السلطة السياسية في الفكر السياسي الغربي والإسلامي
1989/08/06م
المقالات
2,991 زيارة
تمهيد: موضوع السلطة السياسية موضوع طويل الذيول، متشعب الأنحاء، ولا سيما إذا أديرت مسائله حول المقارنة بين الفكر السياسي والغَرْبي، والفكر السياسي الإسلامي.. ولَمَّا كان المطلوب إنما هو بحث صغير في حدود عشرين صفحة فقط، لإعطاء صورة موجزة عن هذا الموضوع، تعكس بالتالي صورة عن كتاب هذا البحث في مدى قدرته على الخوص في خِضَم مسائله، والغَوْص في مراجعه ومصادره.. لذلك، سألتزم حدود المطلوب وسأقتصر على معالجة ست نقاط فقط من هذا الموضوع الكبير.. أراها وافية بالغرض إن شاء الله تعالى.
ولن تكون معالجتي لهذه النقاط الست معالجة تامة وشاملة لأنني لو قصدت إلى التمام والشمول في هذا البحث لكانت نقطةٌ واحدةٌ منها تحتاج إلى عشراتِ الصفحاتِ وربما كتابٍ كاملٍ برأسه ويكون ذلك خروجاً عن المطلوب.
وأما النقاط الست فهي:
1- تعريف السلطة السياسية.
2- ضرورة وجود سلطة سياسية في المجتمعات.
3- كيف نشأت السلطة السياسية في المجتمعات.
4- طبيعة السلطة السياسية.
5- ما هي صلاحيات السلطة السياسية في التشريع؟
6- ما هي واجبات السلطة السياسية: وما المَوْقف إذا أَخلَّت هذه السلطة بواجباتها؟
وعلى بركة الله نبدأ.
أولاً ـ تعريف السلطة السياسية:
لقد عرَّفوا السلطة السياسية بأنها «ظاهرة اجتماعية لها القدرة الفعلية على احتكار وسائل القمع والإكراه، داخل الجماعة بهدف تحقيق الانسجام، والأمن الاجتماعي لصالح هذه الجماعة».
ولعل من المفيد أن نذكر بأن السلطة السياسية هي عنصر من عناصر تكوين الدولة الثلاثة وهي:
1- السكان أو الشعب.
2- الإقليم أو الأرض.
3- السلطة السياسية أو التنظيم.
علماً أنه قد يطلق أحياناً لفظ (الدولة) على السلطة السياسية باعتبار أن السلطة السياسية هي الخاصيَّة المميزة للدولة.
مقارنة:
هذا هو تعريف السلطة السياسية كما هو في الفكر السياسي الغَرْبي وفي الدراسات السياسية العربية التي تدرس المسائل السياسية على الاتجاه الغَرْبي الحديث، ولكن ماذا بشأن تعريف السلطة السياسية في الفكر الإسلامي، وفي مصادرة الأصلية؟
إننا لنجد في هذا التعريف من خلال تعريف الخلافة أن الإمامة.
لأن الخلافة في المصادر الإسلامية والتاريخ الإسلامي تعني: السلطة السياسية الإسلامية.
وقد عرّف الماوردي الإمامة بقوله هي: «… موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا».
وعرّفها ابن خلدون بقوله: «حمل الكافَّة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية، والدنيوية الراجعة إليها.. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به…».
وعرّفها الإمام الجُوَيْني «الإمامة: رياسة تامّة في مهمات الدين والدنيا… لحفظ الحَوْزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفائها على المستحقين».
هذا.. ونلاحظ في التعريفات الإسلامية توفر عنصر القوة للسلطة السياسية من أجل القيام بمهماتها (في حراسة الدين).
(حمل الكافة..) (لحفظ الحَوْزة… وإقامة الدعوة بالحجة والسيف….) كما نلاحظ في التعريفات الإسلامية أن المهمة التي تنهض بها السلطة السياسية مزدوجة فهي إقامة الدين، ورعاية الأمور الدنيوية والمعاشية على أساس أحكام الدين.
