الجرائم والعقوبات
1989/09/06م
المقالات
2,438 زيارة
بقلم: محمد أبو وائل
ليست الجريمة موجودة في فطرة الإنسان ولا هي مكتسبة يكتسبها الإنسان كما إنها ليست مرضاً يصاب به، وإنما هي مخالفة النظام الذي ينظم أفعال الإنسان.
فكل إنسان له غرائز وحاجات عضوية تتطلب الإشباع، وقد تتطلب الإشباع بما يحل بمصلحة الجماعة التي يعيش فيها فكان لا بد من نظام يحافظ على الجماعة ويحافظ في نفس الوقت على الأفراد باعتبارهم أجزاء في هذه الجماعة.
وهذا النظام لا بد أن يتضمن تحديداً للجرائم التي يرتكبها الأفراد حين يخالفون النظام، وأن يضع عقوبة على كل جريمة، فكان لا بد من مقياس دقيق تقاس به الجرائم لوضع العقوبات المناسبة لها، إذ المعروف أن الجرائم تتفاوت من حيث فظاعتها، فالجريمة الأفظع تستحق العقوبة الأشد، وكلما كانت الجريمة أقل فظاعة كانت عقوبتها أخف، فلا بد من مقياس تقاس به الجرائم ليكون حجم العقوبة وكمية ألمها مناسبين لحجم الجريمة وكمية فظاعتها. فهل يملك الإنسان مثل هذا المقياس؟
من الأمور البديهية أن عقل الإنسان عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، فقد يرى إنسانٌ أن هذه الجريمة أفظع من تلك وقد يرى غيره عكسه. وواقع العقل أنه إحساس وواقع ودماغ ومعلومات سابقة. (راجع مجلة الوعي العدد العاشر من السنة الأولى ص 20 ـ 21 ـ 22) فالإحساس جزء جوهري من مقومات العقل فإذا لم يحس الإنسان بالشيء لا يمكن لعقله أن يصدر حكماً عليه، لأن العقل مقيد حكمه على الأشياء بكونه محسوسة ويستحيل عليه إصدار حكم على غير المحسوسات، وبما أن فظاعة الجريمة ليست من الأمور التي تقع عليها حواس الإنسان، فلذلك يستحيل على العقل أن يصدر في أية جريمة حكماً صحيحاً.
ولا يجوز أن يترك تحديد الجرائم والعقوبات لميول الإنسان الفطرية، لأن هذه الميول تصدر الحكم بالمدح على ما يوافقها وبالذم على ما يخالفها، وقد يكون ما يوافقها مما يذم كالزنى والرياء وقد يكون ما يخالفها مما يمدح كقتال الأعداء وقول الحق في حالات تحقق الأذى البليغ. فالميول والأهواء مقياسٌ خاطئٌ قطعاً، يجعل العقوبة حسب الهوى والشهوات لا حسب ما يجب أن تكون عليه، ويجعل الجريمة ما يخالف أهواء المشرِّع وليس ما واقعه أنه جريمة.
وما دام العقل عاجزاً عن تحديد الجرائم والعقوبات وكذلك الميول الفطرية، فلذلك يستحيل على الإنسان أن يصدر أحكاماً صحيحة في تحديد الجريمة وفي تقدير العقوبة.
وحين ننظر إلى الأنظمة الوضعية نجدها قد أخذت على عاتقها تحديد الجرائم ومنحت نفسها حق وضع عقوبة لكل جريمة. فما هو المقياس الذي اتخذته هذه الأنظمة في قياس فظاعة الجريمة وفي تحديد السرقة في بلدٍ ما هي السجن لمدة خمس سنوات؛ ما هو المقياس الذي حُدِّدَتْ به هذه العقوبة؟ أي لماذا حُدِّدَت العقوبة بالسجن ولم تحدد بغيره؟ ولماذا كانت خمس سنوات فقط ولم تكن خمسة سنوات وخمسة أيام مثلاً؟ لو لماذا لا تكون أقل من خمس سنوات بثلاثة أيام مثلاً؟؟ فالذي يقوم بجريمة إنما يستحق عقوبة بقدر جريمته، فإذا زادت العقوبة عن قدر الجريمة ولو يوماً واحداً يكون المعاقَبُ مظلوماً حُجِزَتْ حريته لمدة يوم كامل بدون ذنب. إذاً لا بد أن تكون العقوبة بقدر الجريمة، ولا بد أن تقاس بمقياسٍ دقيق حتى لا يظلم الناس. فما هو مقياسكم يا واضعي الأنظمة؟
إن البشر لا يملكون أي مقياس يقيسون به، وكل تشريعاتهم إنما هي من قبيل التقديرات الظنية أو بالأحرى التقديرات الوهمية، لذلك نجد أن العقوبة على نفس الجريمة تتغيَّر في البلد والواحد من وقت لآخر، فقد تكون عقوبة جريمة ما هي السجن لمدة عشر سنوات ثم تصبح في نفس البلد تسع سنوات وهذا يعني أن كل من سجن لمدة عشر سنوات قد سجُن سنة كاملة ظلماً وعدواناً لمجرد أن حضرات واضعي النظام كانوا مخطئين في التقدير وكذلك نجد أن الجريمة الواحدة تختلف عقوبتها من بلد لآخر، فمن هو المظلوم يا ترى؟؟ هل سكان هذا البلد أم سكان ذاك!؟ لا شيء واضح ولا شيء قطعي، وكل من يتصدى للتشريع إنما يعرض مصائر الناس لعبث ظنونه وتقديراته.
