الحكم بما أنزل الله وحرمة تولي الكافرين
1988/09/05م
المقالات
2,351 زيارة
قال الله تعالى: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ)
[سور المائدة: 49 ـ 56]
سبب النزول:
روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فجاؤوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعتنا يهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك. فأبى وأنزل الله فيهم: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، إلى قوله: (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
وأخرج السيوطي عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن عباس بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع تشبث بأمرهم عبد الله ابن أبيّ بن سلول، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وكان أحد بنو عوف من الخزرج، وله حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله ابن أبيّ، فحالفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من حلف الكفار وولايتهم. قال: ففيه وفي عبد الله بن أبيّ نزلت القصة في المائدة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) الآية.
النهي عن تولي اليهود والنصارى:
الموالاة في اللغة التحالف، وهو أن ينضم الرجل إليك فيعتز بعزك ويمتنع بمنعتك. ووالى الرجل فلاناً إذا أحبه، والوالي الذي يملك على الإنسان أمره، وجمعها أولياء. وتولى الرجل شخصاً أعطاه ولاءه.
وفي الآية: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) نهي صريح عن موالاة اليهود والنصارى والدخول في ولائهم ومنعتهم. وقد جاء التهديد الشديد والوعيد على من يتولاهم: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، والمعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية، فدل ذلك على عظيم الإثم وشنيع الفعل.
والنهي لكل من يتصف بالإيمان. وقد عللك الله تعالى النهي بتبيان أن موالاة الكفار من شأنهم وليس من شأن المسلمين، وأن كلاً من الطائفتين (اليهود والنصارى) توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعداوة ما جاء به. وهذا المعنى اليوم ملموس ومحسوس في اجتماعهم على محاربة الإسلام، والكيد لأهله، والدس على دين الله. وقد جاء في سورة الأنفال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)، وهذه الآية أعم وتشمل الكفار جميعاً، وتبين أنه ما لم يفعل المسلمون ما أمروا من تولي بعضهم البعض والعمل بطاعة الله فإنه سيحصل فساد عظيم وفتنة كبيرة بما يكون عليه الكفار من قوة والمسلمون من ضعف.
ونحن نتوجه بهذه الآية إلى المسلمين عموماً، وإلى أهل لبنان منهم خصوصاً، محذرين من مغبة تولي اليهود والنصارى وسائر الكفار واتخاذهم شركاء وحلفاء أو أولياء. وندعوهم إلى التبرؤ إلى الله ورسوله منهم ومن حلفهم، والعمل بطاعة الله تعالى والحكم بما أنزل الله، والاعتصام بحبله وتولي المؤمنين دون الكافرين. وقد جاء النهي الشديد عن تولي الكفار في آيات كثيرة.
الحكم بما أنزل الله:
قال أبو جعفر النحاس: هذه آية متأخرة في النزول. وقال بعض المفسرين أنها ناسخة للتخيير والوارد في قوله تعالى: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).ورد القرطبي ذلك، وقال: يقدر في الكلام (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) إن شئت، لأنه قد تقدم ذكر التخيير له 0الآية 42). وآخر الكلام حذف التخيير منه لدلالة الأول عليه، لأنه معطوف عليه، فحكم التخيير منه لدلالة الأول عليه، لأنه معطوف عليه، فحكم التخيير كحكم المعطوف عليه، فهما شريكان وليس الآخر بمنقطع مما قبله، إذ لا معنى لذلك ولا يصح.
وعليه، فإن الحاكم في الدولة الإسلامية مخير إذا ما تحاكم إليه غير رعاياها في أن يعرض عنهم أو أن يحكم بينهم. فإذا حكم بينهم، فعليه الحكم بما أنزل الله، أي بشريعة الإسلام، دون حياد عن الحق.
وأما بخصوص أهل الذمة فإن ذلك محصور في الأمور التي أجار الشرع لهم عدم الاحتكام فيها للإسلام، وعلى المسلمين تطبيق أحكام الشرع عليهم دون أي فرق.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إذا أعرضوا أن الاحتكام لما أنزل الله وأرادوا غيره (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) أي يعاقبهم ببعض إجرامهم.
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ لمن يبتغي غير حكم الله تعالى وهو حكم الجاهلية. وفي ذلك دليل على تحريم الاحتكام لغير ما أنزل الله، وشريعة الله أحكم الشرائع للناس كافة، المسلمين منهم والكفار على السواء.
وصف الله للمنافقين:
الآية (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نزلت على الأرجح في عبد الله ابن أبيّ بن سلول وما صنع عندما تمسك بحلف بني قينقاع من اليهود، والتزم موالاتهم. فقد روى ابن إسحاق أن ابن سلول دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعدما حكم بقتلهم جزاء نقضهم العهد، وقال: أحسن في موالي! ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسر قد منعوني من الأحمر والأسود من الناس تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤا أخشى الدوائر.
وقد رد الله على مزاعم المنافقين الفاسدة، ووعد الله تعالى المسلمين بالفتح وبالغلبة والنصرة: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) الآية، وعسى في كلام الله تعالى وعد صادق لا يتخلف كما ذكر الشوكاني. وحينذاك سيندم المنافقون على موالاة أعداء الله اليهود والنصارى.
إخباره تعالى عن شأن المرتدين:
في قولهم تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ) الآية إعلام بارتداد بعض المسلمين، فكان إخباراً بالغيب. وقد ارتدت عن الإسلام فرق كثيرة، منهم أيام النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم أيام أبي بكر. ولا تزال فئات ترتد عن الإسلام حتى أيامنا هذه .
وقد ذكر الله أنه من يرتد عن الإسلام فسوف يأتي الله مكانهم بأناس مؤمنين يحبهم الله ويحبون الله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، يجاهدون في سبيل الله دون أن يخافوا في الله لومة لائم، فهم صلاب في الحق.
الأمر بتولي المؤمنين:
قال الشوكاني: لما فرغ تعالى من بيان من لا تحل موالاته، بيّن من هو الوالي الذي تجب موالاته، فقال: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)، أي ليس اليهود والنصارى بأوليائكم، إنما أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون، وهو أمر صريح، وإنما للحصر، فكان الأمر بتولي الله تعالى، ورسوله والمؤمنين على سبيل التبع، وما عداهم منهي عن توليهم.
وهؤلاء المؤمنون وصفهم الله تعالى بأنهم (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ). وقيل معناها الذين لا يتكبرون على الفقراء، بل يؤتون الزكاة وهم خاشعون متواضعون لله عز وجل.
وبيّن الله أن في تولي الله تعالى العزة والنصر والغلبة في الأرض، فقال: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ). وحزب الله هم من يتولى الله ورسوله والمؤمنين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1988-09-05