هو الدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله. فكل مسلم لا يعمل لهذا هو آثم ومقصر في واجباته الدينية، وليس له رخصة للقعود عن هذا العمل لا في الحديث المذكور في السؤال ولا في غيره من النصوص.
وهؤلاء الذين يفتشون عن رخصة للهروب والقعود يزدادون إثماً حينما ينشرون روح الانهزامية والذل في الأمة والركون إلى الظالمين والتملق لهم.
1991-09-06