هل في الإسلام أحزاب سياسية؟
1988/08/05م
المقالات
6,908 زيارة
عند تتبع كلمة حزب في القرآن الكريم ـ المصدر الأول للشريعة الإسلامية ـ نجدها قد وردت في عشرين موضعاً بالضبط، منها بصيغة المفرد في ثمانية مواضع، ومنها بصيغة المثنى في موضع واحد، والباقي بصيغة الجمع في أحد عشر موضعاً. وسواء أضيفت إلى الله سبحانه أو إلى الشيطان، فكلها تؤكد أن استخدام هذه الكلمة في العمل السياسي الإسلامي لا غبار عليه إن لم نقل لا مندوحة عنه، لأن عدم استخدامها يخرج هذا العمل عن طبيعة الإسلام في الميدان السياسي، ما دامت هذه الطبيعة هي الرعاية، والرعاية لا تكون إلا بخليفة، والخليفة راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، ولا تكون من جانب آخر لمحاسبة الخليفة لاستمرار التطبيق وإحسانه إلا بالعمل السياسي المنظم في إطار الإسلام، وهذا لن يكون إلا بالعمل الحزبي، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، وهل العمل الحزبي المنظم في إطار الإسلام إلا هذا الاهتمام؟
فماذا تقول النصوص في مواضعها العشرين بشأن الحزب والأحزاب في نظر الإسلام؟
يقول الله تعالى في الآية 56 من سورة المائدة: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ)، مؤكداً أن حزبه الغالب هم من فوّضوا أمرهم إليه وامتثلوا أمر رسوله ووالوا المسلمين، فقاموا بطاعته سبحانه ونصرة رسوله والمؤمنين. فكلمة (حزب) هنا كما يقول الإمام القرطبي في تفسيره تعني الصنف من المسلمين، ولا نعني بالضرورة جميع المسلمين، وإن حزب الرجل هم أصحابه، وهم الجماعة الذين تحزبوا له واجتمعوا عليه. كما يرى الإمام الطبري في تفسيره بأن حزب الله هنا هم الأنصار. وسواء كانت تعني كل المسلمين من أصحاب الرسول عليه السلام أو تعني الأنصار فقط، فإن هذه المعاني لهذه الكلمة تؤكد أولاً وجود الحزبية في الإسلام، وتؤكد أن حزب الله من بين المسلمين هم من التزموا طاعة الله ولم يتقاعسوا عن التضحية فيها، وهم من قاموا بنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتقاعسوا عن البذل لها، وهم من اهتموا بأمر المسلمين ولم يتأولوا أو يبرروا تقاعسهم أو قعودهم، وسواء كانوا من بين المسلمين طائفة أو أكثر، فهم حسب ما اجتمعوا عليه من رأي إسلامي، أو كانوا يشملون الأنصار كلهم أو المهاجرين كلهم أو يشملون الطائفتين أو الفئتين أو الجماعتين معاً.
وأما عندما يقول سبحانه في الآية 53 من سورة المؤمنون: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) فإن الإمام القرطبي يربط بين هذه الآية وبين حديث الرسول عليه السلام: «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعي، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» [أخرجه أبو داود]، وزاد عليه الترمذي: «قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي». ثم يعقب القرطبي قائلاً: المحذّر منه في الآية والحديث إنما هو الافتراق في أصول الدين وقواعده، لأنه يطلق عليه ملل، ومثل هذا لا يقال في الفروع لأنه لا يوجب تعديد الملل ولا عذاب النار، مؤكداً هذا المعنى من قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا). وأما الإمام الطبري فيرى في تفسيره أن كل فريق من تلك الأمم السابقة بما اختاروه لأنفسهم من الدين والكتب فرحون، معجبون به، لا يرون أن الحق سواه. وهكذا يرى الإمامان القرطبي والطبري أن (الحزب) في هذه الآية تعني الفريق والملّة، وهم الجماعة الذين إذا قارناهم بالمسلمين اليوم كانوا كل جماعة تركت أصول الدين الإسلامي وقواعده، وزعمت أن لها أصولاً وقواعد أخرى تنسبها إلى الإسلام، كالقاديانية والبهائية وغيرهما، وإن هذه الجماعات تصل في عددها إلى اثنتين وسبعين، بينما لا يبقى على أصول الإسلام وقواعده إلا من التزم بما كان عليه الرسول الصلاة والسلام