27 رجب 1342هـ ـ 3 آذار 1924. كيف هدمت الخلافة
1989/03/05م
المقالات
2,321 زيارة
الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن الأذهان لحظة واحدة هي أن الإسلام والكفر نقيضان لا يلتقيان إلا في حلبة الصراع الفكري أو الميدان العسكري.
قال الله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
وقال: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا).
والحقيقة الثانية أن الإسلام لا يعتبر موجوداً في الحياة إلا بوجود دولة له تحمل دعوته، وتقيم حدود الله، وترعى شؤون المسلمين في الداخل والخارج، وتحمي ثغور بلاد الإسلام. فإقامة الحدود، ورعاية الشؤون، وحماية الثغور، وحمل الإسلام للعالم أحكام فرضها الله على جميع المسلمين، ولا يتم تنفيذها إلا بوجود من ينوب عن المسلمين في تنفيذ هذه الأحكام، وهو الخليفة، إذن فالحقيقة الثانية هي أن الخلافة هي رئاسة لجميع المسلمين في الدنيا.
ولذلك فمنذ بعثة الرسول محمد ﷺ بدأ الصراع الفكري بين الإسلام والكفر واستمر هذا الصراع على أشده طيلة ثلاث عشرة سنة. وما أن أقيمت دولة الإسلام في المدينة، حتى انتقل الصراع الفكري إلى الميدان العسكري. فاستمر هذا الصراع العسكري طيلة ثلاثة عشر قرناً تمكنت خلالها الدولة الإسلامية من القيام بواجبها على أكمل وجه فوصل الإسلام إلى معظم العالم المعروف في ذلك الوقت. من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن المحيط الهندي جنوباً إلى أواسط الاتحاد السوفياتي شمالاً وأواسط أوروبا وحتى مشارف باريس في فرنسا.
ومع ذلك فقد تم للكفار هدم الخلافة في 3 آذار سنة 1924 فكيف تم لهم ذلك؟ كيف هدمت الخلافة؟
حين يكون النظام منبثقاً عن القاعدة الفكرية التي انبثق عنها العرف العام، فذلك يعني أن الكيان السياسي القائم على هذا النظام راسخ القواعد، قوي البنيان. وتكون المحافظة على هذا الكيان قضية مصيرية بالنسبة للأمة المنضوية تحت هذا النظام. فليس من السهل هدمه أو الإطاحة به، حتى لو هزم في معركة، أو خسر حرباً، أو انحسر سلطانه عن بعض أجزائه، أو تقلص نفوذه في عالمه، فإنه لا يلبث أن يعود لسابق عهده ومجده.
بالرغم من كثرة الفتوحات وتوالي الانتصارات الإسلامية، فقد هزموا في معارك شتى وخسروا بعض الحروب، وانحسر نفوذهم عن بعض الأقطار في فترات متعددة، إلا أنهم سرعان ما استعادوا ما فقدوه، بل وأضافوا إليه مناطق جديدة ونفوذاً جديداً.
احتل الصليبيون بلاد الشام وأجزاء من ساحل مصر، ودام حكمهم لبعض الأجزاء أكثر من مائة سنة، ولكن، ما لبث المسلمون أن نهضوا من كبوتهم، فاستعادوا ما فقدوه وطردوا الصليبيين بعيداً، بل لاحقهم المسلمون إلى عقر دارهم. فاجتاحوا البلقان ـ شرق أوروبا ـ ووقفوا على أسوار فينا.
وما أصاب التتار والمغول غنيٌّ عن البيان، ففي الوقت الذي غُلِبَ فيه المسلمون، كان الإسلام هو الغالب، وإذ بالمنتصر بالمعركة يدين بهذا الدين. ويحني هامته له.
نهم حين يكون النظام منبثقاً من نفس القاعدة التي انبثق عنها العرف العام، فإن المحافظة على الكيان السياسي تصبح قضية مصيرية. أما إذا ضعف الرأي العام، أو تسربت إليه أفكار أفقدته الثقة بالنظام، أو أدخل في النظام أحكاماً ليست مما ينسجم مع العرف العام، فإن إمكانية حمايته تضعف، والنظرة إليه تختلف.
