الإصلاح (2)
1989/10/06م
المقالات
2,260 زيارة
بقلم: حافظ صالح
إن التمييز وعدم الخلط بين ما هو من مقومات الفرد، وما هو من مقومات المجتمع، وما هو من مقومات الكتلة، جمعية أو حزب، هو الخطوة الأساسية الأولى في السير في الطريق المحقق للغاية أو الهدف. والتمييز وعدم الخلط لا يتأتى إلا بمعرفة مكونات ومقومات كل من الفرد والمجتمع والكتلة، ولهاذ كان لا بد من إدراك وقاع كل منها، ومعرفة هذا الواقع كل منها، ومعرفة هذا الواقع معرفة تسهل أمامنا معرفة ما يُراد تقويمه.
* صلاح الفرد.
* صلاح المجتمع.
* صلاح الكتلة العاملة للإصلاح.
إصلاح المجتمع:
ما من شك أنه لا يمكن إصلاح شيء إلا إذا عرفنا مكوناته، فإصلاح أي خلل في أي جهاز يقتضي معرفة أجزاء هذا الجهاز، ومعرفة علاقة كل جزء بالآخر، والنظام الذي ينتظم هذه الأجزاء، سواء أكان هذا الجهاز آلياً كموتور السيارة أو الراديو، أو أي شيء من هذا القبيل، أو بشرياً كالشركة أو الجمعية أو المجتمع. فما دام هذا الشيء مكوناً من أجزاء ارتبطت مع بعضها بعلاقات خاصة، هي التي جعلتها كياناً مميزاً فلا بد من معرفة هذه العلاقة التي جمعت بين هذه القطع المتجنسة أو غير المتجانسة بحيث جعلت منها كياناً مميزاً له شخصية مميزة. فقطع موتور السيارة، عند خروجها من المصنع جديدة لم تستعمل بعد تعتبر كلها صالحة ولكنها لا يطلق عليها موتور سيارة إلا بعد جمعها إلى بعض وفق ما وضع لها من تصميم، وتبعاً لما وضع لها من نظام سواء في كمية الوقود أو نوعيته، أو في الشحنة الكهربائية وطاقتها، وكذلك الحال بالنسبة لجهاز الراديو أو أي جهاز آليّ، فأجزاؤه كلها جديدة صالحة ولكنها لا تكوّن جهازاً إلا بعد تنظيمها إلى بعضها حسب التصميم المعد لذلك. وكذلك الحال بالنسبة إلى أية شركة. فالنظرة إليها لا تأتي من النظرة إلى أفراد الشركة، والحكم بناءً على تلك النظرة الفردية لصلاح الشركة أو فسادها، بل لا بد من النظرة إلى العقد الذي انتظم هذه الشركة وموضوعها وصلاحية أجهزتها وإدارتها. فقد يكون موضوعها فاسداً كشركة مخدرات، وقد تكون أجهزتها فاسدة، أو إدارتها فاسدة، مع أن أشخاصها طيبون. ولكل فإن الأمر الذي جعل لهذه الشركة كياناً مميزاً وشخصية معنوية معينة هو الأمر الذي اجتمع عليه الشركاء. وهذا الأمر وكيفية الاجتماع عليه هو الذي أوجد القيمة الاعتبارية للشركة وانتظام أعضائها بما لها من قانون إداري، وتحديد علاقة كل فرد بغيره والصلاحيات المعطاة له هي الأمور التي من خلالها يقرر نجاح هذه الشخصية المعنوية أو فشها، وصلاحها أو فسادها. وكذلك الحال بالنسبة لأية جمعية إنسانية، خيرية أو دينية أو نفعية فالعبرة للأمر الذي اجتمعت عليه، فأكسبها كيانها الخاص، وشخصيتها المعنوية. ثم العلاقة بين أفراد هذه الجمعية وتحديد أجهزتها وصلاحية كل جهاز والتزام إدارتها بما لها من قانون إداري هو الذي يقرر صلاحها أو فسادها.