أما في التعريف الغَرْبي للسلطة السياسية كما جاء عند (الكعكي) فإنه لم يشر إلى الناحية الدينية، وهذا أمر طبيعي في الحضارة الغَرْبية التي فَصَلَتِ الدين عن الدولة، وجعلت للدين سلطة روحيةً تتولى شؤون العبادة والأخلاق. وفَصَلَتْها عن السلطة السياسية التي تتولى شئون الدنيا.
هذا… وقد لاحظنا ضرورة توفر عنصر القوة للسلطة السياسية في كل من الفكر السياسي الغربي، والفكر السياسي الإسلامي.
ثانيا ـ ضرورة وجود سلطة سياسية في المجتمعات:
والواقع أنه قد تواطأ على القول بضرورة هذه السلطة السياسية كل من الفكر السياسي الغبي، والفكر السياسي الإسلامي.
ففي الفكر السياسي الغربي:
– نجد القديس (توما الاكويني) يقول: «المصلحة العامة للمجتمع تقتضي وجود حاكم، تُوكل إليه مهمة تنظيم تبادل الخدمات، وحاجة المجتمع إلى هذا الحاكم كحاجة الجسد إلى الروح».
– يقول (هيوم): «وقدر صغير من التفكير، والملاحظة، يكفي لتعليمنا أنه لا يمكن المحافظة على المجتمع دون سلطة حاكم ما، والناس لا يستطيعون العيش مطلقاً في مجتمع.. دون قوانين وقضاة، وحكام يحولون دون اعتداء القوي على الضعيف».
… وطلع علينا أخيراً الفكر الشيوعي بالقول بزوال السلطة السياسية، وذلك بعد أن تُصَفَّي دكتاتوريةُ العمال كل آثار النظام الرأسمالي.. وهناك لا سيد ولا مسود ولا مالك، ولا أجير، ولكن لم يُبَيِّن (ماركس) ولا أتباعُه كيف يُساس المجتمع، إذا ما أزيلت السلطة السياسية؟
مقارنة:
هذا ما جاء في الفكر السياسي الأوروبي في ضرورة السلطة السياسية حتى الأقوال الشاذة في هذا الموضوع.
فماذا عند المفكرين الإسلاميين؟
إننا نجد أن المفكرين الإسلاميين يكادون يجمعون على ضرورة وجود سلطة سياسية في المجتمع، لولا أقوال شاذة لبعض الفرق الإسلامية، وها هي النصوص التي توضح ذلك.
– يقول الماوردي: «لولا الوُلاة لكان الناس فوضى مُهْمَلين..» وقد قال الأفوه الأوْدي، وهو شاعر جاهلي:
«لا يصلح الناس فوضى لا سراةَ لهم ولا سَرَاة إذا جلهالهم سادوا»
– يقول ابن حجر الهيثمي: «اعلم أيضاً أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على أن نَصْب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب، بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلافهم في التعيين لا يقدح في الإجماع المذكور».
هذا ولا نسترسل في هذا القول عن الفقهاء، والمفكرين الإسلاميين، حتى لا نطيل هذا البحث القصير في نقطة واحدة.
أما الأقوال الشاذة التي قيلت في عدم ضرورة السلطة السياسية، فإن (النَجَدات) من فِرَق الخوارج قالوا:
«لا يَلْزَمُ الناسَ فرضُ الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطَوْا الحق بينهم».
وقال الشهرستاني: «أجمعت النَجَدات على أنه لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه، جاز…».
وذهب (هشام القُوطِي) من المعتزلة إلى وجوب نَصْب الإمام عند الأمن دون الفتنة وقال (أبو بكر الأصم): «بالعكس، أي يجب عند الفتنة دون الأمن».
ولكن ما الذي حمل القائلين بعدم وجوب إقامة سلطة سياسية على موقفهم هذا؟
يقول ابن خلدون: «والذي حملهم على هذا المذهب، إنما هو الفرار من الملك ومذاهبه من الاستطالة، والتَغَلُّب، والاستمتاع بالدنيا، لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك، والنَعْي على أهله، والرغبة في رفضه».
