صدر في بيروت كتاب من تأليف سليم الهلالي يتهجم فيه على من يقول بأن العقائد يجب بناؤها على اليقين ولا تكفي فيها الأدلة الظنية.
وقد كتب المؤلف في مقدمة الكتاب ص 9 العبارة التالية: (ومن وجد في عملي هذا خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يألُ جهداً في نصحي بالتي هي أحسن للتي هي أقوم، فإن النصح شرعة لمن صلحت نيته، وصفت سريرته وطويته).
ونحن قد وجدنا في الكتاب خيراً وحمدنا الله، ووجدنا فيه غير ذلك وها نحن نحاول تقديم ما يوفقنا الله إليه من نصح له ولمن قرأ كتابه. ونسأل الله أن يجعله ويجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وقبل الدخول في مناقشة الموضوع نود أن نفلت نظر المؤلف الكريم إلى أنه يحمل في نفسه حقداً على إخوانه الذين اختلف معهم في الرأي، وقد ظهر هذا الحقد في قوله ص 6 من الكتاب:
(إن هذه الكلمة ـ يقصد كلمة أن خير الآحاد لا يكفي لإثبات العقيدة ـ تحمل في ثناياها مؤامرة خبيثة تسعى حثيثاً للفتك بعقائد الإسلام). وظهر في قوله ص 126: (أليس هذا هو النفاق بقضه وقضيضه)، وظهر في أماكن أخرى كثيرة من الكتاب. ونكتفي بأن نذكره بقوله تعالى: وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا[.
ونحن في مقالنا هذا لسنا في صدد مناقشة الكتاب نقطة نقطة بل سنعرض لبعض المسائل منه فقط. يقول المؤلف ص 39: (وأما أصله وهو الإيمان بالله ورسوله فإنه يشرع بناؤه على التفكير والنظر في ملكوت الله، ولكن إذا آمن رجل ونطق بالشهادتين دون أن يفعل ذلك فإنه إيمانه مقبول وهو معدود من المسلمين، بل إن الإسلام يقبل إسلام من آمن كرهاً كما روى البخاري وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: «عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» وفي رواية: «عجبت لأقوام يساقون إلى الجنة في السلاسل وهم كارهون»، بل إن كثيراً من قبائل العرب أسلمت متابعة وتقليداً لأميرها عندما آمن، وما إسلام عامة قبيلة الأوس في المدينة ببعيد عن سمع وبصر النبي ﷺ. ولقد أرسل النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه للإسلام قائلاً: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين». وما ذلك إلا لأن الرسول ﷺ يعلم أن الناس تبع لسادتهم، وأن شأن الناس التقليد، والقليل الذي يستقل بالبحث والنظر) انتهى بحروفه.
المؤلف يقول بأن من أعلن إيمانه تحت الإكراه فإنه مقبول عند الله ويدخل الجنة.
ويقول بأن من ينطق بالشهادتين دون تفكير أو نظر فهو مقبول عند الله، أي هو يعتبر الإيمان بالله ورسوله عن طريق الوراثة والتقليد دون تفكير ونظر هو إيمان لا غبار عليه. ويعتبر أن بناء الإيمان على التفكير والنظر جائز وليس واجباً. وهو سيقول بأن إسلام جميع صحابة رسول الله ﷺ من قبيلة الأوس كان إيمان تقليد ومتابعة لأميرهم. ويعتبر أن الرسول ﷺ أقر إيمان التقليد.
هذه الآراء خطرة، وتتصادم مع النصوص الصريحة من الكتاب والسنة، وتتصادم مع ما اتفق عليه جمهور أهل العلم من المسلمين.
ولننظر كيف فهم المسلمون الإيمان كي نستطيع أن نحكم على قول من قال بأن إيمان المكره مقبول عند الله. قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره (ج1/ ص 40): [فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً. هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعاً].
