أن يتحدث علماء الأمة اليوم عن وجوب تنصيب خليفة وعن أهمية هذا الفرض وأن يركزوا أقلامهم حول هذا الموضوع، وأن ينذروا دماءهم ويصرخوا بملء أفواهم: «الخلافة أو الموت»، كل هذا لا غرابة فيه، لأن من يمشي في الليل المظلم طبيعي أن يدرك عظمة النور وأهميته أكثر ممن يعيشون في عالم النور والضياء، وكما يقول الشاعر: (وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ)!!
والأمة الإسلامية عاشت في ظل الخلافة مدة ثلاثة عشر قرناً، ولم تتصور يوماً أن تنقطع حياتها الإسلامية بإلغاء الخلافة. وعلماؤها السابقون كانوا يحيون تحت سلطان الخليفة ولم يفقدوا هذه النعمة ولم يحسوا بمرارة زوالها، ومع ذلك نجد ابن تيمية وغيره يعتبرونها (من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها) هذا لأنهم فهموا الإسلام فهماً عميقاً شاملاً استطاعوا من خلاله أن يدركوا أهمية الخلافة دون أن يحسوا إحساساً مباشراً بهذه الأهمية، أي بمعنى آخر دون أن يشهدوا زوال الخلافة.
وعلماء الأمة اليوم يعيشون هذه النكبة الأليمة ويذوقون مرارتها في كل لحظة، كيف لا وقد أصبح العالم كله ينعتهم بدول العالم الثالث بعد أن كانوا الدولة التي لا تقهر! وكيف لا وقد مزقهم الكافر المستعمر إلى دويلات هزيلة وأقام على كل دويلة لصاً يحرس نفوذ الكفر ويسرق وعي الأمة ومالها بعد أن كانت الدولة الإسلامية الدولة التي لا تغيب الشمس عن سلطانها! كيف لا وهم يشهدون اليهود أذل الناس وأجبنهم يدوسون كرامة الأمة ويغتصبون أرضها ويسخرون من حكامها بعد أن كان العالم لكه يرتعد خوفاً من مجرد ذكر الدولة الإسلامية! كيف لا وقد ذوى إسلامهم وغاض من واقعهم حتى غدا قابعاً في الزاوية الفردية لا يتعداها، فانقطعت الحياة الإسلامية في المعترك الدولي بعد إلغاء الخلافة، وأصبحت بلاد المسلمين دار كفر! نعم كفرٌ بكل ما لهذه الكلمة من وقعٍ بغيض مرير في نفس المسلم… لهذا كله كان بديهياً أن يكون علماء اليوم أكثر تأثراً وأكثر حماساً وتلهباً وأكثر اهتماماً بهذا الفرض العظيم من سابقيهم، لأنهم عاشوا وأحسوا فاجعة إلغاء الخلافة، والفكر إذا ارتبط بالإحساس كان قوياً صادقاً ملتهباً، ولكنا بالرغم من ذلك نجد أن بعضهم يسكت عن هذا الفرض العظيم ويكتم ما أمره الله بتبليغه ويبقى هادئاً مطمئناً وكأنه يعيش في مجتمع لا يتناقض مع فكره وعقيدته يقول الشهيد سيد قطب رحمة الله: «علم الله أن بعض المستحفظين على كتاب الله المستشهدين قد تراودهم أطماع الحياة الدنيا وهم يجدون أصحاب السلطان وأصحاب المال وأصحاب الشهوات لا يريدون حكم الله، فيملقون شهوات هؤلاء جميعاً طمعاً في عرض الحياة الدنيا، كما يقع من رجال الدين المحترفين في كل زمان وفي كل قبيل، وكما كان ذلك واقعاً في علماء بني إسرائيل، فناداهم الله: (وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً) وذلك لقاء السكوت أو لقاء التحريف أو لقاء الفتاوى المدخولة… إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن وليس أبشع من تفريط المستحفظ، وليس أخسَّ من تدليس المستشهد. والذين يحملون عنوان (رجال الدين) يخونون ويفرطون ويدلسون. فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله، ويحرفون الكلم عن مواضعه لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله» [الظلال ج2 ص 897].
