فكر إسلامي أثر البيئة في السلوك الإنساني
1989/01/05م
المقالات
2,136 زيارة
بقلم: محمد محمد البقاش
البيئة والمباءة لغة المنزل، الحالة. رجل حسن البيئة، حسن الحالة. وقد اصطلح على استعمالها للوسط الإنساني فيقال: البيئة الإنسانية، أي الوسط الاجتماعي الذي يحيا فيه الإنسان، ويقال بيئة السمك أي الوسط الذي يعيش فيها، وبيئة الحيوانات أي الوسط الذي تعيش فيها وهكذا.
وما يجمعنا في بحثنا هذا هو الإنسان لأنه بحكم طبعة الاجتماعي تحتم عليه أن يتبادل المصالح والعلاقات مع غيره ضمن بيئة أو وسط اجتماعي يتواجد فيه، وهو إذ يتبادل العلاقات ويختلف على المصالح ويتصارع على الحضارات كان لكل قوم أو شعب أو أمة وسطها وبيئتها الاجتماعية الخاصة بها مما أدى إلى التباين في البيئات وبالتالي في المجتمعات والدول. ومما يجدر ذكره أن أي اجتماع للناس في أي مكان دون وحدة الأفكار ووحدة المشاعر ووحدة النظام لا يكون إلا اجتماعاً فقط ولا يعبر عن أي شيء غير الاجتماع ولو كان فيه بعض من تبادل المصالح التي تحتمه حاجات الإنسان العضوية والغريزية كما هو الشأن في المسافرين جماعياً كركاب البحر مثلاً.
فالبيئة الاجتماعية والوسط الاجتماعي يكون معناهما واحد عند الأخذ بعين الاعتبار عنصر العلاقات الدائمة دون اعتبار للبيئة الجغرافية لأن ذلك من باب تحصيل الحاصل وإلا لكان اعتبار كل تجمع للناس بيئة ووسطاً اجتماعياً وهذا غير صحيح ما دام يغيب في اجتماعهم عنصر العلاقات الدائمية، غير أنه لم تنشأ بيئة اجتماعية إلا عند اجتماع الإنسان بأخيه بالإنسان نظراً لحاجته إليه، ونظراً لطبيعة ميله إلى جنسه.
وبعد تكاثر الإنسان أو ما يسمى بالنمو الديموغرافي ونشوء الأبوة والأمومة والعمومة والخؤولة وغير ذلك من مظاهر العلاقات الاجتماعية بدأ يحصل التباين في العلاقات والاختلاف على المصالح مما أدى إلى الصراع الدموي بعد تفاعل الحضارات في صراع فكري دائمي وصار لكل جماعة بيئتها الجغرافية وتصوراتها عن الوجود، ثم توسعت في ذلك لتضم جماعات أخرى من نفس قوم الجماعة الأولى، وتوسعت أكثر لتشمل غيرهم حتى صارت شعوباً وأمماً متميزة بعقائدها وأفكارها وحضاراتها، وكان لهذا الاجتماع الطويل ضمن البيئة الجغرافية أثر قومي في تمركز المفاهيم أدى إلى تبادل العلاقات والمصالح وفقهاً مما اكسبها العراقة حتى تشكلت في كثير من البيئات الإنسانية في شكل تقاليد وأعراف وعادات أثرت بدورها في مجموع الذين يعيشون في محيطها، فكان أن أثرت في سلوك الإنسان إما تقليداً أو محاكاة وإما وعياً.
وحين يقال عن البيئة الإنسانية بأنها الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان يجب أن لا يفهم منها الاجتماع لأن الاجتماع لا يكون إلا مؤقتاً أو دائمياً، والاجتماع المؤقت وإن ترتب عنه بعض تبادل المصالح إلا أنه يتلاشى بمجرد الانتهاء من الاجتماع.
والاجتماع غير المؤقت يترتب عنه أيضاً تبادل المصالح في شكل علاقات دائمية ولذلك يجب أن يفهم من الوسط الاجتماعي أنه عبارة عن مجموعة من الناس توحدت بينهم الأفكار والمشاعر والأنظمة في شكل مجتمع متميز عن غيره بتميز الأفكار والمشاعر والأنظمة. ومن هنا كان الوسط الاجتماعي في أصله فكر معين تبناه إنسان ما ثم نقله إلى غيره فحصل له التداول حتى شمل قدراً من الناس قلوا أو كثروا جمعت بينهم هذه الأفكار في مكان ما من الأرض فشكلوا بفكرهم الموحد ورضاهم وغضبهم المشترك ونظام حياتهم العامة بيئة ووسطاً.
وإذا نظرنا إلى أية بيئة إنسانية من خلال أفكارها. نجد أن كثيراً من البيئات بعد وجودها لعشرات السنين، أو المئات قد تلاشت وانقرضت ولا أدل على ذلك بيئة الشعب الرومي ببلاد الشام وبيئة الشعب الفارسي ببلاد فارس وبيئة الشعب العربي بالجزيرة العربية فقد كانت هذه البيئات مختلفة عن بعضها البعض باختلاف الأفكار والمفاهيم وحين جاء الإسلام غيَّر البيئة العربية من وسط اجتماعي جاهلي إلى وسط اجتماعي إسلامي. ثم انتقلت الحضارة الإسلامية إلى خارج الجزيرة العربية فغيرت البيئات التي كانت قائمة ببيئتها هي، إلى أن جاء الاستعمار الحديث فغير بدوره البيئة الإسلامية وأحل محلها بيئته هو والتي هي البيئة الرأسمالية، ثم لما ظهر المبدأ الاشتراكي بروسيا كان إيذاناً بولادة البيئة الاشتراكية على حساب القيصرية الإقطاعية وعلى حساب البيئة الإسلامية أيضاً.
والناظر إلى هذه البيئات يجد أنها قد فضت زمناً معيناً لا يهمنا طوله أو قصره ولا يهمنا منه الجيل الذي ساهم في إنشائها بقدر ما يهمنا الجيل الثاني والثالث والرابع الخ، لأن الجيل الأول كان هو المصدر لنشوء البيئة الجديدة من خلال صراعه وكفاحه لإقامتها وهو إذا أقامها لم يشهد لأفكاره العراقة والتمركز اللذان يؤديان إلى نشوء العادات والأعراف والتقاليد الناشئة عن طول مدة حياة الأفكار في الناس والمجتمع ولذلك لا ينظر إلى مدى أثر البيئة في سلوكه لأنه هو الذي صنعها حين ناضل من أجل سيادة الأفكار وتجميدها في واقع الحياة.
فالأجيال التي تخلف الجيل الأول هي التي تنشأ فيها العادات والتقاليد والأعراف وحين تنشأ هذه الأخيرة فإنها ليست سوى أفكاراً ومفاهيم في أصلها، وما دام السلوك الإنساني يرتبط حتماً بالمفاهيم فلا غرابة في القول بأن البيئة تؤثر في السلوك الإنساني سلباً أو إيجاباً ما دامت في أصلها فكر.
1989-01-05