مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
2013/03/29م
المقالات
2,006 زيارة
مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) ).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
بعد أن بين الله سبحانه حال أسلاف اليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم كفروا بالله وبأنعمه وقتلوا الأنبياء وعصوا الله وتجاوزوا حدوده وقست قلوبهم من بعد ما رأوا الآيات، بعد ذلك يُعلم الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمراً آخر عن أولئك اليهود، فقد كان فريق منهم، علماؤهم أو غيرهم، يسمعون كلام الله من موسى – عليه السلام – مباشرة، ومع ذلك ينقلونه للآخرين محرفاً متعمدين تحريفه على علم منهم، وعليه فليس غـريـبـاً أن يحرفه هؤلاء الخلف وهم لم يسمعوه – أي التوراة – مباشرة كما سمعه السلف من موسى – عليه السلام -. ومن كان هذا أمرهم فلا أمل يرجى منهم أن يصدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله سبحانه ( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ).
أي لا أمل يرجى منهم أن يصدقوا بما جاء. وأصل الطمع تعلق النفس بشيء تعلقاً قوياً وهو أشدّ من الرجاء، والاستفهام استنكاري.
ثم بيّن الله سبحانه حالاً جديدة من أحوال اليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي تؤكد أن إيمانهم بعيد الحدوث، فهم يبتدعون أساليب عدة للكيد للإسلام، ففريق منهم يظهر إيمانه نفاقاً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويقرّ بأن هذا هو الرسول المذكورة صفته في التوراة، ويرون أن ذكر هذه الحقيقة وإن كانت خطيرة عليهم إلا أنها تحقق لهم الأمان من جانب المسلمين فلا يحذرون منهم على اعتبار أنهم أظهروا الإيمان أمامهم، وبذلك يتمكن هؤلاء اليهود المنافقون من النفاذ إلى داخل المسلمين والكيد للإسلام بسهولة ويسر.
وفريق آخر منهم لا يرى أن هذا كافٍ لتبرير ذكر الحقيقة أمام المسلمين، فهذا الفريق يرى أن التحدث في حقيقة كون محمّد صلى الله عليه وسلم هو النبي المبشر به في التوراة بصفته ونعته، يرى أن هذا الأمر جدّ خَطِر لأنه سيمكن المسلمين من استعماله حجة عليهم إذ كيف لا يؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موصوف في توراتهم؟ وعليه فعندما يختلي بعضهم إلى بعض يتلاومون على ما حدث ( أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) أي بما أنزل الله عليكم في كتابه من نعت محمّد صلى الله عليه وسلم وصفته وأنه المبشَّر به والمبعوث للعالمين، وكلّ ذلك من باب صرف الناس عن الإسلام.
وعلى نحوه ما كان يصنعه يهود في محاولاتهم لردّ المسلمين عن دينهم بأن يؤمنوا أول النهار ثم يكفروا آخره لإيجاد الاضطراب عند المؤمنين ليرجعوا عن دينهم كما كانوا يأملون ( وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) ) آل عمران/آية72. وهكذا هم يفعلون، يظهرون الإيمان نفاقا أمام المؤمنين ثم يتلاومون على ذلك فيما بينهم، وكلّ منهم حريص على اتّباع أنجع السبل في الكيد للإسلام والمسلمين، وكلّ ذلك وهم على علم تام بأن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية فهو يعلم حقيقة ما يعلنونه نفاقا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وكذلك ما يسرونه في مجالسهم الخاصة عندما يختلي بعضهم إلى بعض ( أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) ) والاستفهام للتقريع.
( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) ).
بعد أن ذكر الله سبحانه حال علماء يهود الذين كانوا يسمعون كلام الله ويتلون التوراة ومع ذلك يحرفونها ويبدلونها كما في قوله تعالى ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)) أي يعلمون أن الذي كان قبل التحريف هو الحق وأن المحرَّف هو الباطل بمعنى أنهم يحرفونه على علم. بعد ذلك أعلمنا الله عن فريق آخر منهم وهم الأميون الذين لا يقرءون ولا يكتبون، وهؤلاء لا يعلمون من الكتاب إلا ما يتمنون حدوثه لهم من عفو الله عنهم أو عدم عذابهم في النار إلا أياماً معدودات، وغير ذلك مما كان علماؤهم يمنونهم إياه، فهؤلاء الأميون لا يعلمون من علم الكتاب إلا ما منّاهم به علماؤهم فهم يظنون، والظن شكّ دون علم، لأنهم مقلدون لعلمائهم ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) ).
