تشويه أحكام الزكاة.. لماذا؟
1988/10/05م
المقالات
2,735 زيارة
بقلم: مراسل «الوعي» ـ البقاع
الجزء الأكبر من المأساة الفكرية التي نعاني منها نحن المسلمين، تكمن في أن الكثير من أدعياء الاجتهاد بدأوا يحوّرون الأحكام الشرعية واضعين النتائج قبل الأسباب مؤولين النصوص لتلائم آراءهم. خذ مثلاً، الزكاة ـ وهي من أركان الإسلام. إن هذه الفريضة تعرضت لعدة حملات تهدف إلى تشويه نقائها وإيصالها إلى أذهان الناس في مفهوم مغاير للإسلام وأحكامه.
من ذلك أن أحد الكتّاب وهو محمد علي البغدادي، نشر مقالاً في (اللواء) البيروتية بتاريخ 12 صفر 1409، عبر الصفحة السابعة، وضمّنه أفكاراً غريبة لم نسمع بها من قبل. وبما أنه وضع في رأس مقاله عبارة (شؤون وقضايا إسلامية للنقاش)، فإننا سنناقشه بالأدلة الشرعية؛ وسنتوقف عند أبرز النقاط لكثرة ما في المقال من مغالطات:
أولاً- قوله: «الطريقة الشرعية الصحيحة والمباركة هي دفع الزكاة لمؤسسة مالية شرعية وهي إما لبيت مال المسلمين ـ إن وجد ـ وإما لمؤسسة هي جزء من بيت مال المسلمين وتابعة له مثل صندوق الزكاة». ولنا على هذا الملاحظات التالية:
إن الزكاة تدفع للإمام أو نائبة. حتى ولو كان الولاة ظلمة تدفع لهم. روي عن سهب بن أبي صالح قال: أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال أريد أن أخرج زكاته وهؤلاء القوم على ما ترى فما تأمرني؟ قال: ادفعها إليهم. فأتيت عمر، فقال مثل ذلك. فأتي أبا هريرة فقال مثل ذلك. فأتيت أبا سعيد فقال مثل ذلك.
أما ابن عباس فله رأيٌ آخر إذ يفرق بين زكاة المواشي والزروع والثمار من جهة، وزكاة النقود والتجارة من جهة أخرى. فيرى أن المواد الأولى تدفع زكاتها للإمام، أما الأخرى فيجوز أن تدفع له ويجوز أن يوزعها من وجبت عليه بنفسه.
هذا في حال وجود دولة إسلامية ووجود بيت مال للمسلمين. أما في غياب الدولة الإسلامية وما يستتبعه من غياب بيت المال، فإنه لا يجوز أن تدعي أي مؤسسة ـ وتحت أي ستار ـ أنها تمثل بيت مال المسلمين وأنها المكلفة بجباية الزكاة.
نعم، يبقى إخراج الزكاة قائماً على جميع الأموال التي تجب فيها الزكاة على اختلاف أنواعها غير أنه يحق لصاحبها أن يخرجها بنفسه أو أن يوكل عنه من يقوم بتوزيعها نيابة عنه سواء أكان الوكيل شخصاً أم جماعة. والمسلم في فعله هذا مخير بين الأمرين. أما أن يقال أن دفعها لأمثال هذه المؤسسات واجب وأن بقية الطرق غير شرعية، فهذا كلام نطلب الدليل عليه.
ربما كان السبب في الغلط الذي وقع فيه، هو أنه أراد تغيير الحكم حسب الظروف وهذا غير وارد. هناك أحكام منوطة بالحاكم وحده كإقامة الحدود، وهذه الأحكام في حال عدم وجود الدولة الإسلامية لا يجوز أن يقيموها بأنفسهم أو أن يكوّنوا لجنة نيابة عنهم لأنها من صلاحيات الحاكم وحده. غير أن حكم الزكاة يختلف في ذلك كما ذكرنا إذ يجوز دفع الزكاة للمؤسسات إذا رأى أنها توزعها على مستحقيها. ونقول (لا يجوز) لا (0يجب). كما نقول (إذا رأى أنها توزعها على مستحقيها).