وقال ابن منظور ـ رحمه الله ـ في لسان العرب: [وحدّ الزجّاج الإيمان فقال: الإيمان إظهار الخضوع والقبول للشريعة ولما أتى به النبي ﷺ، واعتقاده وتصديقه بالقلب، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن مسلم غير مرتاب ولا شاكٍ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه لا يدخله في ذلك ريب. وفي التنزيل العزيز: ]وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا[ أي بمصدق. والإيمان: التصديق. وفي التهذيب: وأما الإيمان فهو مصدر آمن يؤمن إيماناً، فهو مؤمن. واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه التصديق. قال الله تعالى: ]قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا[ الآية، قال: وهذا موضع يحتاج الناس إلى تفهيمه وأين ينفصل المؤمن من المسلم وأين يستويان، والإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي ﷺ، وبه يحق الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقادٌ وتصديقٌ بالقلب، فذلك الإيمان الذي يقال للموصوف به هو مؤمن مسلم، وهو المؤمن بالله ورسوله غير مرتاب ولا شاكٍ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه لا يدخله في ذلك ريب فهو المؤمن وهو المسلم حقاً، كما قال الله عز وجل: ]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ[ أي أولئك الذين قالوا إنّا مؤمنون فهم الصادقون، فأما من أظهر قبول الشريعة واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم وباطنه غير مصدق، فذلك الذي يقول أسلمتُ لأن الإيمان لا بد من أن يكون صاحبه صدّيقاً، لأن قولك آمنت بالله، أو قال قائل آمنت بكذا وكذا فمعناه صدّقت، فأخرج الله هؤلاء من الإيمان فقال: ]وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[ أي لم تصدقوا إنما أسلمتم تعوذاً من القتل، فالمؤمن مبطنٌ من التصديق مثلما يظهر، والمسلم التام الإسلام مظهرٌ للطاعة مؤمنٌ بها. والمسلم الذي أظهر الإسلام تعوذاً غيرُ مؤمن في الحقيقة، إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين] انتهى قول ابن منظور.
وقال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرح صحيح مسلم (ج1/ص49): [واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك ونطق بالشهادتين].
ويكفينا قول الإمام النووي هذا وهو اتفاق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن المقبول عند الله ليس هو ذاك الذي ينطق بالشهادتين ويظهر الإيمان تحت الإكراه، كما قال مؤلف كتاب الأدلة والشواهد.
أما استشهاد المؤلف بحديث رسول الله ﷺ: «عجبت لأقوام يساقون إلى الجنة في السلاسل وهم كارهون» أو حديث: «عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل» فهو استشهاد في غير محله، فالحديث يصف حال كثير من الناس يكونون في بعض مراحل حياتهم ضد الإسلام ويحاربون الإسلام والمسلمين، ثم ينتصر عليهم المسلمون، ويعيشون رغم أنوفهم في ظل الإسلام، ثم يشرح الله صدورهم للإسلام ويوفقهم للإيمان. وهذا هو حال غالبية أهل مكة عند الفتح، وغالية القبائل التي حاربها المسلمون بناءً على قوله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها». وكان مشركو العرب بين أمرين: إما الإسلام وإما القتل ولم تقبل الجزية من مشركي العرب إلا من أهل الكتاب. فالذين أسلموا من هؤلاء وحسن إسلامهم فهم الذين يقادون إلى الجنة بالسلاسل، وأما الذين تظاهروا بالإسلام تعوّذاً من القتل فقط، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يصدقوا بالله ورسوله فهؤلاء لا يقادون إلى الجنة بل إلى النار، وهؤلاء من المنافقين. قال النووي في شرح صحيح مسلم (ج1/ ص147): [إجماع الأمة على إكفار المنافقين وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال الله تعالى: ]وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ[].
وكذلك فإن ما تورد فيه المؤلف من وصف إسلام عامة قبيلة الأوس بأنه كان تقليداً لأميرهم ومتابعة له ولم يكن عن فهم للإسلام وقناعة بل، ليدل على عدم فقهه للمسألة.
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الناس للدخول في الإسلام، وأصحابه رضوان الله عليهم كانوا يدعون الناس للدخول في الإسلام. ولا بأس أن يدخلوا في الإسلام ابتداءً متابعة لأميرهم، أو خوفاً على دمائهم وأموالهم، أو طمعاً في جاه أو مال كالمؤلفة قلوبهم.
