كلمة «الوعي» قتال الفتنـة
1989/01/05م
المقالات, كلمات الأعداد
2,330 زيارة
في القتال الذي يخبو ثم يستعر في لبنان بين (حركة أمل) و(حزب الله) يزعم كل طرف أنه يدافع عن نفسه وأن الطرف الآخر هو المعتدي.
ونحن في هذه الكلمة لسنا في صدد البحث عن البادئ في الاعتداء، ذلك أن الطرفين بعد أن تقابلا بالسلاح صار معتدين آثمين.
لا قيمة من وجهة شرعية لما يزعمه كل طرف من أنه في موقف الدفاع، لأن الدفاع، في حالة الفتنة، لا يحلّ أن يكون باستعمال السلاح.
النصوص الشرعية جاءت تميّز بوضوح بين حالتين: حالة تعرض شخص أو أشخاص لغيرهم بالاعتداء على أموالهم أو أعراضهم أو أنفسهم؛ وحالة قتال الفتنة حيث يزعم كل طرف أنه على حق.
في الحالة الأولى يكون الدفاع مشروعاً ولو باستعمال السلاح لقوله عليه وآله الصلاة والسلام: «من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون عرضه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد» ولما ورد في الحديث الآخر: «أَرأيتَ يا رسول الله، إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «لا تعطه مالك»، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «فقاتلْه»، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «أنت في الجنة» قال: أرأيت إن قتلتهُ؟ قال: «هو في النار». وهذه الحالة هي اعتداء الصائل أو السارق أو قاطع الطريق.
أما الحالة الثانية، وهي حالة الفتنة بين المسلمين، أي الحالة التي يزعم كل طرف أنه على حق، سواء أكان مقتنعاً بزعم نفسه أو غير مقتنع، في هذه الحالة جاءت نصوص أخرى لا تجيز الدفاع عن النفس بالسلاح. من هذه النصوص قوله ﷺ: «إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه». وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ركب النبي ﷺ حماراً وأردفني خلفه وقال: «يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «تعفف» قال: «يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد (يعني القبر) كيف تصنع؟ قال: قلت، الله ورسوله أعلم، قال: «اصبر» قال: «يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع؟ قال: «الله ورسوله أعلم، قال: «اقعد في بيتك واغلق عليك بابك» قال: فإن لم أنزل، قال: «فأت من أنت منهم فكن منهم» قال فآخذ سلاحي، قال: «فإِذنْ تشاركهم فيما هو فيه، ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فأَلقِ طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك». وقال رسول الله ﷺ: «إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي» قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني فقال رسول الله ﷺ: «كن كابن آدم» وتلا ]لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[».
ومعلوم أن ابن آدم هذا كان مظلوماً ومعتدى عليه بشكل لا لَبْسَ فيه، ومع ذلك فرسول الله ﷺ يأمرنا، في حال الفتنة، أن نتصرف مثل تصرفه: «كن كخير ابني آدم».
إن الدفاع عن النفس في حالة الفتنة يكون بأن يلوذ من وجه أهل الفتنة بأن يغلق عليه بابه، أو بأن يرحل من المكان الذي فيه الفتنة إلى مكان آمن، أو بأن يساير أهل الفتنة ويذكرهم الآخرة، أو بأن يستسلم لهم. أما أن يأخذ سلاحه ويواجههم فإنه يكون قد شاركهم وصار فاسقاً مثلهم، وانطبق عليه حديث: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار».
وهناك أحاديث كثيرة بمعنى تأمر المسلمين في الفتنة أن يقطعوا أوتار قِسِيَّهم وأن يضربوا حد سيوفهم بالأرض، أي أن يعطلوا أسلحتهم كي لا يطغيهم الشيطان في ساعة تهوّر لإشهارها في وجه بعضهم.
إن هذه النصوص صحيحة ومتفق عليها في كتب أهل السنة والشيعة. وهي واضحة كل الوضوح. ثم نسمع بعد لك من يقول: إن القتال بين المسلمين مشروع حين يكون دفاعاً عن النفس، ويخلطون بين قتال الفتنة المحرّم في جميع الحالات، وبين دفع الصائل المشروع.