فالعبرة في كل كيان مركب من أجزاء هي في الرابط الذي يربط هذه الأجزاء بعضها إلى بعض ليكون منها كياناً ذاتياً. وصلاح هذا الكيان أو فساده يتوقف على علاقة الأجزاء ببعضها والنظام الذي ينتظمها.
والمجتمع ومكوناته ليس مسألة غيبية نريد إقامة البرهان عليها بخبر أو نص، فهي واقع محسوس ملموس بكل جوانبه ونواحيه. وللعقل أن يقرر بناءً على هذا الواقع المحسوس الملموس حقيقة مكونات هذا المجتمع، فالمشاهد بالحس أنه مجموعة من الناس، فهل أن كل مجموعة من الناس بطلق عليها بأنها مجتمع؟ وهل يطلق على الجمعية أو الشركة أنها مجتمع؟ مع أنهما مجموعة من الناس. وهل كل نقابة من النقابات المتعددة نقول أنها مجتمع؟ سبق أن بيّنا أن الأمر الذي اجتمعت عليه الشركة أو الجمعية أو النقابة هو الذي أوجد لها شخصية معنوية مميزة، فما الذي يجعل مجموعة من الناس مجتمعاً، وشخصية معنوية مميزة تختلف عن النقابة وتختلف عن الجمعية، وتختلف عن الشركة مع أنها جميعها مجموعة من الناس؟
وللإجابة على هذا السؤال لا بد من معرفة الأمر الجامع الذي جعل مجموعة الناس مجتمعاً وأعطاها الشخصية المعنوية، وتشكلت على أساس هذا الأمر الجامع مجموعة كبيرة من المجتمعات. وقد ذهب الكثير من علماء الاجتماع إلى تعداد بعض جوانب هذا الأمر فقالوا: وحدة اللغة، وقالوا: وحدة الدين، وقالوا: وحدة الآلام والآمال، وقالوا: وحدة الأرض والعيش المشترك، إلى غير ذلك من الجزئيات. والناظر في طبيعة تكوين المجتمعات يرى أن الإنسان بفطرته له حاجات وجوعات لا بد من إشباعها، وهذه الحاجات والجوعات موجودة عند غيره من الناس فلأجل تحقيق هذه الرغبات لا بد له من إنشاء علاقات متفق عليها بينهم لتأمين قضاء هذه الحاجات وتحقيق تلك الرغبات. ولهذا كان لا بد من إيجاد وحدة فكر أو اتفاق على مجموعة من المعالجات التي تؤمن لهم مبادلة المنافع وتأمين الحاجات. وباتحاد الفكر والاتفاق على تلك المعالجات ينشأ طبيعياً وحدة المشاعر التي تشكل بوحدتها مع الأفكار عرفاً عاماً يضبط إلى حد ما سلوك الأفراد على ما اتفقوا عليه.
ولما كان هناك أمور عامة ومصالح مشتركة للجميع، ومن طبعها أنها ليست فردية، فلا بد إذن أن يتولى شخص أو مجموعة أشخاص القيام على هذه المصالح المشتركة وهذا لا يتم إلا بتنازل مجموعة الناس عن شيء من صلاحيتهم وسلطاتهم ووضعها بتصرف هذا الشخص أو الأشخاص القائمين على تنفيذ ما اتفق عليه. كحفظ الأمن والدفاع عن الجماعة الضرب على يد الخارجين على ما اتفقت عليه الجماعة من نظم حياتها ومن هنا نقول أن الأمر الجامع الذي جعل جماعة الناس مجتمعاً له شخصية معنوية خاصة هو العلاقات الدائمة بين الجماعة والنظم التي تسير هذه العلاقات سواء أكانت هذه الجماعة مضرب خيام بدو رحّل أو قرية، أو كياناً سياسياً صغيراً كان أم كبيراً. فالسبب في تكوين هذه الشخصية المعنوية التي تطلق عليها اسم مجتمع هو هذا الأمر الجامع بين أفرادها أي العلاقات الدائمة بينها وما اتفق عليه من مفاهيم ومقاييس وقناعات تنتظم عليها حياتهم، ومن أراد أن يخرج عما اتفقت عليه الجماعة فإنه لا يطيق العيش معها ولن تقبله هي أن يعيش معها إلا إذا التزم بما اتفقت عليه.