وأصحابه، وهم الذين ينطبق عليهم قوله عليه السلام: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما أبداً كتاب الله وسنتي». وهذا يعطي دلالة واضحة على أن أي جماعة من المسلمين تحافظ على كتاب الله وسنة رسوله، ولا تخرج عن أصول الدين وقواعده، فإنها تبقى من جماعة المسلمين، ولكنها قد تختلف فيما بينها من الاجتهاد حسب الأدلة الظنية فتكثر تبعاً لهذه الاجتهادات والأفهام في إطار الشريعة والمنهاج، أي في استنباط الأحكام وطريقة تطبيقها وحملها للناس كافة، فتشكل كل منها حزباً غير الحزب الآخر، ولكنها تبقى كلها في إطار الإسلام بقواعده وأصوله، وتبقى من الجماعة الناجية من النار. كيف لا والله تعالى يأمر جماعة المسلمين بقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)، أي لتشكلوا يا مسلمون منكم جماعة تدعو للإسلام وتأمر بالتزام حلاله وتجنب حرامه، وهي الجماعة المفلحة. وفي هذا إشارة إلى الجماعة الناجية من النار وفقاً للحديث السابق. هذا وقد جاءت كلمة (أمة) في الآية على صيغة التنكير لتحمل في طياتها معنى التعداد، كما أن المطلوب منها، من الدعوة للإسلام والأمر بحلاله واجتناب حرامه، يقتضي تعدّد الأفهام لما فيه من تعدد النصوص الظنية الدلالة، مما يقتضي تعدد الجماعات تبعاً لتعدد الاجتهادات، وكل منها يقتضي تعدد الجماعات تبعاً لتعدد الاجتهادات، وكل منها يستحق أن يحمل وصف حزب الله طالما كان على قواعد الإسلام وأصوله محافظاً، وإن اختلف مع غيره من الأحزاب الإسلامية في الاجتهادات في إطار التشريع والمنهاج.
وأما الآيتان الكريمتان 31 و 32 من سورة الروم: (…وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ @ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، فإنهما يؤكد أن نفس المعنى الذي ورد في الآية السابقة من سورة (المؤمنون)، وإن كلمة (حزب)، كما يرى الإمام الطبري تعني هنا الطائفة أو الفرقة التي فارقت دين الحق وأحدثت البدع المخرجة عن الدين، بالرغم من أنها فرحة مسرورة بما تتمسك به وتحب أن الصواب معها دون غيرها. كما يؤكد الإمام القرطبي هذا المعنى من أن أحزاب الشرك هي كل فرقة لم تتبيّن الحق عندما زعمت لنفسها اتباع دينها بينما كان عليها أن تتبيّن قبل هذا الاتباع. وكل ذلك يؤكد أن المنهيّ عنه تفريق الدين الإسلامي بالخروج عن قواعده وأصوله، كما فعلت تلك الفرق السابقة، وليس تعدد الاجتهادات في الشريعة والمنهاج مهما تعددت الفرق والأحزاب نتيجة ذاك التعدد. فليتق الله في هذا الدين كل من يتصدى للفتوى والتهجم على الجماعات والأحزاب الإسلامية بحجة أن لا حزبية في الإسلام، ويعودوا إلى كتاب ربهم ليجدوا فيه القول الفصل.
وعند الوقوف على قوله تعالى في الآية 19 من سورة المجادلة: (لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)، فإنها تؤكد نفس معنى الحزب السابق من أنه الجماعة التي تؤمن بأصول الدين الإسلامي وقواعده، وتربط بين هذه الأصول والقواعد وبين وما تبرمه من عقود وعهود، بإخلاص ونية صادقة مع الله، عندما تبرمها مع الآخرين في هذه الحياة مهما كانت القرابة أو الصلة بهم، فلا عقود وعهود، بإخلاص ونية صادقة مع الله، عندما تبرمها مع الآخرين في هذه الحياة مهما كانت القرابة أو الصلة بهم، فلا يجاملون أحداً على حساب ذلك مطلقاً، بل يتمسكون بإيمانهم، وبما يأمرهم به إيمانهم من أنهم يجب عليهم أن لا يحبوا ولا يوالوا من يشاق الله ورسوله ويخالف أمر الله ونهيه.
والآية السادسة من سورة فاطر: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) تقول بأن الشيطان يدعو شيعته ومن أطاعه ليكونوا من أصحاب النار، وهذا المعنى يعطي كلمة حزب عندما تنسب للشيطان نفس المعنى المشار إليه سابقاً بأنهم الجماعة الذين يشايعون الشيطان ويطيعونه، أي أنهم يخرجون على أصول الدين وقواعده.