وبعد أن توضح لهم الفرق بين الحالتين يصرون على العناد ويزعمون أن عندهم فتوى شرعية تبيح هذا القتال الظالم.
نحن لم نقرأ مثل هذه الفتوى، ولم يعلن أحد من العلماء أنه أصدر مثل هذه الفتوى، بل نسمع أن الجميع يحرمون هذا التقاتل ويتبرأون منه.
ولنفرض أن هناك فتوى سريّة. فهل مثل هذه الفتوى تبرئ الذمة عند الله. وهل العامي المقلد تبرأ ذمته شرعاً إذا قلّ> فتوى وهو يرى أنها تصطدم صراحة بنصوص الشرع الصحيحة.
هنا تكمن المشكلة.
إن الله أمرنا أن نتبع الوحي الذي أنزله ولم يأذن لنا أن نتبع أهواء الرجال. قال تعالى: ]اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ[. ونحن نعلم أن العالِم الذي نقلده ليس معصوماً بل يجوز عليه الخطأ ويجوز عليه أن ينحرف عن الحق ويتبع الهوى. وليس معنى هذا أن نبقى في حالة شك بالمرجع الذي نقلده، بل معناه إننا إذا وجدنا فتواه تصطدم مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة فلا يحل لنا عند ئذ أن نعمل بفتواه، وإن عملنا نكون قد تركنا شرع الإسلام واتبعنا أهواء الأشخاص. أرأيتم لو أن العالم أفتى بالسرقة والزنا وشرب الخمر وأكل الربا، فهل يجوز للعامي أن يعمل بمثل هذه الفتاوى بحجة أنه عامي وأن الذي أفتى بها عالم، وهل يسوغ للعامي أن يقول: أنا لا أعرف في الدين مثل هذا العالم وما دام في نظري من أهل العلم والتقوى فأنا آخذ عنه مهما كانت فتواه، وتكون ذمتي بريئة عند الله؟ إن ذلك غير سائغ، لأن هناك في الدين أموراً معلومة ولا يعذر المسلم في جهلها ولو كان أمياً.
وإذا كانت السرقة والزنا وشرب الخمر وأكل الربا حراماً قطعياً ولا يعذر مسلم في جهل هذه الأحكام، فإن قتل المسلمين وإرعابهم وتشريدهم وتدمير بيوتهم وإتلاف أموالهم هو أشد حرمة وأكثر وضوحاً، ولا عذر فيه لأمي أو عالم، ولا قيمة فيه لفتوى.
والتكفير ليس مسألة مزاجية. وقد درجت عادة أن من أراد أن يقاتل مسلماً أن يصدر أولاً فتوى بتكفيره، من أجل أن يقول: أنا لا أقاتل مسلمين، أنا أقاتل كفاراً، وذلك من أجل أن يبرر لجماعته أو للناس مشروعية عمله.
تكفير المسلم بحد ذاته جريمة كبيرة، إذ أن سبابه فسوق فكيف بتكفيره. والمسلم لا يُعتبر أنه كفر بمجرد وقوعه في المعاصي. ورغم أن قتال المسلمين يعتبر جريمة من أكبر الكبائر لأن الرسول ﷺ عبر عنه بالكفر مجازاً إذ قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» ومع ذلك فإن الآية الكريمة لم تعتبره كفراً إذ قال تعالى: ]وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا[ فهم رغم اقتتالهم ما زال القرآن يعتبرهم مؤمنين. ولذلك فلجوء كل طرف إلى تكفير الطرف الآخر سيزيد في إثمه وليس في تبرير قتاله.
وإذا خادعت الأطراف المتقاتلة نفسها وقالت: نحن في موقف المدافع، أو قالت: أن الطرف الآخر كافر وليس بمسلم، فماذا يقولون عن السكان الأبرياء الذين لم يدخلوا مع طرف ضد طرف، كيف يبررون ترويعهم وتشريدهم وقتلهم وتدمير بيوتهم وإتلاف أموالهم؟
ألا فليتقوا الله وليخرجوا من فتنة الشيطان.
أسرة «الوعي»
1989-01-05