ولكن بعد هذا الدخول الابتدائي في الإسلام هي بقيت قبيلة الأوس على إسلامها تقليداً لأميرها ومتابعة له بحيث لو ارتد أميرها لارتدت معه. معاذ الله أن يوصف صحابة رسول الله وأنصاره هذا الوصف الظالم. وإذا كان رسول الله ﷺ، يقرّ الداخلين في الإسلام ابتداءً على دخولهم بغض النظر عن دوافعهم لهذا الدخول، فهل كان يقرهم أن يستمروا بدوافع غير الإيمان بالله ورسوله وكتابه؟ معاذ الله أن ننسب إلى رسول الله ﷺ أنه أقر الإقامة على التقليد في أصول الدين، أو أنه أقر الناس أن يظلموا تبعاً لسادتهم في أصول الدين والاعتقاد.
وهذه آيات القرآن الكريم تذم تقليد السادة أو تقليد الآباء في أمور الدين دون تفكر ونظر، قال تعالى: ]وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا[. وقال تعالى: ]بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ @ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ @ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ[ وقال تعالى: ]وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ[.
وهل يصح بعد ذلك أن نقول بأن رسول الله ﷺ أقرّ التقليد في أصول الدين وهل يبقى المؤلف على قوله : (ومن ذلك إلا لأن رسول الله ﷺ يعلم أن النسا تبع لسادتهم، وأن شأن الناس التقليد).
وإذا كان الإسلام يطالب أصحاب العقائد الأخرى بالبراهين على عقائدهم فهل يقبل من اتباعه أن يأخذوا عقيدتهم دون برهان. فهذا قوله تعالى: ]أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[ وقوله تعالى: ]أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ[، وقوله تعالى: ]قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ[.
فالمسلم الذي يطالب الآخرين بالدليل على عقيدتهم يتحتم عليه أن يكون هو يملك الدليل على عقيدته ]أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ[.
وهذا الدليل سماه القرآن مرةً برهاناً وسماه مرة علماً، والبرهان والعلم لا يطلق إلا على الدليل القطيع. وما كان من دليل أقل مرتبة من الدليل القطعي فإنه لا يسمى برهاناً ولا يسمى علماً.
هناك أصول في الدين يجب على المسلم وجوباً عينياً أن يعرفها، ولا يكفي أن يعرفها شيخة وهو يقلد فيها شيخة تقليداً أعمى. فالإيمان بالله والإيمان برسول الله والإيمان بكتاب الله والإيمان باليوم بالآخر والإيمان بسائر الأمور المعلومة من الدين بالضرورة سواء كانت من العقائد أو الأحكام يجب على كل مسلم مكلف أن يعرفها ويقتنع بها عن تفكير ونظر بالمقدار الذي يستطيعه. ولا يجوز لأي مسلم مكلف أن يأخذ هذه الأصول أخذ تقليد.
وقد اختار الآمدي ـ رحمه الله ـ في الأحكام (ج4/ ص300) [عدم جواز التقليد في المسائل الأصولية المتعلقة بالاعتقاد في وجود الله تعالى، وما يجوز عليه، وما لا يجوز عليه، وما يجب له، وما يستحيل عليه] وفي استدلاله على ذلك قال: [إن النظر واجب، وفي التقليد ترك الواجب. فلا يجوز. ودليل وجوبه أنه لما نزل قوله تعالى: ]إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[ الآية، قال عليه السلام: «ويل لمن لاكها بين لَحْييه ولم يتفكر بها» توعد على ترك النظر والتفكر فيها فدل على وجوبه. الثاني أن الإجماع من السلف منعقد على وجوب معرفة الله تعالى، وما يجوز عليه، وما لا يجوز… الثالث أن التقليد مذموم شرعاً، فلا يكون جائزاً؛ غير إنّا خالفنا ذلك في وجوب اتباع العامي للمجتهد، وفيما ذكرناه من الصور فيما سبق. لقيام الدليل على ذلك؛ والأصل عدم الدليل الموجب للاتباع فيما نحن فيه، فنبقى على مقتضى الأصل وبيان ذم التقليد قوله تعالى حكاية عن قوم: ]إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[ ذكر ذلك في معرض الذم لهم].
الآيات ذمت التقليد، وهذا الذم يعم التقليد في الأصول والتقليد في الفروع، لأنه جاء بلفظ عام هو كلمة (آثارهم) وهي جمع مضاف فيه من ألفاظ العموم. وكذلك كلمة (ما) في قوله تعالى: ]بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا[ هي من ألفاظ العموم. والعام يبقى على عمومه ما لم يرد دليل تخصيص. وقد ورد دليل يستثني الفروع سواء كانت من الأحكام العملية، أو كنت من الأفكار التفصيلية الخلافية الملحقة بالعقائد، أما أصول العقائد والأحكام الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة فإنها لم تُستثنَ ولذلك فلا يجوز التقليد فيها لأن الذم لم يرفع عنها.