– ونلاحظ مما نقلنا من نصوص الفكر السياسي الغربي، والفكر السياسي الإسلامي أن القول بضرورة وجود السلطة السياسية هو قول الجماهير وإن كان مستند الفكر السياسي الغربي إنما هو العقل.. بينما مستند الفكر السياسي الإسلامي هو النصوص الشرعية إلى جانب العقل.. تبعاً لاعتماد العقل أو عدم اعتماده دليلاً على الوجوب عند بعض الفرق الإسلامية.
ومن النصوص الشرعية في إيجاب السلطة السياسية التي اعتمد عليها أهل الوجوب قوله تعالى: ]أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ[.
لأن وجوب طاعتهم فرع من وجوب إقامتهم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية». لأن وجود بيعة في عنق المسلم يستلزم وجوب إقامة صاحب السلطة السياسية ومبايعته.
كما نلاحظ أن القول بعدم ضرورة إيجاد سلطة سياسية هو قول شاذ في كل من الفكر الغربي، والفكر الإسلامي، ولا برهان له من دليل عقلي أو نقلي مقبول.. وإنما هو محض أوهام، وهروب من مخاوف الانحراف في السلطة إلى إلغائها الذي هو أشد مخاطر ومخاوف من انحرافها.
ثالثاً ـ كيف نشأت السلطة السياسية؟
اهتم الفكر السياسي في بحث أصل الدولة.. ودارت المذاهب في ذلك حول ركن واحد من أركان الدولة وهو السلطة السياسية، كيف ظهرت، وتظهر إلى حيز الوجود؟ في التاريخ البشري والواقع؟ وأهم المذاهب في ذلك ـ كما جاء في الفكر السياسي الغربي:
1- نظرية الحق الإلهي.
2- نظرية العَقْد الاجتماعي.
3- نظرية القوة والتَغلُّب.
4- نظرية تطور الأسرة.
5- نظرية التطور التاريخي.
ولا يتسع هذا البحث الموجز لاستيفاء الحديث المفصل عن هذه النظريات، وبيان وجهة نظر المؤيدين والمعارضين لكل نظرية، ونكتفي بخلاصة سريعة توضح المقصود من كل منها:
1- نظرية الحق الإلهي:
تقول هذه النظرية بأن الدولة من صنع الله عز وجل، فهو خالق كل شيء، وهو الذي يختار الملوك مباشرة لحكم الشعوب، وقد استخدمت هذه النظرية خلال القرنين 16 ـ 17م لتبرير سلطة الملوك المطلقة.
ويُعبِّر (لويس 14) عن هذه النظرية ـ وقد أشار إليها في مذكراته ـ بقوله: «إن سلطة الملوك مستمدة من تفويض الخالق فالله وحده مصدرها، وليس الشعب، وهم (أي الملوك) غير مسؤولين عن كيفية ممارستها إلا أمام الله وحده».
وأصدر الملك (لويس 15) قانوناً سنة 1770 جاء في مقدمته:
«إننا لم نتلق التاج إلا من الله».
ويؤيد (فليمر) نظرية الحق الإلهي فيقول: «إن الله وهب السلطة لآدم ومنه لأبنائه، حتى وصلت للملوك الحاليين، فحق الملك على شعبه، كحقوق الأب على أبنائه».
ومن الجدير بالذكر أن (جون لوك) ردّ على (فليمر) بقوله:
«أبناء آدم كثيرون، والتحقق من الوريث الشرعي فيهم، أمر مشكوك فيه».
هذا.. وقد بقي لهذه النظرية (الحق الإلهي) من يستند إليها حتى مستهل القرن العشرين لتبرير السلطات المطلقة للملوك، فها هو (غليوم الثاني) إمبراطور ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى سنة 1910م يقول بأنه يستمد سلطته من الله، وأنه المختار من السماء، وليس له بناء على ذلك أن يحفل بالرأي العام أو بمشيئة البرلمان.
على أن هذه النظرية أخذت تتلاشى، بعد أن عجزت عن مجابهة الأفكار الحديثة، ويقظة الشعوب.
2- نظرية العقد الاجتماعي:
وأبرز من كتب في هذه النظرية ثلاثة هم:
– توماس هوبز الإنجليزي 1588 ـ 1679.