ولذلك نرى أن من يحاول أن يخرج على مفاهيم الجماعة ومقاييسها احتقرته ونبذته ومن سار عليها احترمته وقدرته، ويظهر هذا جلياً في المثال التالي: إن الجماعة من مفاهيمها ومقاييسها وقناعاتها أن إشباع غريزة النوع يجب أن يتم الزواج. ولهذا نجد أن الحي بكامله والعشيرة بمجموعها تفرح وتشارك العروسين فرصتهما حين تتم عملية الإشباع وفقاً لما اتفقت عليه الجماعة. وأما إذا حاول شاب وفتاة أن يشبعها جوعتهما بغير هذا الطريق فأشبعا جوعة النوع بالزنا فإن النقمة تحيق بهما وقد يقتلان أو يقتل أحدهما. وكذلك الحال في عملية الحصول على منفعة مادية كالحصول على الرغيف فإن تم بالكيفية التي اتفقت عليها الجماعة كان أمراً مرضياً، وأن سلك الفرد في حصوله على الرغيف طريقاً آخر كالسرقة أو النهب عوقب من الجماعة أو اضطهد وازدري. وهكذا كافة العلاقات.
وبما أن هذا الأمر الجامع هو الذي اكسب الجماعة صفة المجتمع، وكان الرباط الفعلي الذي ربط الجماعة ببعضها، فعلى صلاحه يتوقف صلاحها وعلى فساده يكون فسادها. فإن كانت هذه العلاقات منظمة بنظام فاسد، وصف المجتمع بالفساد، وإن كانت منظمة بنظام صالح كان المجتمع صالحاً، وبقدر تمسك جماعة الناس بالنظام المسير لعلاقاتهم يكون المجتمع قوياً متماسكاً. وكلما ضعفت ثقة الناس بهذا النظام هزل المجتمع وضعف وربما زال.
وفي الحالة التي يفرض فيها النظام على جماعة من الناس فرضاً، فلا بد للقائمين عليه من استعمال الحديد والنار لضبط الجماعة بحسبه، وتبقى الجماعة تعمل لإزالته أو تستسلم له أو تقنع به، فالمعيار في قوة المجتمع وضعفه وتماسكه وانحلاله، وهدوئه واضطرابه يتوقف على مدى موافقة هذا النظام لمفاهيم جمهرة الناس وقناعاتهم.
ومن هنا نقول أن مكونات المجتمع هي:
أ- جماعة من الناس ارتضوا العيش معها.
ب- العلاقات الدائمة التي لا بد من وجودها بينهم.
أما مقومات المجتمع، ومقياس صلاحه وفساده فهي:
أ- العرف العام.
ب- النظام المسيّر للعلاقات الدائمة.
ومن أجل أن تصلح المجتمع فيجب إصلاح مقوماته أي إصلاح العرف العام والنظام المطبق على الناس، ومن هنا يجب ملاحظة الفرق بين مقومات الفرد، ومقومات المجتمع.
وحين نقول (العرف العام) إنما نعني مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات الموجودة عند الجماعة والتي نشأت من فكرة حملوها واتفقوا عليها فاتحدت مشاعرهم عليها.
