الأسرة الدولية أو هيئة الأمم
1988/12/05م
المقالات
3,832 زيارة
إن العالم ولا شك قد شقي من تحكم الدول الكبرى به واستعمارها له، ولكن في العصر الحديث مع ظهور رأي عام حول الاستعمار وخطره مما اضطر الدول الكبرى للخروج من مستعمراتها، ظهر شكل آخر من السيطرة والتحكم تتمثل في فكرة أوجدتها هذه الدول الكبرى ألا وهي الأسرة الدولية، التي تتحكم من خلالها ومن خلال مؤسساتها ـ كمجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية… الخ ـ بالعالم الضعيف وبالدول الضعيفة.
الأسرة الدولية أول ما قامت على أساس أسرة للدول النصرانية في أوروبا الغربية، لتكون منها كتلة تقف في وجه الدولة الإسلامية، ثم ضمت إليها الدول النصرانية في أوروبا الشرقية، فصارت أسرة الدول النصرانية في أوروبا، وظلت كذلك حتى سنة 1856 حيث وصل ضعف الدولة الإسلامية إلى حد أن سميت بالرجل المريض، وصار يجري التآمر على تقسيم ممالكها. فطوال هذه المدة أي ما يقرب من ثلاثة قرون، والأسرة الدولية تعني الأسرة النصرانية، وتعني عداوة الدولة الإسلامية. وبالرغم من أنها أسرة لدول نصرانية في أوروبا فقط، ويحرم على الدول غير النصرانية الدخول فيها، ومع ذلك سموها الأسرة الدولية، والجماعة الدولة مما يضفي عليها وحدها الصفة الدولية، ويطبق عليها وحدها فقط بحث الشؤون الدولية. وكان يكون الأمر أهون لو أن هذه الأسرة النصرانية اقتصرت على اجتماع نصراني، وجعلته اجتماعاً نصرانياً في مقابل الإسلام، ولكنها أعطته الصفة الدولية، وعملت على تخليده بالصفة الدولية، وذلك أن فكرة العائلة الدولية تحددت ووضعت على أساس الدول النصرانية، فجعل الشأن الدولي هو ما يعني هذه الأسرة، وجعلت القضايا الدولة هي ما يعني هذه الأسرة، ومن أجل تنظيم ذلك وتخليده وضعت فيه قواعد تقليدية سميت فيما بعد بالقانون الدولي. فقد عمدوا إلى الاتفاقيات الدولية التي عقدت بين الدول النصرانية، وإلى الأعراف التي كانت سائدة بين المجموعات النصرانية بوصفها مجموعات، وكونوا منها قواعد جعلوها قواعد دولية، أو ما يسمى بالقانون الدولي.
فالأسرة الدولية هي في أصلحا مبنية على أساس العائلة الدولية النصرانية الأوروبية، والقانون الدولي هو في أصله المعاهدات المعقودة بين الدول النصرانية والعرف السائد في المجموعات النصرانية الأوروبية. فإطلاق اسم العائلة الدولية على الدول النصرانية الأوروبية وحدها يعتبر تزويراً وتضليلاً، لأن العالم ليس الأسرة الدولية النصرانية الأوروبية فحسب، وإطلاق اسم القانون الدولي على معاهدات وأعراف الدول النصرانية الأوروبية فحسب، بل الأفكار التي تصلح لذلك هي مجموعة الأعراف الموجودة بين المجموعات الموجودة في العالم كله، والاتفاقات والمعاهدات التي تعقد بين مجموعات البشر في العالم كله. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر قبلت انضمام بعض الدول غير النصرانية لتعتبر من الأسرة الدولية، ولكنها لم تقبل غير القواعد التقليدية التي وضعتها على أساس أنها دول أوروبية نصرانية، ولذلك اشترطت على الدولة العثمانية أن تترك تحكيم الإسلام في شؤونها الدولية، ولم توافق على إدخالها إلا بعد أن قبلت هذا الشرط، وخضعت للقواعد التقليدية للدول النصرانية الأوروبية. وهذا يعني أن هذه الأسرة سمحت لبعض الدول بدخول أسرتها ولكنها لم تسمح مطلقاً بغير قواعدها وأعرافها أن يكون له أي وجود في العلاقات الدولية. وقد ظلت الحال كذلك حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى، وزوال الدولة الإسلامية من الوجود، وكان يمكن تلافي ذلك بعد الحرب العالمية الثانية ما دام العدو الذي وجدت الأسرة الدولية من أجله ووجدت القواعد الدولية من أجل مقاومته قد زال، ولكن الأمر كان على غير ذلك. فقد تمسكت هذه الدول بالأساس الذي وجدت عليه الأسرة الدولية، ووجدت عليه القواعد الدولية، ولذلك اتفقت على إنشاء منظمة دولية تتمثل في الأسرة الدولية ولكنها لم تجعلها عامة لجميع الدول بل جعلتها لدول معينة، فقبلت بعض الدول غير النصرانية وغير الأوروبية فيها، ولكنها لم تقبل غير القواعد التقليدية للدول النصرانية الأوروبية، ولم تعبأ بما عند باقي دول العالم من أعراف وأفكار، وفوق ذلك فقد كانت تعني أن الأسرة الدولة هي الدول النصرانية الأوروبية، وأن الدول التي دخلت العصبة قد قبلت في الأسرة النصرانية الدولية. ثم لما جاءت هيئة الأمم كان يراد أن تقتصر عضويتها على الدول التي دخلت الحرب ضد ألمانيا أي الدول النصرانية والدول التابعة لها، ولكن أميركا من أجل بسط نفوذها على العالم، وإدخال دول العالم تحت ظلها، وسّعت عضوية هيئة الأمم وسمحت لدول العالم بالدخول إليها، ولكنها أي أميركا وسائر الدول النصرانية لم تسمح بأية قواعد لأن تتسرب للقانون الدولي ولا لنظام هيئة الأمم هذه، وحتى أن المعسكر الشرقي بزعامة روسيا بالرغم من اعتناقه عقيدة الشيوعية وهي تناقض النظام الرأسمالي، مع ذلك لم يستطع أن يغير شيئاً من أساس النظام الدولي، ولم يستطع أن يجعل فكرة من أفكاره تتسرب إلى هذا النظام، لذلك كان لا بد من إعادة النظر في مفهوم الأسرة الدولية والعائلة الدولية، وكان لا بد من إعادة النظر في معنى القانون الدولي.