– جون لوك الإنجليزي: 1632 ـ 1704م.
– جان جاك روسو السويسري الفرنسي 1712 ـ 1778م.
وإن كان هذا الأخير زاد هذه النظرية بلورة وإيضاحاً، وتفسيره للعَقْد الاجتماعي هو الذي تبناه أكثر فلاسفة السياسة في العصر الحديث.
وها هي خلاصة موجزة لفلسفة كل منهم حول نشوء السلطة السياسية.
وقبل أن نشرح مذهب كل منهم في تصوره للعَقْد الاجتماعي الذي أنشأ الدولة والسلطة السياسية فيها، يحسن بنا أن نذكر بأنهم جميعاً تصوروا أن البشر مروا بمرحلتين:
– مرحلة الحياة الطبيعية (ما قبل وجود الدولة، والسلطة السياسية).
– مرحلة الحياة الاجتماعية (عن طريق العَقْد الاجتماعي وتكوين السلطة السياسية) ففي مرحلة الحياة الطبيعية:
يَرى (هوبز) أن الناس كانوا في حالة حرب دائمة بعضهم مع بعض (حرب الجميع ضد الجميع) بسبب الأنانية، وحب السيطرة والتسلط، وكانت الغلبة للأقوياء، وكان الحق يتبع القوة، ويخضع لها، ولذلك رغب الناس في الخروج من شقاء هذه الحياة واتفقوا على أن يعيشوا معاً تحت سلطة بشرية توفق بين المصالح المختلفة، وتضع حداً لحياة البؤس والشقاء.
أما (لوك) فيتصور مرحلة (الحياة الطبيعية) بأن الناس كانوا فيها أحراراً، وكل منهم يتمتع بسلطتين: 1- الحفاظ على ذاته وممتلكاته. 2- ومعاقبة كل من يحاول الاعتداء على نفسه، وممتلكاته أو على الآخرين وممتلكاتهم، ولكن لعدم وجود قانون محدد معروف لدى الجميع يحكم في العلاقات، ولعدم وجود قاض غير متحيز يحكم طبقاً للقانون الطبيعي، ولعدم وجود قوة تدعم الحكم وتنفذه… نشأ عن كل ذلك اعتداءات على النفوس والممتلكات.
أما جان جاك روسو:
فإنه تخيَّل (الحياة الطبيعية) قبل (المرحلة الاجتماعية ووجود السلطة السياسية) تخيلها حياة مُشبَعَة بالحرية، وحياة فاضلة، لأن الإنسان بطبيعته خَيِّر وفاضل، ولكن لما تعددت المصالح الفردية، وتضاربت ساءت هذه الحال الطبيعية…. ورغب الجميع في الخروج عنها.
نعم، لقد اتفقوا على تَخَيُّل وجود (حياة طبيعية) لا وجود فيها للسلطة السياسية في التاريخ البشري، ولكنهم افترقوا في وصف تلك الحياة على النحو السابق.
كما اتفقوا على الخروج من تلك (الحياة الطبيعة) إلى (العقد الاجتماعي) الذي تصوره كل منهم على نحو مُغَايِر لغيره.
أما (هوبز) فقد ألف كتابه (التِنِّين) اللوياثان الذي تصور فيه (العَقْد الاجتماعي) بأنه: عقد تم فيه تنازل تام من أفراد الجماعة عن جميع حقوقهم، لرئيس اختاروه من بينهم، ولم يدخل هذا الرئيس في العقد، وسلموه السيادة والسلطة السياسية لكي يخرجهم من الحالة الطبيعية التي كانوا فيها.
وهكذا تكون سلطةُ الرئيس أو الملك مطلقة، يملك السلطة التشريعية والتنفيذية معاً، ولا حق للأفراد قِبَله، ولكن هذا الرئيس مهما تَعَسَّف أو استبد، فإن حالة الفرد تحت سلطته ستظل على كل حال أفضل من حالته الأولى.