وأما الجانب المادي في حياة المجتمع، أي توفير وسائل الإشباع، مثل زيادة الثروة، وتوفير الخدمات، فهي جانب آخر لا يتعلق بالفساد والصلاح مع ما له من أهمية، تماماً كما أشرنا للفرد في الجانب العضوي فيه، فقد يكون الفرد صحيح الجسم معافى، في الدرجة الأولى من الكمال الجسماني، وبطلاً عالمياً في فنون الرياضة، ولكن علاقته بنفسه فاسدة، وعلاقته بربه فاسدة وعلاقته بغيره فاسدة، فلا نقول عنه إلا أنه فاسد، بغض النظر عن قواه الجسمية أو العقلية، فهذا الجانب العضوي ليس له مقياس الصلاح والفساد، وكذلك الحال بالنسبة للمجتمع. فإن الجانب المادي فيه مثل زيادة الثروة ووفرة وسائل الإنتاج وتأمين الخدمات. فإنها لا تدل على صلاح المجتمع وفساده. فالمجتمع المترف الذي يتمتع بالغنى الفاحش والذي تتوفر فيه كافة الوسائل لإشباع جميع الحاجات من أساسية وكمالية لا يعتبر مجتمعاً صالحاً إذا كانت العلاقات بين أفراده علاقات فاسدة، ويبقى مجتمعاً فاسداً مهما توفرت فيه الثروة. والأمثلة في حياتنا والمشاهد بالحس أكثر من أن يحصى.
وأما ما يقال بأن أسباب فساد مجتمعنا هي الفقر الجهل والمرض فهذا دجل محض، وإنما ما نعانيه من فساد في مجتمعنا ناشئ عن فساد العلاقات القائمة والنظام الذي ينتظم هذه العلاقات.
أما أرقى المجتمعات صلاحاً فهو المجتمع الذي بنى علاقاته الدائمة على مفاهيم ومقاييس وقناعات صحيحة تكون من هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات عرف عام يتحكم في تصرفان الأفراد، وأن هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات كانت منبثقة عن فكرة أساسية صحيحة وانبثق عن هذه الفكرة الأساسية الصحيحة نظام يضبط سلوك الأفراد ويرعى شؤون الجماعة، وتتولى هذه الشؤون قيادة سياسة صالحة تنيبها الأمة عنها للقيام بما يجب على الجماعة كجماعة القيام به، مثل:
أ- ضبط السلوك بإقامة الحدود، وإيقاع العقوبات على المخالفين (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ).
ب- حماية الأمن والثغور. لإشاعة الأمن داخلياً وخارجياً.
ج- رعاية الشؤون، كتأمين المرافق العامة كالتعليم والتطبيب وتأمين وسائل الإشباع والقيام على المعوزين.
د- حمل هذه الفكرة التي أقاموا عليها مجتمعهم إلى بقية المجتمعات والناس. بحيث يصبح المجتمع بمجموعه كأنه فكرة حيّة تسير على الأرض لتخرج الناس من الظلمات إلى النور.
هذا هو المجتمع الصالح. أما كيفية الوصول إليه. فهي الكتلة العاملة للإصلاح.