ثانياً- نصاب الزكاة: أجرى الكاتب حسابات طويلة خلص منها إلى نتيجة مذهلة:
– كل ألف قرش لبناني تعادل مئتي درهم تجب فيها الزكاة شرعاً.
– يجب على كل من يملك هذا المبلغ أي (10 ل.ل) أن يخرج زكاتها ربع العشر أي 25 قرشاً على كل ألف قرش لبناني.
ورداً عليه نضع الحقائق التالية:
قال صلى الله عليه وسلم: «ليس عليك شيء ـ يعني في الذهب ـ حتى يكون لك عشرون ديناراً فإذا كانت لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، وصححه البخاري وحسنه الحافظ. وقد قال مالك في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين ديناراً كما تجب في مائتي درهم.
– عن طاووس عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة». وحين ضرب عمر بن الخطاب الدرهم الشرعي أبقاه على ما تعارفت عليه العرب من وزن الدرهم ويزن 14 قيراطاً (2,957 غراماً) والدينار الشرعي يزن مثقالاً من الذهب أي 4,25 غراماً.
– وعليه نصاب الزكاة: 200 درهماً = 200×2,957 = 591,4 غراماً من الفضة. أو 20 ديناراً = 20× 4,2 = 85 غراماً من الذهب وعلى هذا الرقم جرى الفقهاء تقدير النصاب لأن العملات تغطى قيمتها الذهب.
أما الأرقام التي ذكرها فهي تنم عن ضعف في الفقه، إذ اختار الدرهم والدينار الذي يشاء دون اعتبار كونهما من فضة أو من ذهب وإنما اعتبر الوزن، جاعلاً الفضة والذهب سواء بسواء مع المادة التي تصنع منها القروض اللبنانية! وأصبح كل من يملك 10 ل.ل واجباً عليه إخراج زكاتها.
ثالثاً- قال، وبالفم الملآن: «لا صحة لما يقال عن وجوب حلول الحول» ضارباً عرض الحائط بالأحاديث الشريفة وإجماع الصحابة واجتهادات الفقهاء. وحاول أن يؤول النصوص تأويلاً بعيداً.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «.. ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول» من حديث رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. وأنه نص صريح لا لبس فيه: لا بد أن يحول الحول الهجري ويعتبر ابتداؤه من يوم ملك النصاب ولا بد من كماله في الحول كله. فلو نقص أثناء الحول ثم كمل اعتبر ابتداء الحول من يوم كماله.
قال النووي: مذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور: أنه يشترط في المال الذي تجب الزكاة في عينه ـ ويعتبر فيه الحول، كالذهب والفضة والماشية ـ وجود النصاب في جميع الحول، فإن نقص النصاب في لحظة من الحول انقطع الحول، فإن كمل بعد ذلك استؤنف الحول من حين يكمل النصاب.
بينما قال أبو حنيفة: المعتبر وجود النصاب في أول الحول وآخره، ولا يضر نقصه بينهما وهذا الشرط لا يتناول زكاة الزروع والثمار فإنها تجب أيام الحصاد. قال الله تعالى: ]وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ[ (الأنعام:141).
رابعاً- قال: «كل مسلم ملزم بدفع الزكاة عنياً كان أم فقيراً» وقال تعليقاً على الآية ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً..[ (التوبة: 103)، «أن هذا النص القطعي ليس فيه تخصيص العام ولا تقييد المطلق». أي يجب أن تؤخذ الصدقة من أموال المسلمين كل المسلمين.
فما قوله فيما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» رواه أحمد، وذكره البخاري معلقاً. كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم». ألم يعلم أن السنة تقيّد المطلق وتخصص العام الوارد في النص القرآني!
ما لكم كيف تحكمون!
خامساً- انطلاقاً من اجتهاده الغريب في أن النصاب الشرعي هو 10 ل.ل رأي وجوب الزكاة في كل شيء مملوك بما في ذلك حلي المرأة (مجوهراتها) من ذهب وفضة ولؤلؤ وماس وغيره.
وأقول: أوجب الإسلام الزكاة في الذهب والفضة والزروع والثمار وعروض التجارة والسوائم والمعدن والركاز. حسبما هو مفصل في كتب الفقه. وأن الأموال النامية التي لم يرد نصٌ ولا رأي فقهي بإيجاب الزكاة فيها حكمها كالآتي:
– لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسيارات وما شابهها بل تجب الزكاة في صافي غلتها عند توافر النصاب وحولان الحول.