وأما الآية الوحيدة التي ترد فيها كلمة حزب بصيغة المثنى في القرآن الكريم فإنها الآية الثانية عشرة من سورة الكهف فنقول: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) فإنها تورد كلمة حزب مشيرة إلى نوعية الحزبية في نظر الإسلام، أو أي دين حق، من أنها لا تخرج أما عن أحزاب تلتزم أصول الدين وقواعده وتتعدد بسبب تعدد الاجتهادات في إطار التشريع والمنهاج. فتبقى كلها من نوعية الأحزاب التي تدخل تحت وصف أو تسمية حزب الله، أو عن أحزاب تخرج عن أصول الدين وقواعده، أو لم تأخذ بهما أصلاً، وإنما تلتزم قواعد أصول عقائد أخرى سواء أكانت لها صلة بالدين الحق أو ليس لها أية صلة به، وتبقى كلها من نوعية الأحزاب التي تدخل تحت وصف أو تسمية حزب الشيطان.
هذا بالنسبة لكلمة (حزب) وورودها في القرآن الكريم بصيغة المفرد في مرات عديدة وبصيغة المثنى في مرة واحدة، وأما بالنسبة لورودها بصيغة الجمع فقد حصل ذلك إحدى عشرة مرة كما يلي:
كانت الأولى في الآية 17 من سورة هود: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) والأحزاب هنا كما قال الإمام القرطبي يقصد بها كل الملل التي كفرت بالقرآن أو بالنبي عليه السلام، أو هي أهل الأديان السابقة كلها يتحازبون ضد الرسول والرسالة، أو هي قريش وحلفاؤهم. وفي جميع المعاني فإن الأحزاب هي مجموعة الملل أو الأديان أو العقائد الأخرى التي خرجت أو رفضت أو حاربت الإسلام ورسوله. وأما الإمام الطبري فيقول بأن الأحزاب هي كل من يكفر بهذا القرآن ويجد أنه من عند الله، ويتحزبون أو يتجمعون على مللهم، وهذا المعنى هو نفسه ما أورده الإمام القرطبي، وكلاهما يؤكد ما سبق ذكره.
ولو تتبعنا المواضع العشرة الأخرى التي وردت فيها كلمة «حزب» لوجدناها لا تخرج عن هذا المعنى ولم تبتعد عنه. فها هي الآية 36 من سورة الرعد تقول: (وَمِنْ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ) فيراها الإمام القرطبي بأنها تشير إلى مشركي مكة ومن لم يؤمن بالإسلام ورسوله من اليهود والنصارى والمجوس أو هم العرب المتحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو هم أعداد من المسلمين ينكرون بعض ما في القرآن. وفي هذا المعنى الأخير إشارة إلى تلك الأحزاب المتشكلة من أناس يتسمون بالمسلمين، وما هم من الإسلام إلا بالاسم، لأن من يكفر ببعض ما جاء في القرآن كالكافر به كله، لأن الله تعالى يقول عن هؤلاء وأمثالهم: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا). وأما الإمام الطبري فإنه يرى الأحزاب بأنهم أهل الملل المتحزبون على الرسول والرسالة، وهم أهل الأديان الأخرى، وهم من ينكر بعض ما أنزل على الرسول عليه السلام، وبذلك لا يختلف عن الإمام القرطبي في شيء. وكل ذلك يعطي تحذيراً ونذيراً إلى تلك الجماعات التي تتحزب وتتجمع وكل أعضائها أو أكثرهم ممن يحملون هوية الإسلام بينما هي تحارب الإسلام وتتخذ من أفكار الشرق أو الغرب قواعد لها وأصولاً، وإذا اقتربت من الإسلام كان قربها تشويهاً وتحريفاً وفقاً لما تراه أهواءهم المريضة أو تمليه عقولهم السقيمة.
وها هي الآية 37 من سورة مريم تقول: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) فيقول الإمام القرطبي: قال قتادة بأن الفرق من أهل الكتاب قد اختلف في أمر عيسى عليه السلام، فاليهود فرضوا في أمة واتهموه بالسحر، والنصارى قالت طائفة النسطورية منهم بأنه ابن الله، والملكانية بأنه ثالث ثلاثة، واليعقوبية بأنه الله، فأفرطت النصارى وغلت، وفرطت اليهود وقصّرت… وقال الإمام القرطبي: قال ابن عباس أن المراد بالأحزاب هنا هم الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. وقال الإمام الطبري بأن الأحزاب هنا هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وسواء أكانت الأحزاب هنا هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين خرجوا عن أصول الدين الحق وقواعده، أو كانوا من مشركي العرب، فإنها فرق وجماعات مختلفة الأصول العقائدية أو متحدة، ولكنها تحمل اسم الأحزاب.