وأما إن كان النظام مخالفاً للعرف العام. أي مخالفاً لعقيدة المجتمع التي هي مصدر العرف العام فيه. فإن الأمر يختلف تماماً. فإنك لتجد الناس يتآمرون عليه للإطاحة به، وقد يؤدي بهم الحال للاستعانة بالأجنبي. كما هو الحال في أقطار العالم الإسلامي كافة، حيث أن النظم المطبقة فيه تخالف عقيدة الأمة، وتتنافر مع ما فيه من أعراف وتقاليد وعادات وأفكار. ولذلك نجده تربة خصبة لحدوث الانقلابات العسكرية، والثورات الشعبية كما نجد فيه التسلط، والكبت والقمع، وقطع الأعناق والأرزاق.
بعد الفشل العسكري الذي مني به الكفار في إمكانية القضاء على الإسلام أو الحد من تقدمه ونفوذه، وإدراكاً منهم لما أسلفنا من مخالفة النظام للعرف العام والتقاليد والعادات والأفكار، فقد عمدوا إلى رسم خطط جديدة بأساليب خبيثة للوصول إلى غايتهم فاستبدلوا بالغزو العسكري الغزو الفكري. فكانت محاولة لتغيير ما في النفوس من أفكار وعادات وتقاليد وأعراف، وإيجاد أفكار جديدة تتعارض مع النظام العام، وأفكار لإثارة الأحقاد والضغائن.
1- كانت فكرة القومية هي المادة الدسمة التي يستطيعون النفاذ منها، فبذورا بذورها وتعهدوها بالسقي والرعاية، مستغلين سوء التنفيذ للنظام. وما لحق الناس من ظلم. وأشعلوها ثورات في أوروبا الشرقية ودول البلقان. وقاموا بمساعدة هذه الثورات حتى حصلت على استقلالها وانفصالها عن جسم الدولة.
2- ولما نجحت تلك الخطة في شرق أوروبا. قرروا أن يحملوها إلى بقية شعوب الدولة الإسلامية ـ الدولة العثمانية ـ وتبنى الإنجليز والفرنسيون هذه الفكرة وبذلوا قصارى جهدهم في سبيل إيجاد هذه الفكرة بين هذه الشعوب.
حمل الأتراك فكرة التتريك، حملها حزب الاتحاد والترقي.
وحمل العرب فكرة القومية العربية وتأسست على تلك الفكرة أحزاب وتنظيمات.
وأنشأت بريطانيا وفرنسا لهما مركزين أساسين أحدهما في بيروت والآخر في استنبول أما مركز بيروت فمهمته إيجاد الفرق الأحزاب والجماعات التي تحمل فكرته وتتبنى عقيدته مركزاً على فكرة القومية في هذه الجماعات.
وأما مركز استنبول فإنه يقوم على شراء العملاء من كبار قادة الجيش وكبار السياسيين والزعماء.
ففي سنة 1842 تشكلت لجنة لتأسيس جمعية علمية تحت رعاية الإرسالية الأميركية، وفق برنامجها. وبعد خمس سنوات نجحت في تأسيس جمعية سمتها «جمعية الفنون والعلوم» تولى إدارتها عميلان نصرانيان هما بطرس البستاني وناصيف اليازجي إلى جانب الكولونيل تشرتشل من الإنجليز، وإيلي سميث وكورنيلوس فإن ديك من الأميركان.
ومن الطريق أنه لم ينتسب لهذه الجمعية خلال عامين سوى خمسين شخصاً معظمهم من سكان بيروت وكلهم من النصارى.
ثم في سنة 1857 تأسست جمعية أخرى على نمط جديد فقد قررت هذه الجمعية أن لا تضم أحداً من الأجانب. فالتحق بها عدد كبير بلغ مائة وخمسين عضواً. كان منهم محمد أرسلان ـ درزي وحسين بينهم من المسلمين، وإبراهيم اليازجي وابن بطرس البستاتي.