وهكذا نرى أن البشرية كلها تتخبط في التيه، فلا واضعو الأنظمة يستقرون على نظام ثابت ولا الناس مطمئنون لما شُرع لهم. فالمجرم حين يتوب يريد أن يطهِّر نفسه من الجريمة بأن ينال العقاب الذي يستحقه، ولكن ما الذي يضمن لهذا المسكين أنه يستحق هذا العقاب لا غيره وأن العقوبة الفلانية هي التي تغسل جريمته لا غيرها؟؟ وكيف يرضى إنسانٌ أن يجعل مصيره عرضة لضنون المشرِّعين؟ وكيف يرضى إنسان أن يُسْجن ظلماً لأن واضع النظام كان مخطئاً في التقدير؟ ومن يدري لعل كل تقديراته خاطئة وكل تشريعاته ظلمٌ طالما أنها عرضة لذلك؟ لا شيء ثابت إلا شيء واحد هو الفوضى وحالة عدم الاستقرار عند الذين يطبِّقون النظام وعند الذين يطبَّق عليهم النظام. والسبب في ذلك راجع إلى كون فظاعة الجرمية وألم العقوبة مما لا يقعان تحت حسِّ الإنسان وبالتالي لا يخضعان للبحث العقلي، ولذلك تبقى مسألة النظر فيهما مسألة نسبية تختلف من إنسان لآخر، فهذا يرى أن الزنى أفظع من السرقة، وذاك يرى الزنى أمراً لذيذاً وليس جريمة وهذا يعتبر قطع اليد أهون من السجن، وذاك يرى أن التغريب أصعب من الجَلْد وآخر يرى عكسهما… فما هو المخرج وما هو الحل؟
المخرج يكون في عقوباتٍ ثابتة يضعها من يملك مقياساً غير معرض للخطأ، يحدد الجريمة بعلم وليس بظن، ويضع لها العقوبة المناسبة تماماً بعلم أيضاً، وهذا يتطلب علماً يختلف عن علم البشر، أي يجب أن يكون هذا المصدر غير محدود، يعلم ما يقع تحت الحس كما يعلم ما لا تدركه الحواس، وهذا لا يكون من البشر، بل لا بد أن يأتي من خالق البشر، فهو وحده الذي يعلم ما يصلحهم وما يغسل جرائمهم، وهو سبحانه جلَّ عن أن يخطئ في التقدير أو يظلم في التشريع ]فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.[.
وقد نظم الله سبحانه إشباع غرائز الإنسان وحاجاته العضوية حين نظم أعماله بالأحكام الشرعية، ولهذا ورد الشرع بأوامر ونواهٍ وكلف الإنسان العمل بما أمره به واجتناب ما نهاه عنه، فإذا خلف الإنسان ذلك فقد فعل جريمة يستحق عليها العقوبة. وقد بيّن الشرع الإسلامي أن على هذه الجرائم عقوبات في الآخر يعاقِبُ بها الله سبحانه المجرمَ فيعذبه يوم القيامة، كما أن عليها عقوبات في الدنيا يقوم بها الخليفة أو نائبة، أي الدولة الإسلامية، بتنفيذ الحدود وما دون الحدود من التعزير والكفارات، وهذه العقوبة في الدنيا تسقط عن المذنب عقوبة الآخرة.
وبذلك تكون العقوبات في الإسلام زواجر وجوابر: زواجر لأنها تزجر الناس عن ارتكاب الجرائم أي عن مخالفة الأحكام الشرعية، وجوابر لأنها تجبر عن المسلم عذاب الله تعالى يوم القيامة وتطهِّره من جريمته.
والدليل على كون العقوبات زواجر هو قوله تعالى: ]وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ[ فالله سبحانه قد جعل في القصاص حياة، وهذا معناه أن إيقاع القصاص هو الذي أبقى الحياة، ولا يكون ذلك في إبقاء حياة من وقع عليه القصاص، فقد يكون في القصاص موته لا حياته، وإنما الحياة هي للمجموعة حين ينزجرون عن القيام بمثل ما قام به من وقع عليه القصاص.