والذي زاد الطين بلة هو أن الدول النصرانية الأوروبية هذه، أو الدول الرأسمالية، لم تترك أمر تنفيذ القواعد التقليدية والتي صارت فيما بعد القانون الدولي، إلى العامل المعنوي، كما هي الحال في الأعراف الدولية، وفي الاتفاقات الدولية، بل لم تتركها تنقذ على من التزم بها فقط، بل جعلتها تنقذ بقوة السلاح، وجعلت تنفيذها على جميع دول العالم، سواء من التزم بها أم لم يلتزم، فقامت الدول الكبرى في القديم بجعل نفسها الهيئة الحامية للأمن والنظام في الجماعة الدولية، وتدخلت في شؤون غيرها من الدول كلما لاح لها أن هناك تهديداً للسلام، أو إخلالاً بالنظام ولم يكن يردعها عن التدخل في أي دولة، أي عن تنفيذ القواعد التقليدية التي اصطلحت عليها إلا قوة تلك الدولة، وعجزها هي عن مجابهتها. وقبل الحرب العالمية الأولى كانت الدول النصرانية الأوروبية نفسها مجتمعة أو منفردة تجعل نفسها البوليس الدولي في العالم لتنفيذ النظام الدولي، وحتى بعد قيام عصبة الأمم، ثم بعد قيام هيئة الأمم المتحدة ظلت الدول الرأسمالية تجعل من نفسها البوليس الدولي في العالم لتنفيذ القانون والنظام. فكان هذا العمل من أفظع الأعمال، وكان سبباً من أسباب شقاء العالم بالأسرة الدولية بمفهومها الأوروبي، وبما يسمى بالقانون الدولي. لذلك لا بد من علاج هذه المسالة من أجل تخليص العالم وإنقاذه من الشقاء.
وأما علاج هذه المسألة فهو أنه إذا كان لا بد من إيجاد الجماعة الدولية في المجتمع الدولي فيجب أن لا يقاس المجتمع الدولي على المجتمع العادي، فالمجتمع العادي لا بد له من كيان يرفع المظالم ويزيل التخاصم، ويفصل المنازعات بين الناس، لذلك كان لا بد لكل مجتمع من دولة، ولا بد له من سلطان، ولا بد من قانون، ولا بد من تنفيذ إجباري على الناس. أما المجتمع الدولي فهو عبارة عن مجموعات بشرية، تنشأ بينها علاقات، وليس أفراداً تنشأ بينهم علاقات، ولكل مجموعة من هذه المجموعات حق السيادة، وحق الإرادة بشكل مطلق غير مقيد، فأي إجبار خارجي لهذه المجموعة أو هذه الدولة، يعني سلب السيادة عنها، وهذه هي العبودية، وهي تتمثل في الاستعمار وفرض السيطرة والإجبار بالقوة، أي منع لهذه المجموعة أو هذه الدولة عن تنفيذ ما تقرر يعني تصفيداً لها بالأغلال، وإصابتها بالشلل والكساح، لذلك لا يصح أن توجد قوة فوق المجموعات البشرية تكون سلطة كسلطة المجموعة الواحدة، وبعبارة أخرى لا يصح أن يصبح المجتمع الدولية مجموعة تقوم عليها سلطة لها صلاحية رعاية الشؤون أي لا يصح أن توجد دولة عالمية لها سلطة على عدة مجموعات بشرية، بل يجب أن تظل المجموعات البشرية مجموعات لها كيانها، ولها سيادتها، ولها إرادتها. وإذا كان لا بد من تكوين جماعة دولية من هذه المجموعات، فيجب أن لا تكون دولة عالمية، ويجب أن تنشأ هذه المجموعة تأسيساً ممن يريد مختاراً أن يكون فهيا لا أن تقوم بإنشائها دول معينة لها مفاهيم معينة، أو دول معينة تتمتع بقوة تفوق قوة سواها، كما لا يصح أن تكون دولة عالمية، بل يقوم بتأسيس هذه الجماعة الدولية جميع الذين يرغبون مختارين بتأسيسها، بغض النظر عن نوع مفاهيمهم وبغض النظر عن مقدار قوتهم ومدى نفوذهم، وأن تترك الحرية لكل دولة لم تشترك في التأسيس أن تشترك في الجماعة الدولية في كل وقت تريد ويكون لها ما للمؤسسين من الحقوق والواجبات، وأن يكون للجميع حرية ترك الجماعة الدولية في أي وقت يريد تركها، وأن لا يفرض على أي بلد تنفيذ المقررات بالقوة، بذلك تكون الجماعة الدولية جماعة دولية بحق، لا عائلة دولية معينة يطلق عليها زوراً وبهتاناً أنها أسرة دولية، ولا دولة عالمية يطلق عليها زوراً وبهتاناً اسم هيئة الأمم المتحدة.
1988-12-05