أما (لوك) فإنه تصور العقد بأنه: عقد تم فيه التنازل من كل فرد لا عن كامل حقوقه ـ بل عن جزء من هذه الحقوق، لفرد أو عدة أفراد يتسلمون السلطة السياسية، وهذا الجزء من الحقوق المتنازل عنه محدودٌ بالقدر الذي يتيح للسلطة السياسية، أن تقوم بواجباتها للدفاع عن مصالح الأفراد في حفظ حياتهم، وحماية ممتلكاتهم هذا.. وأصحاب السلطة السياسية طَرَفٌ في (العَقْد) بحيث إذا اعتدوا على الحريات العامة والحقوق الأساسية للأفراد ـ ولا سيما حق الحياة، وحق الملكية الخاصة، فإن للشعب حقَّ الثورة عليهم، فالسلطة السياسية هنا مقيدة لا مطلقة.
أما روسو:
فإنه تصور (العقد) بأنه: عقد تم بين الناس كلهم بعضهم مع بعض على أن يتنازل كل منهم تنازلاً تاماً عن حقوقه ـ لا لشخص معين كما يتصور (هوبز) ـ إنما لصالح مجموع الشعب ـ أي: لصالح الشخص المعنوي المُكَوَّن من مجموع الناس «كُلٌ يَهَبُ نفسه للجميع، ولا يَهَبُ نفسه لأحد» وهكذا يشكل الأفراد بذلك ما يسمى بـ (الإدارة العامة)، وهي إرادة الشعب بمجموعه، فهناك تعاقدُ بين كل فرد مع الآخرين على هذا التنازل لصالح إرادة المجموع (الإرادة العامة)، وهذه الإرادة العامة هي التي لها سلطة التشريع، وهي صاحبة السلطة السياسية.
وأما ممثلو الأمة ـ النواب ـ فهم مجرد وكلاء، لا يملكون السيادة بحث إذا انحرفوا في سنهم للقوانين فللأمة عزلهم، وإبطال وكالتهم.
وأما السلطة التنفيذية، فإن الأمة تختار أشخاص يتولون هذه المهمة بوصفهم موظفين وخَدَم لتنفيذ القوانين، على أنَّ اختيار أصحاب هذه السلطة التنفيذية لا يحتاج إلى عَقْد.
هذه هي خلاصة القول في (العقد الاجتماعي) باعتباره مذهباً يفسر نشوء الدولة والسلطة السياسية فيها.
3- نظرية القوة والتغلب:
وتقوم هذه النظرية على أساس حق الأقوى، إذ يرى أصحاب هذه النظرية أن الدولة في مراحلها الأولى عبارة عن نظام اجتماعي فَرَضه شخص أو فريق من الأفراد على بقية أفراد الجماعة، مستخدمين القوة، والإكراه للوصول إلى هذه الغاية وقد قال بهذه النظرية كل من الألماني (أوبنهمير)، والفرنسي (شارل بيدان).
4- نظرية تطور الأسرة:
ويعتبر (أرسطو) ممن نَوَّه بكون الأسرة هي الأساس في تكوين المجتمع الذي ينبثق عنه بعد ذلك السلطة السياسية التي تحكمه.
إذ يقول: «الأسرة هي الخلية الأولى في بناء المجتمع».
ويقول أصحاب هذه النظرية، ومنهم (جان بوردان): هناك تشابه بين الأسرة والدولة، والدولة ما هي إلا الأسرة بعد نموها، وتطويرها، وتكاثرها، وأساس سلطة الحاكم هو سلطة أبي الأسرة.
5- نظرية التطور التاريخي:
وتقول هذه النظرية: بأن الدولة ليست وليدة عامل واحد من العوامل السابقة التي تدور حولها النظريات السابقة الذكر، وإنما هي وليدة عوامل متعددة، تختلف أهميتها من دولة إلى أخرى، وذلك لاختلاف هذه الدول في طبيعتها وتاريخها وأحوالها المختلفة.
ولذلك، يرى بعض الباحثين أن مدار البحث يجب أن يكون اصل نشأة دولة معينة على وجه التخصيص، لا على وجه التعميم.