وأما كون العقوبات جوابر فالدليل عليه هو ما رواه البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه» وهذا صريح في أن عقوبة الدنيا من الخليفة أو نائبه تسقط عقوبة الآخرة؛ ولذلك كان كثير من المسلمين يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُقِرُّون بالجرائم التي ارتكبوها، ويصرُّون على اعترافهم، ويلحُّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطهرهم منها، فيحتملون آلام الحد والقصاص في الدنيا لأنه أهون بكثير من عذاب الله في الآخرة.
وعندما يسود شرع الله ـ وهو المقياس الوحيد المقطوع بصحته ـ فإن الاستقرار سيعم والفوضى ستنتفي، لأن الدولة ستطبق النظام وهي على يقين من صحته وصلاحه، وكذلك الأفراد سيكونون مطمئنين إلى أن العقوبة غير ظالمة لثقتهم بشرع الله ]وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[، ولن يتبادر إلى ذهن المعاقب احتمال كون المشرِّع مخطئاً في التقدير. فحين يقول الله سبحانه: ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا[ فإن قطع اليد سيبقى إلى قيام الساعة العقوبة الوحيدة الصالحة لجريمة السرقة ـ طبعاً سرقة ما قيمته ربع دينار وما فوق ـ لأنها عقوبة غير منبثقة عن ظنون البشر وأوهامهم وإنما مستنبطة من شرع الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكل عقوبة للسارق غير قطع يده إنما هي ظلمٌ وجور، قال تعالى: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ[ فالسارق الذي يُسْجن يكون مظلوماً لأنه نال عقاباً غير العقاب الذي يستحقه أولاً، ولأنه بقي مجرماً دون أن ينال العقوبة التي تغسل جرمه ثانياً، فتأملوا كم عدد المظلومين في هذه الأرض! لأن كل من عوقب بعقوبة منبثقة عن نظام من وضع البشر يكون مظلوماً ويبقى في الوقت نفسه مجرماً. ولذلك كان من الغباء والحمق أن يسلِّم المجرم حين يتوب نفسه للسلطان التي تحكم بالكفر لأنه يكون قد ظلم نفسه حين أخضعها لعقوبة لا تستحقها، عدا عن أن العقوبة التي ينالها لا تغسل جرمه، فيكون مثله كمثل رجل جاء إلى طبيب أسنان ليقلع ضرساً يؤلمه، ولكن الطبيب قلع له ضرساً آخر غير الضرس الذي يؤلمه فخسر ضرساً صحيحاً وبقي الألم في ضرسه السقيم على حاله. وحتى لو سلم نفسه لسلطة تحكم بالكفر ولكنها تنفذ فيه العقوبة المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية فإنه لن يستفيد شيئاً ولن يتطهر من جرمه، لأن العقوبة يجب أن تنفذ فيه العقوبة المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية فإنه لن يستفيد شيئاً ولن يتطهر من جرمهن لأن العقوبة يجب أن تنفذ بأمر من الخليفة ولا تصح إلا بأمره، ولا يوجد خليفة المسلمين، وإنما يوجد حكومات مخادعة منافقة تطبق جزءاً من الأحكام الإسلامية إما بحجة المصلحة أو بحجة التدرج أو غير ذلك من الأعذار الواهية، وما ذلك إلا لتخدير شعوبها وجعلها تغفل عن حقها بأن تعيش حياة إسلامية في ظل النظام الإسلامي الكامل الذي لا يقبل التجزيء ولا التدرج؛ فهذه الحكومات المضللة لا تصلح لتنفيذ العقوبة، وبالتالي فإن تنفيذها للعقوبة لا يغسل جريمة المجرم ولا يصح تنفيذ العقوبات إلا بأمر الخليفة أو نائبة أو بأمر الأمير الذي يحكم بالإسلام. إذاً فماذا يفعل المجرم التائب في أيامنا هذه حيث لا يوجد دولة تحكم بما أنزل الله؟ إن كل ما يجب على المجرم حين يتوب في هذه الأيام أن يستغفر الله ويتوب إليه توبة نصوحاً وأن يصلح ما يمكنه إصلاحه من مفاسد جريمته وأن يسعى لإقامة الدولة الإسلامية لكي تنفذ فيه العقوبة التي تغسل جريمته فعلاً وتسقط عنه عذاب جهنم، وبذلك أيضاً يسقط عن نفسه فريضة العمل لإقامة الخلافة. نسأل الله العظيم أن يكشف الغمة وأن يفرِّجَ هَمَّ الأمة، وأن يعزنا بنصره ويريحنا من الطاغوت وكفره، ]وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ[.
1989-09-06