وفي سنة 1875 تأسست الجمعية السرية وقد أسسها خمسة شبان من النصارى الذين تلقوا العلم في الكلية البروتستانتية في بيروت، تأسست كحزب سياسي، وتعتبر أول حزب سياسي وجد في بلاد الشام، وقامت على أساس فكرة القومية العربية. وتنادي بفصل الدين عن الدولة، والدين لله والوطن للجميع. وكانت تصدر نشرات وتوزعها سراً.
ثم نشطت السفارات الأجنبية بتأسيس الجمعيات والأحزاب، فأسسوا حزب اللامركزية وجعلوا مركزه القاهرة وأسست جمعية الإصلاح ومركزها بيروت. وأسس المنتدى الدبي وغير ذلك من الأحزاب والجمعيات. حتى عقد الشباب العرب بتاريخ 18/06/1913 مؤتمراً في باريس تحت رعاية فرنسا.
كما كان نشاط مركز استنبول أن أسس جمعية الاتحاد والترقي، فقد تأسست هذه الجمعية في باريس بزعامة أحمد رضا بك وكانت فكرته نقل الحضارة الغربية إلى بلاد تركيا. واصدر جريدة كانت السفارات الغربية ترسلها إلى تركيا مع البريد الدبلوماسي لتصل إلى عناصر هذه الجمعية. وقد ضمت هذه الجمعية إليها الكثير من كبار الضباط والسياسيين. وقد احتضنت المحافل الماسونية هذه الجمعية وكانت تناصرها وتشيد بجهودها وانضم إليها الكثير من أعضاء هذه المحافل حتى قوى عودها واشتدت وقوى نفوذها، وكانت تعقد اجتماعاتها سراً حتى سنة 1908 حيث قامت بانقلاب تسلمت فيه مقاليد الأمور.
ومن الطريق أن بريطانيا عينت لها سفيراً جديداً استنبول في خريف سنة 1908 هو جيرالد لوتر، ولما وصل إلى استنبول استقبله جماعة الاتحاد والترقي استقبالاً حماسياً وأخرجوا الخيول من عريش عربته وسيروها بأنفسهم، فقاموا مقام الخيل في جر عربته، مبالغة في إكرامه.
وكانت هذه الجمعية من المضبوعين بل المسحورين بالثقافة الغربية واستطاعت أن تهيمن هذه الجمعية على كافة مرافق الدولة وتبسط سلطانها ونفوذها على كل شيء. وبرزت بكل وقاحة فكرةُ القومية التركية. والتمييز بين التركي وغيره. وصار تفضيل تركيا على بقية بلاد المسلمين وتفضيل العنصر التركي على غيره من المسلمين. ولذلك كان من أفظع ما قام به الغرب هو تأسيس هذه الجمعية. ونشر فكرة القومية بين رعايا الدولة. وكانت السياسة التي اتبعتها هذه الجمعية هي معول الهدم في جسم الدولة، وكانت تصرفاتها تجاه القوميات الأخرى هي التي دفعت بهذه القوميات لإنشاء جمعيات لها. فقام الألبان بإنشاء جمعية لهم في استنبول نفسها. وتبعهم الشركس والأكراد والأرمن والروم. وقام العرب فأسسوا جمعية الإخاء العربي العثماني. إلا أن جمعية الاتحاد والترقي لم تسمح لهذه الجمعية، وعاملت العرب معاملة عداوة في كل شيء، ومنع الضباط العرب من البعثات العلمية، واستدعوا من بلادهم. وحرموا العرب من جميع المراكز الحساسة حتى وزارة الأوقاف فقد انتزعوها من الوزير العربي وأعطيت إلى وزير تركي. وانتشرت فكرة سياسة التتريك حتى بلغ الحال بتعليم اللغة العربية باللغة التركية. وانتشرت هذه العنصرية التركية بشكل مزق المجتمع وقطع أواصره.
هذا ما وصلت إليه حالة الدولة الداخلية وهذا ما دفع العرب كذلك إلى الانحياز إلى ما يسمى بالقومية العربية وعقدهم مؤتمراً في باريس سنة 1913 كان ذلك إعلاناً صريحاً بانحياز العرب إلى الإنجليز والفرنسيين ضد دولتهم ـ الدولة العثمانية ت وعلى الأثر شكلت جمعية الاتحاد والترقي جمعية أخرى باسم العائلة التركية ـ ترك أوجاغي ـ وجعلوا غايتها محو الإسلام وتتريك العناصر العثمانية مما أثار حفيظة الأقوام الأخرى غير تركية.