ويبدو لي أن هذه النظرية الأخيرة هي أقرب النظريات إلى الصواب، لأنها جمعت بين معظم النظريات السابقة، فكل دولة تخضع نشأتها لظروف خاصة بها، بحيث لا يمكن اتخاذ نشأة خاصة لدولة معينة وتطبيقه على غيرها من الدول… فهذه الدولة مثلاً نشأت عن طريق التغلب والقهر… وهكذا وهكذا.. مما حفل به التاريخ البشري من دول وسلطات سياسية مختلفة في أصول نشأتها.
مقارنة:
هذا ما يتعلق بنظريات نشأة الدولة والسلطة السياسية في الفكر السياسي الغربي فماذا في الفكر السياسي الإسلامي حول هذا الموضوع؟
أ- إننا نجد في مقدمة ابن خلدون ما يدل على ما يلي:
1- أن الحياة الاجتماعية ضرورية للبشر، أي الإنسان حيوان مَدَني اجتماعي بطبعه. يقول ابن خلدون: «الاجتماع الإنساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقوله: الإنسان مدني بالطبع».
وعلى هذا، فلا مجال للقول بأن هناك حياة سابقة على الحياة الاجتماعية كما تصور (هوبز) و(لوك) و(روسو) وسموها الحياة الطبيعية.
2- السلطة السياسية ضرورية للحياة الاجتماعية، وتنشأ هذه السلطة من جماعة من البدو ذات عصبية فتؤسس الدولة أو الملك كما يقول ابن خلدون:
«الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك…» والآدميون يحتاجون في كل اجتماع إلى وازعٍ (أي حاكم = سلطة سياسية) يَزَعُ بعضهم عن بعض، ولا يد أن يكون هذا الوازع متغلباً عليهم بتلك العصبية، وهذا التغلب هو الملك».
وهكذا الكلام قريبٌ من نظرية القوة والتغلب التي ذكرناها سابقاً.
غير أنه يجب أن نميز (نظرية القوة والتغلب) عن التغلب والقهر الذي ذكره الفقهاء بوصفه طريقة من طُرُق الوصول إلى السلطة السياسية (الخلافة) فما ذكره الفقهاء في بحث «السلطان المُتَغلِّب» اشترطوا لشرعيَّته أن تجري «البيعة» لهذا المتُغلِّب بعد استقرار الأمور له، من قِبل الناس أو ممثليهم من أهل الحل والعقد، لكي تأخذ سلطته السياسية صفتها الشرعية، وهذا ما كان يحصل في التاريخ الإسلامي.
ب- ومن ناحية أخرى نجد أن الدولة الإسلامية، قامت ونشأت بناء على عقد اجتماعي، فمن المعروف في كل كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ «البيعة» من الأنصار قادة «يثرب» (بيعة العقبة الثانية) على الهجرة من مكة إلى المدينة وإقامة الدولة الإسلامية في المدينة، وما أن وصل إلى المدينة حتى تسلم الرسول صلى الله عليه وسلم سلطاته السياسية على أساس أول دستور كتب في التاريخ، وتضمن مبادئ وقواعد دولية، وأحكاماً إنسانية لم يعرفها العالم القديم من قبل وهو ما يعرف في السيرة باسم «صحيفة المدينة».
وكذلك جاء نظام الحكم في الإسلام بوجوب البيعة للخليفة الذي يتولى السلطة السياسية:
يقول عليه الصلاة والسلام: «… ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
والبيعة هي: عقد اجتماعي بين المسلمين أو ممثليهم وهم: (أهل الحل والعقد أو أهل الاختيار أو أهل الشورى) وبين الخليفة على الحكم بالكتاب والسنة من قِبَل الإمام، والسمع والطاعة من قِبَل الأمة.
وهكذا ترى في الفكر الإسلامي أن السلطة السياسية تنشأ شرعية عن طريق التعاقد بين الأمة وصاحب السلطة كما تنشأ في الواقع الفعلي ـ كما ذكر ابن خلدون ـ عن طريق التغلب والقهر.. وقد اشترط الفقهاء لهذه السلطة الفعلية أن تتبعها البيعة من الأمة أو ممثليها لكي تكسب الصفة الشرعية.