الكتلة الصالحة العاملة للإصلاح:
ما دمنا نطلق عليها أنها كتلة فهذا يعني أنها شخصية معينة مركبة ممن أجزاء جمعها أمر جامع جعلها شخصية معينة ووضع لها اسم معين، وكما سرنا في تحليل المجتمع ومعرفة العناصر التي كونت المجتمع أي معرفة مكوناته كذلك الفرد، فلا بد من معرفة أجزاء وعناصر الكتلة التي تعمل للإصلاح والأمر الجامع الذي نقلها من مجموعة أفراد إلى شخصية معنوية معينة. فهي كأي جمعية أو نقابة أو شركة تكونت من أجزاء واجتمعت على أمر جامع وبينها لتحقيق غاية معينة، فالشركة قامت بين أفراد ورأسمال وهدف، والنقابة قامت بين أفراد لهم سمعة معينة ولتحقيق هدف معين وكذلك الجمعية قامت بين أفراد وبمواصفات معينة لتحقيق هدف. ولمعرفة صلاح أو فساد أي منها ينظر إلى الأمر الجامع بينها وصلاحية الأفراد لهذا الأمر، والهدف المنشود من هذا الاجتماع، هذا بالإضافة إلى طريقة سيرها في الوصول لهدفها وما عليها أن تستعمل من أساليب ووسائل تمكنها من الوصول إلى هدفها وغايتها. ويمكن تلخيص ذلك في أربع نقاط أساسية بالإضافة إلى نظرة عاجلة إلى الأساليب والوسائل، من حيث أن الأسلوب تحدده طبيعة العمل، والوسيلة يحددها العصر الذي نحن فيه. وهذه النقاط الأربعة هي الفكرة والطريقة وهما الأمر الجامع بين مجموعة الناس. وصلاحية هؤلاء الأفراد والرابطة فيما بينهم. هذه الأمور الأربعة التي تجعل من هذه الكتلة كياناً فكرياً يؤثر في محيطه ولا يتأثر به، ويسير نحو الهدف المرسوم له.
أما الفكرة ففيها ناحيتان.
الناحية الأولى موضوعها.
الناحية الثانية ما يجب أن تكون عليه.
أما موضوعها فيجب أن تشتمل على مجموعة الأفكار والآراء والأحكام التي تريد نقل المجتمع إليها. سواء في بناء العرف العام في المجتمع أي وحدة أفكار المجتمع ومشاعره أو النظم التي ستنظم بها العلاقات التي تكون المجتمع بسببها. والهدف الذي تسعى إليه.
أما ما يجب أن تكون عليه هذه الفكرة فهو:
1- أن تكون جميع أفكار هذه الكتلة مبنية على عقيدتها.
2- أن يكون جميع ما تتبنى من آراء وأحكام منبثقاً من هذه العقيدة.
3- أن يكون الهدف كذلك قد انبثق من هذه العقيدة.
4- أن تكون هذه الأحكام والآراء والأفكار محددة، فلا يكفي فيها التعميم.
5- أن يبين الواقع الذي تعالجه هذه الآراء والأحكام بياناً يزيل عنه كل غموض أو إبهام.
6- أن يبين الدليل الشرعي لكل فكر أو رأي أو حكم بحيث يشعر الناس أنهم إنما يتمسكون بالإسلام وليس برأي شخص أو أشخاص. بحيث تصبح الرؤية واضحة صافية.
7- أن تنقى هذه الآراء والأحكام مما قد يكون قد لحق بها في بعض العصور من دس أو ضعف.
8- أن تتناول الرد على جميع الآراء والأفكار والمعتقدات الغربية الموجودة في المجتمع بالتفصيل ولا يكفي في ذلك التعميم، كما ورد في القرآن الكريم على العرب المشركين على اختلاف مذاهبهم وعلى اليهود وأحبارهم والنصارى على اختلاف مذاهبهم، بل وعلى كل فكرة أو رأي يطرح في المجتمع.
وأما الطريقة فلا بد أن يكون واضحاً فيها أمران:
الأمر الأول: وهو كيفية إيصال الفكرة إلى التطبيق العملي في المجتمع.
الأمر الثاني: أن تكون كيفية التطبيق واضحة حين قيام الدولة والبدء بتنفيذ الأحكام والآراء.
أما كيفية إيصال الفكرة إلى التطبيق العملي فلا بد من اتخاذ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة طريقاً شرعياً يجب الالتزام به مع مراعاة الاختلاف في الوسائل والأساليب فقد بيّنا أن الأسلوب تحدده طبيعة العمل، وأما الوسيلة فيحددها العصر الذي نحن فيه. ولا يجوز أن تكون الطريقة أعمالاً مرتجلة أو خبط عشواء، أو تقليد لما عليه أحزاب الكفر. بل لا بد أن تكون أحكاماً شرعية مستنبطة من أدلة تفصيلية قام بها سيد المرسلين تبعاً للمراحل التي مر بها.