وقد وردت أدلة كثيرة خصصت عموم الآيات التي تذم التقليد، وقد ذكرت كتب الأصول هذه الأدلة، ونحن نكتفي بإيراد واحد منها كما أورده الآمدي في الأحكام (ج4/ ص307): [الإجماع، فإنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين، ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير، فكان إجماعاً على جواز اتباع العامي للمجتهد]. وأضاف الآمدي (ج4/ ص311): [القائلون بوجوب الاستفتاء على العامي، اتفقوا على جواز استفتائه لمن عرفه بالعلم، وأهلية الاجتهاد، والعدالة… وعلى امتناعه فيمن عرفه بالضد من ذلك].
وإذا كان المرء يسوغ له أن يرث الدين عن أبويه دون نظر أو تفكر ويقلدهما في ذلك تقليداً أعمى، ويكفيه أن ينطق بالشهادتين كي يصبح مسلماً مؤمناً من أهل الجنة، فلماذا لا يسوع لمن وُلِد لأبوين غير مسلمين أن يقلدهما. الرسول ﷺ يقول: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» والفطرة هنا لا تعني الإسلام، أي أن الولد لا يولد مسلماً، بل يولد على البراءة الأصلية، والله سبحانه فطر فيه قابلية الاهتداء، ولا يعذبه إلا إذا أرسل له رسولاً ورفض الرسالة بعد البلاغ المبين.
لماذا يكون الشخص الذي يولد في بيت مسلم معفى من التفكير، بينما الذي يولد في بيت غير مسلم غير معفى؟ وهل تبرأ ذمة هذا الذي يولد في بيت مسلم إذا قلد أبويه أو قلد مجتمعه أو قلد شيخه في البدع والخرافات التي يرفضها الإسلام؟
وماذا نفعل بهذا السيل الجارف من الآيات القرآنية التي تحض على النظر والتفكر والاعتبار بآيات الله؟ فقوله تعالى: ]لِأُولِي الْأَلْبَابِ[، ]لِأُوْلِي النُّهَى[، ]أَفَلاَ تُبْصِرُونَ[، ]لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ[، ]لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[ ، ]لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[، ]أَلَمْ تَرَوْا[، ]لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ[، ]إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً[، هذه الآيات وما شاكلها تتكرر مئات المرات، وهي تدل بشكل جازم على أن النظر والتفكير والاعتبار هي أمر واجب على كل إنسان مكلف سواء ولد في مجتمع إسلامي أو غير إسلامي.
والأمر المألوف هو أن الولد ينشأ على دين أبويه لأنه في صغره غير قادر على التفكير والتمييز في هذه الأمور، وهو مفطور على الثقة بوالديه في صغره ويتقبل ما يلقنانه دون مناقشة. ولكن حين يبلغ سن الرشد ويدخل مرحلة التكليف الشرعي يصبح مطالباً شرعاً بالنظر والتفكير والتمحيص بحثاً عن الحق، وخاصة في الأركان والأصول التي تشكل عقيدته ودينه ووجهة نظره في الحياة، فإن لم يفعل ذلك يكون قد جنى على نفسه، وهذه الجناية إما توقعه في الكفر وتقوده إلى الخلود في النار، إذا تبع أديان الكفر؛ وإما توقعه في المعصية وتجعله يستحق دخول النار إذا كان قد قلّد أبوين مسلمين. المسلم الذي يأخذ دنه أخذاً وراثياً على تقليد أعمى، إذ أن هذا كافر مخلد في النار وذاك عاص أهمل فريضة فاستحق أن يعذب بالنار. ورُبّ قائل يقول: إن المسلم لم يفعل أكثر مما فعل النصراني لأن كلاً منهما قلد أبويه تقليداً أعمى، فلماذا يخرج المسلم من النار برحمة من ربه تداركته والآخر لم ينل هذه الرحمة لحكمة عند الله لا ندركها ]لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[.
يتبع.
]قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ[
عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها».
رواه مسلم