وها هي الآية 20 من سورة الأحزاب تقول: (يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ) والآية 22 من نفس السورة تقول: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) فإن الإمام الطبري يرى أن الأحزاب هنا هي قريش وغطفان الذين تجمعوا ضد الرسول والرسالة، وأما الإمام القرطبي فلم يأت على ذكر معناها هنا لكثرة ما سبق أن أشار إليه. والسورة في ذاتها تحمل باسمها نفس الكلمة، وفي ذلك أبلغ الدلالة على وجود الأحزاب والحزبية بكل تلك المعاني في نظر الإسلام ورسالته، سواء أكانت أحزاباً إسلامية أو كافرة.
وهنا هي الآية 11 من سورة ص تقول: (جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ) والآية 13 من نفس السورة تقول: (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ) فإن الإمام القرطبي يرى في كلمة الأحزاب هنا بأنها تعني ملك الجماعات الذين أتوا المدينة وتحزبوا هنا بأنها تعني ملك الجماعات الذين أتوا المدينة وتحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم على شكل جند أو جيوش من قبائل شتى، أو هم تلك القرون الماضية من الكفار، فهؤلاء الجند على طريقة أولئك، فسميت تلك الأمم في تجمعها ضد رسول كل منها ورسالته بالأحزاب. وأما الإمام الطبري فيرى في الأحزاب هنا إبليس واتباعه ممن مضوا قبلهم فأهلكهم الله بذنوبهم. وسواء أطلقت على تلك الجماعات التي تحزبت وتجمعت ضد الرسول من مشركي العرب، أو على تلك الأمم السابقة من الكفار التي تحزبت وتجمعت ضد رسلها، فالأمر لم يعدو المعنى السابق في التجمع على قواعد وأصول معينة من الفكر والتفكير والاعتقاد يقررون عليها كيف يتحركون، وضد من يتحركون، ولأي هدف وغاية يتحركون.
وها هي الآية الخامسة من سورة غافر تقول: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) مما جعل الإمام القرطبي يرى بأن المقصود بالأحزاب هنا بأنها الأمم التي تحزبت على أبنائهم بالتكذيب، نحو عاد وثمود ممن بعدهم، وأما الإمام الطبري فيرى أن المقصود هنا بالأحزاب أنهم الكفار ككل، إذ تحزب كل قوم وتجمعوا على رسولهم أو نبيهم وكذبوا رسالته أو نبوته واضطهدوه فسماهم الله سبحانه بالأحزاب.
وأما الآية 30 من سورة غافر فتقول: (مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ) أي أيام العذاب التي عذب فيها المتحزبون على أنبيائهم، كما يرى الإمام القرطبي، والذين تحزبوا على رسل الله نوح وهود وصالح فأهلكهم الله بتحزبهم عليهم، وسيفعل الله ذلك بمن يتحزبون على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ويهلكهم كما أهلك أولئك… فهذه الآية تسوّي في التسمية بين السابقين من الأقوام الذين تحزبوا ضد أنبيائهم ورسالات ربهم وبين هؤلاء المشركين الذين تحزبوا ضد الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالة الإسلام… مما يجزم أنه لا فرق في التسمية بالحزب والأحزاب بين ماض وحاضر ومستقبل ما دام المضمون واحداً.
وأما الآية 65 من سورة الزخرف فتقول: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي هم الأربعة الذين قالوا ما قالوا في عيسى عليه السلام وأمة. أو هم اليهود والنصارى عامة، كما قال الإمام القرطبي، بينما ينقل الإمام الطبري عن قادة بأنهم اليهود والنصارى. وينقل عن مجاهد والسدي بأنهم فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعاقبة. فسواء أكان المقصود بالأحزاب هنا من جدف من بني إسرائيل في حق عيسى عليه السلام وأمه، أو كل اليهود والنصارى، فإن الأمر لا يخرج عما سبق أن أشرنا إليه في الآيات الأخرى من أن الحزب هم الجماعة الذين تجمعوا على قواعد وأصول الدين الحق أو خرجوا عنها وتجمعوا على غيرها من المبادئ الوضعية كالاشتراكية أو الشيوعية أو الرأسمالية أو الديمقراطية، أو هم من انقسموا فيها بينهم في إطار الدين الواحد أو المبدأ واختلفوا في إطار الاجتهادات الفرعية المنبثقة عن تلك القواعد والأصول أو المبنية عليها، فهي كلها تحل اسم الأحزاب.