هذا من حيث الفكرة والطريقة والتي تشكل بمجموعها ثقافة الكتلة وبناءها الفكري. أما مجموعة الناس القائمين بعبء هذه الدعوة فلا بد أن يكون الفرد منهم نسخة طبق الأصل عن هذه الثقافة، بالإضافة إلى التزامه بمقومات الفرد من حيث أن فاقد الشيء لا يعطيه فلا بد من أن يكون الفرد الذي هو جزء من الكتلة ملتزماً بكل مقومات الفرد من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة بالإضافة إلى وعيه وعياً كاملاً على ثقافة الكتلة، وإيمانه بتحقيق هدفه وإخلاصه في تحقيق هذه الغاية فهو فرد صالح ملتزم بمقومات الفرد يسعى جهده لإصلاح مقومات المجتمع.
وأما الرابطة التي تربط ين هذه المجموعة من الناس فهي عقيدتهم وثقافتهم فلا يجوز أن تكون الرابطة بين هؤلاء الناس بناءً على مكانتهم الاجتماعية أو مصالحهم أو قرابتهم أو صداقتهم بل على عقيدتهم وثقافتهم فقط.
ومن مجموع هؤلاء الناس والرابطة التي تربطهم والأمر الجامع بينهم والثقافة التي تبنوها يتكون كيان فكري يؤثر في المجتمع ولا يتأثر بما في المجتمع من حيث أن طبيعة الكيان الفكري أن يؤثر بغيره ولا يتأثر بغيره لأنه جهاز إشعاع.
إن هذا الكيان الفكري أي الكتلة الصالحة العاملة للإصلاح، إن كانت تستهدف الفرد فهي تسلك طريق إصلاح مقومات الأفراد، أي العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، ويكون عملها فردياً ويبقى كذلك حتى تحصل على الأكثرية في المجتمع لتنتقل منه إلى البحث في إصلاح المجتمع. وهي لا تعرف عن ذلك شيئاً لأنه لم يكن من ضمن عملها.
أما إن كانت تستهدف إصلاح المجتمع فهي تسلك ذلك السبيل، ولذلك فهي تقوم ببيان ما في المجتمع من مفاسد، وبيان مفاسد النظام وسوء معالجته للمشاكل الحياتية، حتى يتم له عزل النظام الحاكم ثم أخذ ثقة الناس بها وبفكرتها وهدفها، فإذا تم لها عزل النظام القائم وأخذ ثقة الناس لفكرتها وقيادتها، قامت بإزالة العوائق ووضعت أفكارها وآراءها وأحكامها موضع التنفيذ، وتم لها إصلاح المجتمع على قاعدة أساسية وهي العقيدة. وفي الوقت الذي تعمل فيه لأخذ ثقة الناس لا تهمل بناء جسمها، وصقل عقلية أجزائها ونفسياتهم ورفعهم إلى مستوى المسؤولية عن هذه العقيدة وعن الناس وعن المجتمع.
ونظراً إلى ما في الأمة من خور وما تعانيه من ظلم واضطهاد وما لحقها من جهل لإسلامها وأحكامه فقد لا ينمو كثيراً جسمها ولكنها تستطيع أخذ ثقة الناس بما لها من جرأة في الحق وما عندها من وعي وحين تأخذ ثقة الناس يصبح الطريق معبداً بينها وبين وضع أفكارها موضع التنفيذ فلا يبقى سوى قيام بعض أبناء الأمة بإزالة الحاجز المادي المانع من التنفيذ.
هذه صورة موجزة حاولت فيها بيان الفرق بين مقومات الفرد ومكوناته، ومقومات المجتمع ومكوناته ومقومات الكتلة العاملة ومكوناتها. نسأل الله السداد والرشاد.
1989-10-06