ثم يتوعد الله سبحانه علماء يهود وكتبتهم الذين يغيرون التوراة المنزلة ويحرفونها ويكتبون غيرها ثم يبيعونها للعامة على اعتبار أنها من عند الله، فيتوعدهم الله سبحانه بالويل وهو «وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ إلى قعره»[1] فهو عذاب أليم شديد لأولئك المفترين على الله المحرفين لكلامه سبحانه. وكأن الله سبحانه بهاتين الآيتين والآيات الثلاث التي قبلها يعلمنا أن لا نطمع في إيمان يهود على الحال التي ذكروا فيها، فهم إما علماء ضالون مضلون يحرفون الكلم عن مواضعه على علم منهم أو أميون مقلدون لعلمائهم تابعون لهم في ما افتروا من كذب على الله، وكلاهما إيمانه بعيد بعيد.
وقوله سبحانه: ( لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أي أن الويل لأولئك المحرِّفين لكتاب الله سواء باعوا ما كتبوه بثمن قليل أو كثير، فويل لهم على ما كتبت أيديهم من افتراء على الله ( فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) وكذلك ويل لهم على ما اكتسبوه من مال حرام ببيع ما كتبوه ( وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ).
( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)).
يبين الله سبحانه أن اليهود قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات أي قليلات، فالعرب تعبر عن القليل بالمعدود ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ) يوسـف/آية20 أي قليلة ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) البقرة/آية203 أي قليلة – أيام التشريق – وهي هنا كذلك، أي أن النار لن تمسهم إلا أياماً قليلة، هكذا زعموا، ومن ثم يقيم الله الحجة على كذبهم هذا بأن يأتوا ببرهان على عهد الله لهم بذلك، فإن لم يكن لهم عهد – وهو لم يكن – يكونوا مفترين على الله كذباً ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)) ونحو هذا ما قاله الله في آية أخرى ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) ) آل عمران/آية24 أي أصابهم الغرور بما كان يشيعه أحبارهم من أنهم لن يعذبوا إلا أياماً قليلة كما يزعمون كذباً وافتراء على الله.
ثم بيّن الله سبحانه أن اليهود كاذبون في قولهم المذكور، وأن الحق هو أن الذي يكفر بالله ويشرك به ويموت على ذلك فإنه خالد مخلَّد في النار، وأن الذين يؤمنون بالله ورسوله وبكلّ ما جاء من الحق ( وَالَّذِينَ آَمَنُوا ) ويطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويقيمون حدود الله ويؤدون فرائضه ويجتنبون محارمه ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فهؤلاء خالدون مخلدون في جنات النعيم.
وفي هذا بيان لليهود أنهم إن بقوا على كفرهم وماتوا عليه فإنهم خالدون في النار، وإن آمنوا وعملوا الصالحات يدخلوا الجنة خالدين فيها، وهو يعمّ كذلك في كلّ من كان هذا شأنه لأن اللفظ عام.
( بَلَى ) حرف جواب مثل نعم إلا أنها لا تقع جواباً إلا لنفي متقدم سواء دخله استفهام أم لا، وهي تثبت ما بعد النفي، فهم قالوا ( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ) فأجابهم الله سبحانه ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ) أي بلى تمسّكم أبداً – دون انقطاع – بدليل قوله تعالى ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)).
( مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) السيئة هنا الكفر والشرك، ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) أي اجتمعت عليه فمات عليها بدون توبة، من الحائط الذي تحاط به الدار كلّ ذلك بقرينة الخلود في النار، فإن السيئة التي توجب الخلود في النار هي الشرك والكفر والثبوت عليه، أما من تاب وأناب ودخل الإسلام بعد شركه وكفره فلا يخلد في النار إن مات على ذلك ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) النساء/آية48.q
[1] الترمذي: 3088، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة، تفسير الطبري: 1/379
2013-03-29