– مقدار النسبة الواجب إخراجها هو ربع العشر من صافي الغلة في نهاية الحول.
ولا تجب الزكاة في دور السكنى وثياب البدن وأثاث المنزل وما يستعمل للفائدة الشخصية كالسيارات، وما يتجمل به من الأواني إذا لم يكن من ذهب أو فضة. ولا تجب في آلات الصناعة ولا كتب العلم إذا لم تكن للتجارة.
أما بالنسبة لحُلي المرأة فإنها مسألة خلافية: فقد ذهب إلى وجوب الزكاة في حلي المرأة، من الذهب والفضة، أبو حنيفة وابن حزم الظاهري، إذا بلغ نصاباً ونقول: نصاباً شرعياً (لأن هذا الكاتب اخترع نصاباً جديداً). وذهب الأئمة الثلاثة (الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك) إلى أنه لا زكاة في حلي المرأة بالغاً ما بلغ. واعتمد الطرفان على أدلتهما.
قال الخطابي: «الظاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها والأثر يؤيده، ومن أسقطها ذهب إلى النظر ومعه طرف من الأثر. والاحتياط أداؤها».
هذه وقفات سريعة مع الأفكار البديعة التي وافانا بها الكاتب وكأنه يضع تشريعاً من عنده دون اعتبار للنصوص الشرعية. نرجو منه أن يتقي الله في كتاباته وأن يتحرى الأدلة الشرعية قبل الخوص في الدين، إلا إذا كانت خطوته نتيجة لرغبة منه في نيل مركز مرموق في إحدى المؤسسات التي تستخدم الإسلام ولا تخدمه، وتريد أن تنال المال من الناس بالحق والباطل.
قال عمر بن عبد العزيز، الخليفة الزاهد، حين رأى أحد عماله يثقل المسلمين بالأموال التي يأخذها مدعياً أنها لبيت المال، قال له: «إن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً».
يجب أن يقطع الشجرة أحد أبنائها
جاء في وصية القس زويمر المسيحي المشهور في الوطن العربي في الثلث الأول من هذا القرن، قوله: «إن تبشير المسلمين يجب أن يكون بلسان رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أبنائها».
ولعل التطبيق العلمي لهذا التوجيه كان أبين من أن يحتاج لاستقصاء طويل، وأوضح مثال على كتبه سلامة موسى والدكتور طه حسين.
فسلامة موسى عندما أصدر كتابه «اليوم والغد» لم يلق كتابه رواجاً يذكر لأن سلامة موسى كان مسيحياً، وفكرة من صلب فكر المبشرين، ألا وقد سخر سلامة موسى علناً من الإسلام والمسلمين، فاعتبره المسلمون جزءاً من الشبكة الصليبية المنبثقة في بلاد الإسلام.
ولكن الأمر اختلف عندما اقتبس الدكتور طه حسين أفكار سلامة موسى نفسها ونقحها وأعاد صياغتها وعرضها بعد عشر سنوات في كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» فقد أحدثت ضجة كبرى وجرى حولها النقاش لا على أساس أنها فراز تبشيري وإنما على أساس أنها رأي يقوم على الموضوعية في البحث والاستقصاء، وعلى أنها رأي «تقدمي» وجد المئات من المدافعين عنه دون أن يستشعر أي واحد منهم الدفع التبشيري من ورائه، ودون الإحساس بعقدة الذيلية لأوروبا، فالدكتور طه حسين رجل مسلم وعالم أزهري قبل أن يرى أوروبا، وهو رجل على قمة أجهزة التوجيه الثقافي والتعليمي في مصر، فقد كان وزيراً للمعارف وعميداً لكلية الآداب بجامعة القاهرة وعميداً لكلية الآداب بجامعة الإسكندرية ووكيلاً بوازرة التربية والتعليم ثم مستشاراً فنياً بها.. إلى غيرها من الوظائف الرسمية والمسؤوليات الكبرى في مصر.
ولذلك يبدو قول «زويمر» ـ أن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أبنائها ـ وهو التخطيط النظري لما حدث.
عن مجلة «الشراع» العدد: 338
1988-10-05