زلزال الاتحاد السوفياتي
1991/09/06م
المقالات
1,766 زيارة
زلزال الانقلاب في الاتحاد السوفياتي كان متوقعاً، وقد أنذر بوقوعه مستشار غورباتشوف الإصلاحي الكسندر ياكوفليف بعد استقالته من الحزب الشيوعي قبل حصول الانقلاب بأيام قليلة، فتوقع أن يتمكن المتشددون من طرد غورباتشوف خلال المؤتمر العام الذي سيعقده الحزب في تشرين الثاني المقبل، واعتبر أن انتصار الجناح المحافظ يفرض التخلص من جميع ممثلي الجناح الإصلاحي. وحذر من أن مجموعة ستالينية نافذة تشكلت داخل النواة القيادة للحزب، وقال: أن هذه المجموعة تحضر لانقلاب ولانتقام اجتماعي.
كما أن غورباتشوف نفسه في بيانه الثاني الذي ألقاه في مجلس السوفيات الأعلى عقب رجوعه إلى موسكو بعد فشل الانقلاب قال: “لم يحدث الانقلاب بغتة لقد أنذرت به تهجمات هستيرية يمينية في صحافتنا، وخلال اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، وتصريحات استفزازية من قبل الجنرالات، والتخريب المكشوف للكثير من قرارات البيريسترويكا في بُنى الحزب والدول. كانت المؤامرة بقصير العبارة قد نضحت، وكان هناك من الأسباب أكثر مما يلزم لاتخاذ تدابير عاجلة لحماية النظام الدستوري، بيد أن هذه التدابير لم تتخذ، وكان التساهل يتقدم على التدابير الفعالة. وأنسب ذلك إلى نفسي بالدرجة الأولى” ولذلك حمل نفسه جزءاً من مسؤولية الانقلاب لكونه سار على سياسة التوازن بين المتشددين والإصلاحيين، ولكونه لم يكن حازماً في تنفيذ الخطوات الإصلاحية، ولم يحزم أمره لضرب المتشددين عندما ظهرت بوادر تآمرهم.
لقد أقّتت لجنة الطوارئ – التي يمثل أعضاؤها تحالف المعارضين من الحزب والمؤسسة العسكرية – الانقلاب قبل يوم واحد من موعد التوقيع على معاهدة الاتحاد ليحولوا دون تفكيك الاتحاد السوفياتي، وللمحافظة على وحدة أرضه، وإعادة بناء الاتحاد السوفياتي بعد أن أوصلته البيريسترويكا وخطوات الإصلاح إلى الطريق المسدود وإلى الفقر والمجاعة. ولإنهاء سياسة الإملاء التي تتخذها أميركا والدول الغربية حياله، ولانتشاله من حالة مسايرة أميركا ومشاركته في تنفيذ سياساتها ومخططاتها، بحيث فقد شخصيته كدولة عظمى نِدٍّ لأميركا، وظهر بمظهر التابع لها بغية أن تقدم له مساعدات اقتصادية لتنشله من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يتخبط فيها.
ويبدو أن أعضاء لجنة الطوارئ لم يكونوا متصورين ما حدث للشعب السوفياتي خلال السنوات الست الماضية من تغيرات، كما لم يكونوا يتوقعون أن تتمرد عليهم قطعات الجيش والاستخبارات، وترفض تنفيذ أوامرهم في ضرب الشعب، كما يبدو أنهم لم يكونوا متوقعين أن تقوم مقاومة من الشعب ومن الجمهوريات لانقلابهم، ومن هنا جاء فشلهم أسرع مما يتصور.
وقد جاءت نتائج الانقلاب على عكس ما كان يهدف إليه، وكأنه كان معداً لتحصل هذه النتائج العكسية. فقد فتح الطريق للإسراع في الخطوات الإصلاحية بعد أن أُلغيت سيطرة الحزب والمحافظين والمتشددين في الحزب والدولة والجيش والاستخبارات، وقد تمزق شمل الاتحاد، وأعلنت الغالبية العظمى للجمهوريات السوفياتية استقلالها، وإن كان سيبقى بينها شيء من الاتحاد فسيكون اتحاداً كونفدرالياً لجمهوريات مستقلة استقلالاً تاماً لا يبقى فيه للمركز في موسكو أي تأثير له قيمة كما كان في السابق.
كما أن الحزب قُضي عليه بأيدي قادته وزعمائه، فقد أعلن غورباتشوف وهو أمينة العام انسحابه منه ومن مسؤولية الأمانة العامة، ومنع وجوده في الجيش والاستخبارات وغيرها من المؤسسات، وأعلن عن مصادرة أمواله وممتلكاته وقد سبقه يلتسن فمنع وجوده في الجيش والاستخبارات والدوائر وفي جميع روسيا، وقرر مصادرة أمواله وممتلكاته، وكذلك عملت بعض الجمهوريات الأخرى، ثم جاء مجلس السوفيات الأعلى – قبل أن يقرر حل نفسه – فقرر تعليق نشاط الحزب الشيوعي السوفياتي على كافة أراضى الاتحاد السوفياتي، وتجميد حساباته وعملياته المالية. وبذلك قضي على الحزب الشيوعي السوفياتي بعد أكثر من سبعين عاماً من انفراده بحكم الاتحاد السوفياتي، وقضي عليه بأيدي قادته وزعمائه. حتى إن تماثيل رموز قادته حتى المقدسين منهم لم تسلم من إطاحة الجماهير الناقمة على الشيوعية وعلى حكم الحزب الشيوعي بها. وبالقضاء على الحزب الشيوعي السوفياتي سَيُقضى على الفكرة الاشتراكية والشيوعية ليس من الاتحاد السوفياتي فحسب، بل من العالم أجمع، كما سيقضى على الأحزاب الشيوعية في الدنيا كلها.