ولكي ندرك أهمية هذا الفرض لدى علماء الأمة السابقين، لنقم الجولة الخاطفة في بعض من كتبهم القيمة:
الإمام النووي: الخليفة يحمي بيضة الإسلام:
يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم عند شرحه لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به»: (قوله صلى الله عليه وسلم: الإمام جنة، أي كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته. ومعنى: يقاتل من ورائه، أي يقاتلُ معه الكفار والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقاً).
الإمام ابن حزم: عدم وجود الخليفة يعني ضياع الحق وذهاب الدين:
جاء في كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل للفقيه الظاهري ابن حزم ما يلي: (اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجبٌ عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم، وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة. وقول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه والقرآن والسنة قد وردا بإيجاب الإمام، من ذلك قول الله تعالى: )أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإمامة، وأيضاً فإن الله عز وجل يقول: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) فوجب اليقين بأن الله لا يكلف الناس ما ليس في بنيتهم واحتمالهم، وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم ـ في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق وسائر الأحكام كلها ومنع الظالم وإنصاف المظلوم وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف آرائهم وامتناع من تحري في كل ذلك ـ ممتنعٌ غير ممكن، إذ قد يريد واحد أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم، إما لأنها ترى في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء وإما خلافاً مجرداً عليهم، وهذا الذي لا بد منه ضرورة، وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها فإنه لا يقام هناك حكم حق ولا حد، حتى قد ذهب الدين في أكثرها، فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد).
الماوردي: الخلافة حراسةٌ للدين وسياسيةٌ للدنيا:
يقول الإمام الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية: (أما بعد فإن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيماً خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوَّض إليه السياسة، ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلاً عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة…
الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجبٌ بالإجماع، وأن شد عنهم الأصم).
القرطبي: قوام المسلمين بتنصيب خليفة وهو ركن من أركان الدين لا ينكره إلا الأصم:
يقول الإمام القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» عند تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (.. هذه الآية أصلٌ في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أسم، وكذلك كل من قال بقوله وأتبعه على رأيه ومذهبه، قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة حتى أقاموا حجهم وجهادهم وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها وأقاموا الحدود على من وجبت عليه أجزئهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولى ذلك.
ودليلنا قول الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) وقوله تعالى: (يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ) وقال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ) أي يجعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من الآي. وأجمعت الصحابة على تقديم الصدِّيق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصال: منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون على ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، ورووا لهم الخبر في ذلك، فرجعوا وأطاعوا قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها، ولقال قائل، إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب.
ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك؛ فدَّل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد لله رب العالمين).
ابن كثير: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:
جاء في «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير عند تفسير قوله تعالى: ]وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[ (… وقد استدل القرطبي بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
شمس الدين الرملي (الشافعي الصغير): الصحابة قدّموا تنصيب الخليفة على دفن الرسول صلى الله عليه وسلم:
جاء في كتاب «غاية البيان شرح زبد ابن رسلان» للفقيه الشافعي شمس الدين محمد بن أحمد الرملي الأنصاري الملقب بالشافعي الصغير (وهو من علماء القرن التاسع الهجري) ما يلي: (يجب على الناس نصب إمام يقوم بمصالحهم، كتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم أن دفعوها وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم إن دفعوها وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق وقطع المنازعات الواقعة بين الخصوم وقسمة الغنائم وغير ذلك، لإجماع الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات، وقدموه على دفنه صلى الله عليه وسلم ولم تزل الناس في كل عصر على ذلك).
وأخيراً قال صحاب كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»: (اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أن الإمامة فرض، وأنه لا بد للمسلمين من إمام يقيم شعائر الدين وينصف المظلومين من الظالمين، وعلى أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا متفرقان).
نسأل الله العظيم أن يبارك في وعي أمتنا وأن يكشف عن بصيرتها حتى ترفع الإثم عنها فتأخذ على يد لصوص الاستعمار حكامها الخونة فتزجُّهم في نفس السجون التي أقاموها لأبنائها، تنصيب عليها خليفة تبايعه على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فيعود الإسلام حياً على أرض الواقع، وتقام الحدود وتسد الثغور، وتقطع المنازعات وتؤخذ الجزية وتجهز الجيوش ويُحملُ الإسلام رسالة خير ورحمة وبركة إلى العالم أجمع.