جـ- ونجد في القرآن الكريم ما يفيد باستلام السلطة السياسية عن طريق «الحق الإلهي والوراثة» في قوله تعالى: ]وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً…[ وذكر الألوسي في تفسيره أن من الفضل الممنوح لداود عليه السلام «الملك» وقوله (مِنَّا) أي بلا واسطة..
وفي التصريح بوراثة السلطة يقول الله تعالى: ]وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ…[.
وذكر الألوسي في تفسيره «… وصار نبياً ملكاً بعد موت أبيه عليهما السلام» إذا كان استلام السلطة السياسية عن طريق (الحق الإلهي والوراثة) قد وجد في القرآن وفي تفسيره ما ويحوي بذلك.. فإنما هو شرع من قبلنا على كل حال.. وأما في الفكر السياسي الإسلامي عند (أهل السنة) فإنه لا جود لهذه النظرية.. ولكنها موجودة في الفكر السياسي الإسلامي عند (الشيعة).
وجهة نظر الشيعة:
يقول الشيعة بأن إيجاد السلطة السياسية (الإمامة) ليست واجبة على الأمة، وإنما تجب على الله عز وجل، فهو الذي يعين الأئمة عن طريق تَعيين الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
يقول السير (توماس آرنولد): «إن علماء الشيعة يرفضون ـ ما عدا الزيديين ـ مبدأ الانتخاب (أي اختيار الإمام) ويتمسكون بأن النبي صلى الله عليه وسلم عَيَّن (علياً) مباشرة خَلَفاً له، وأن صفات علي انتقلت إلى أولاده الذين أمر الله أن يشغلوا هذا المنصب الرفيع» وهذه بعض النصوص من مصادر (الشيعة) التي تدل على ذلك.
– ينسب إلى الإمام جعفر الصادق قوله: «إن الدنيا كلها للإمام، على جهة الملك، وإنه أولى بها من الذين في أيديهم».
– وينسب إلى الإمام محمد الباقر والد جعفر الصادق قوله : «خلق الله آدم، وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو للأئمة من آل محمد».
ومذهب الشيعة في السلطة يتخلص في:
1- أن الحاكم مُعيَّن من قِبَل الله، ولا دَخْل للبشر في تعيينه.
2- والحاكم محصور في كونه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
3- والإمام معصومٌ، ولا حق لأحد في محاسبته، لأن الذي يحاسَب هو الذي يخطئ، والإمام معصوم لا يعتريه الخطأ.
هذا.. ويعتمد الشيعة على جملة من الأدلة يؤولونها تأولات تُناسب ما ذهبوا إليه كقوله تعالى: ]وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[ ومثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أنت ولي كل مؤمن بعدي».
ويقول أحد مشايخ الشيعة المعاصرين:
«فالإمام إذاً عند الشيعة فيه جميع ما في النبي من صفات ومؤهلات وله ما للنبي على الناس من ولاية وسلطان، ولا يفترق عنه في شيء، إلا في نزول الوحي، على أن الإمام قد أخذ عن الرسول ما نزل عليه من ربه، والنتيجة الحتمية لذلك أن الإمام بهذا المعنى معصومٌ لا محالة، تماماً كالنبي، وأنَّ من نَفَى عنه العصمة فقد نفى عنه الإمامة».
وأما وجهة نظر أهل السنة إلى هذا الأمر، فقد سَبَق إيضاحه وهو أن السلطة إنما هي للأمة تمنحها من تشاء بعَقْد شرعي كسائر العقود الشرعية، موضوعة: التزام الحاكم بالقيام بمهامه المنوطة به حسب الكتاب والسنة والاجتهاد الشرعي، والتزام الأمة بالسمع والطاعة في المعروف.
ودليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع».
ويقول الماوردي عن الخليفة: «وذهب جمهور الفقهاء إلى أن إمامته لا تنعقد إلا بالرضا والاختيار، لكن يلزم أهل الاختيار عند الإمامة له لأن الإمامة عَقْد لا يتم إلا بعاقد».
وأما أدلة الشيعة، فهي على قسمين:
– إما أن تكون غير صحيحة إذا كانت خاصةً في دلالتها على الموضوع.
– وإما أن تكون عامةً لا تختص بموضوع المعالجة.
(يتبع)
1989-08-06