ومن الغزو الفكري أيضاً تشربت أفكار الكفر لجسم أمة كالديمقراطية والحرية وغيرها ـ عدالة ـ حرية ـ مساواة.
حتى خدع المسلمون بهذه المفاهيم وتصوروا أن الإسلام هو الديمقراطية أو أن الديمقراطية منبثقة من الإسلام أو على الأقل لا تتعارض مع الإسلام مع أن الديمقراطية مناقضة للإسلام ومخالفة له في كل شيء. ويكفي أن ينظر المرءُ لمصدر التشريع ليرى التناقض القائم بين الإسلام والديمقراطية فالاسلام مصدر التشريع فيها الكتاب والسنة. أما الديمقراطية فإن مصدر التشريع فيها السلطة التشريعية أي مجلس النواب.
كما خدع المسلمون أيضاً بالقول أن ما لا يخالف الإسلام فهو من الإسلام ويجوز أخذه مع أن الإسلام هو ما جاء به الوحي، وليس ما لا يخالف الإسلام أو ما لم يرد نص بخلافه. ومن هذا المنزلق أجاز شيخ الإسلام ـ جهالة ـ أخذ أحكام الكثير من القوانين من الفقه الروماني أو الفقه الفرنسي أو غير ذلك.
إذن لم يتمكن الكفار من هدم الخلافة إلا بعد أن هدموها في نفوس أبنائها، ولم يهدموها في نفوس أبنائها إلا بالغزو الفكري الذي مكن لأفكار الكفر أن تحتل مركز التنبه في أذهان المسلمين.
ففكرة القومية أقام عليها تكتلات وأحزاباً مزقت الأمة وقطعت أوصالها.
وبفكرة القومية ومحاولة إظهارها أجاز دعاتها لأنفسهم التعامل مع الكفار والاستعانة بهم لهدم دولتهم.
ثم سوء فهم الإسلام الذي أدى إلى قبول الأفكار الأخرى كالديمقراطية وغيرها.
وأخيراً شراء العملاء ومراكز القوى في الأمة وإغراؤهم بشتى المغريات كما أغروا الحسين بن علي بنقل الخلافة إلى العرب.
ولما تم لهم ذلك قاموا بالتخطيط لضربها عسكرياً وإزالتها من الوجود وبالرغم من هزيمة المسلمين عسكرياً وانتصار الكفار عليهم بمساعدة الثورة العربية الكبرى بل الخيانة العربية الكبرى. لم يجرؤ الكفار على طلب إلغاء الخلافة بل عهدوا إلى أحد أبناء هذه الأمة بذلك ـ أي مصطفى كمال أتاتورك ـ بعد أن ألبسوه ثوب بطولة زائفة في معركة «أنا فورطه».
فقد كان الإنجليز يحضرون جبلاً يحتل الأتراك قمته والإنجليز أسفله ولم يستطع أي من الطرفين أن يحقق انتصاراً حاسماً. وفي ليلة ما بعد بضعة اشهر انسحب الإنجليز فجأة. فظهر مصطفى كمال بطل تلك المعركة الزائفة.
وسلطت الأضواء على مصطفى كمال وأصبح بطل الحروب بلا منازع. هذا هو البطل الذي أوكل له إلغاء الخلافة وقد هيأوا له القيام بهذا العمل بمسرحيات رخيصة ومؤامرات مفتعلة لتخلق منه بطلاً يلتف الناس حوله ظناً منهم أنه القائد الفذ الذي سيعيد لهم مجدهم وعزتهم.
ولما تم لهم ذلك واستطاع صنيعتهم وعملاؤهم خداع الناس أعلنوا أن المجلس الوطني الكبير قد وافق على إلغاء الخلافة. كان ذلك في الثالث من آذار سنة 1924م.
1989-03-05