وأن القضاء على الحزب الشيوعي بأيدي قادته وزعمائه وبالتالي القضاء على الفكرة الشيوعية والاشتراكية في هذه الفترة القصيرة ليدل دلالة واضحة على فساد هذا المبدأ، وأنه لولا الحديد والنار لقضي عليه من زمن بعيد. بينما مبدأ الإسلام قد مرّ عليه أربعة عشر قرناً وهو باق على الزمان رغم محاربة أعدائه الكفار له محاربة شديدة على مدى الأربعة عشر قرناً، وقد شنوا عليه أقسى الحروب، ودبروا له أشد المكائد، وأفظع المؤامرات، وهو باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لأن الله سبحانه قد تعهد بحفظه وحمايته.
وقد كان من نتيجة الانقلاب الفاشل أيضاً وضع حد لتدخل الجيش والاستخبارات في مجرى السياسة وفي رسمها. إذ طُهّر الجيش والاستخبارات من العناصر المتشددة التي تقف في طريق الإصلاح، ومن العناصر التي كان لها ضلع في الانقلاب، أو سكتت عليه ولم تقاومه من كبار القادة والضباط، كما وُضِعت قوانين لتحول دون تدخل الجيش والاستخبارات، ودون إمكانية قيامها بأية عملية انقلابية.
لقد انطفأ سطوع نجم غورباتشوف بعد هذا الانقلاب الفاشل، وسطع نجم يلتسن لوقوفه أمام الانقلاب، مما جعله يأخذ زمام المبادرة ويقرر لنفسه ولروسيا سلطات هي من صلاحيات رئاسة الاتحاد السوفياتي وقد ضعف غورباتشوف أمامه على أساس مقاومة يلتسن هي التي أفشلت الانقلاب وأعادته للرئاسة، وصار يلتسن يملي عليه كثيرا من الأوامر والقرارات فلا يسعه إلا تنفيذها، وقد اضطر إلى أن يعقد مع يلتسن شراكة في الحكم وعقدا اتفاقاً بينهما ليحل أحدهما مكان الآخر فيما لو حصل لأحدهما أي مكروه. وقد هان شأن غورباتشوف وضعف أمره، وصار ينقض اليوم ما قرره بالأمس من قرارات، كما حصل معه بعد رجوعه من القرم بعد فشل الانقلاب، إذ عيّن وزراء للدفاع والداخلية ولرئاسة الكي جي بي لكنه لم يلبث قبل 24 ساعة أن غيّرهم لعدم رضا يلتسن وأميركا عنهم، وعيّن بدلهم أشخاصاً من الروس من رجال يلتسن. وقد أصبح شبه معزول سياسياً، إذ لم يقبل أن يتعاون معه من عيّنهم ليكونوا أعضاء في مجلس الدفاع الأعلى، ولا من عرض عليه أن يكون نائباً له ولا يبعد على غورباتشوف أن يقدم استقالته في قابل الأيام.
وهذا الزلزال الذي ترتب عليه تفكيك الاتحاد السوفياتي. دفع إلى العمل لإحياء مجد روسيا القيصرية، وجعلها تتولى سلطات المركز شيئاً فشيئاً، فجعلها من صلاحيات الرئاسة الروسية، والبرلمان الروسي، مما أرعب بقية الجمهوريات، خاصة بعد أن أعلن يلتسن تهديده للجمهوريات التي تعلن انفصالها بتعديل الحدود معها. وقد عمل يلتسن على رفع العلم الروسي القديم، بدل العلم السوفياتي، كما عمل على عقد اتفاقات اقتصادية وغيرها مع أوكرانيا وقازخستان أكبر وأغنى جمهوريتين بعد روسيا، وقد عمل ذلك من وراء المركز في موسكو، ويعمل إلى أن تنضم جمهوريات أخرى لهذه الاتفاقات، لتكون بديلاً عن اتحاد الجمهوريات السوفياتية، كما يعمل يلتسن على أن تكون القوة العسكرية والأسلحة النووية في روسيا وتحت سيطرتها لتكون هي الدولة العظمى، ولتعيد دور روسيا العظيمة، وروسيا بطرس الأكبر وكاترين، وتكون الجمهوريات الأخرى بمقام التبع لها، أو الدائرة في فلكها، لأن هذه الجمهوريات لا تستغني عن ذلك.
هذا وأن أفظع ما أبرزه الانقلاب الفاشل التفرد الأميركي، وتدخله بوقاحة في الشؤون الداخلية للاتحاد السوفياتي إبّان الانقلاب وبعد فشله وكأن الاتحاد السوفياتي دولة قاصرة، لدرجة أن أميركا كانت تتدخل في الجزئيات وفي التعيينات والإجراءات، وتصدر الأوامر والتوجيهات مما لم تكن تحلم به أيام ستالين أو بريجينيفq
20 من صفر 1412 هـ
30/08/1991م.
1991-09-06