هذا بالنسبة للإجابة على التساؤل فيما إذا كان في الإسلام أحزاب، وأما إلى أي مدى يجب على المسلمين أن ينخرطوا في جماعة أو حزب معين من الأحزاب التي تستحق أو توصف بحزب الله، فهذا مما أشير إليه في تضاعيف الحديث عن معاني كلمة (حزب) عند ورودها في الآيات القرآنية. ولمزيد من التوضيح على هذا الجانب من التساؤل حول الحزبية في الإسلام من حيث الانتماء إليها يمكن إعادة الإشارة والتذكير بالآية الكريمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) الآية والتي وجدنا فيها الوجوب على المسلمين جميعاً أن يشكلوا منهم جماعة، أو أكثر، تدعو إلى الإسلام وتأمر بحلاله وتنهى عن حرامه، وأن تلك الجماعة بهذا العمل تعتبر حزباً، وسواء بمفهوم الإسلام للحزب من أنه التجمع أو التكتل الذي يقوم على مبدأ معين، بغض النظر عن صحة هذا المبدأ أو خطئه، ويعمل لإيجاده في الحياة بكل ما يقتضيه هذا المبدأ أو خطئه، ويعمل لإيجاده في الحياة بكل ما يقتضيه هذا المبدأ من الأساليب والوسائل، أو بالمفهوم السياسي المعاصر، بغض النظر عن ارتباطه بالدين أو إلغائه له من الحياة بناء على فكرته الكلية عن الكون والإنسان والحياة، وعلاقة هذه الحياة الدنيا بما قبلها وبما بعدها.
أما هل الإيمان والإسلام يقتضيان أن ينخرط المسلمون في جماعة أو حزب، وإلا أثموا أو كفروا، فهذا مما يجيب عليه الكثير من التوضيحات السابقة، بأن الانتماء لجماعة يتحقق فيها وصف الحزب، أو لحزب بالاسم والفعل يقوم بالمهمة المحددة في الآية المذكورة من الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يعود حكم الإسلام إلى الأرض في نظام الخلافة التي تجعل المسلمين يعيشون من جديد الحياة الإسلامية ويحملون الإسلام دعوة للناس لكافة، إن هذا الانتماء من فروض الكفاية، والدليل على أنه من فروض الكفاية الآية الكريمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ). والقاعدة الشرعية: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). إن إزالة الكفر والمنكرات أمر واجب، وإن إقامة الخلاقة والحكم بما أنزل الله أمر واجب. ولا تتم هذه الواجبات بالعمل الفردي غير المنظم، بل لا بدّ من حزب منظم لإنجاز ذلك. ومن هنا كان وجود مثل هذا الحزب واجباً كفائياً، أي حتى تحصل الكفاية ويتحقق الغرض، وما دامت الكفاية غير حاصلة والغرض غير متحقق، فإن المسلم الذي لا يعمل مع حزب منظم هو مقصر وتارك لواجب.
أما الآية الكريمة فإن دلالتها على وجود أمة (أي حزب) يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا تتوقف عند إقامة الخلافة، بل هي تفيد وجوب وجود (الحزب) بعد قيام الخلافة. قيل قيام الخلافة يكون عمل الأمة (أي الحزب) لإقامة الخلافة وللدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد قيام الخلافة يكون عملها الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه أمور مستمرة، فوجود (حزب) لهذه الغاية أمر مستمر.
ويرد سؤال: إذا اختار المسلم حزباً إسلامياً أو جماعة إسلامية بناء على سهولة منهجها وقلة التضحيات فيها، هل يكون قد أدى واجبه وأبرأ ذمته أمام الله؟
والجواب هو أن علي أن يكون مع الحزب الذي يراه أقرب إلى الحق، وأقرب إلى ما يرضي الله ورسوله. فإن كان يرى هذا الحزب هو على الحق أكثر من تلك الجماعة كان عليه أن ينضم إلى هذا الحزب ولو كانت التضحيات فيه أكثر. وهذا الأمر يتبع قاعدة التقليد، فمن كان مقتنعاً بحكم شرعي فلا يجوز له أن يتركه ويقلد حكماً شرعياً آخر لأنه أسهل عليه، ما دام يرى الحكم الأول أصح ونسأل الله الهدى والتقى وحسن العافية.
الكويت ـ خاص ـ بـ (الوعي)
1988-08-05