مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) ).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
من هذه الآيات يتبين ما يلي:
-
هناك تقديم وتأخير، فالآيات تفيد أن هناك قتيلاً قتل ولم يعرف قاتله، فأمرهم الله أن يذبحوا البقرة ويضربوا المقتول بشيء منها بعد ذبحها فيحيا القتيل ويخبر عن قاتله، ولكن موضوع ذبح البقرة هو الذي بدأت به الآيات ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﮪ ) ثم بعد إكمال الموضوع ذكر الله سبحانه ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) والتقديم والتأخير في كتاب الله لغرض وليس لمجرد التقديم، فالقرآن نزل بلغة العرب وفصحاء العرب لا يقدّمون ولا يؤخّرون إلا لغرض، والمتدبر في هذا الأمر يجد أن هناك غرضين لذلك:
أ. بُدئ بقصة ذبح البقرة لإبراز ضرر التلكؤ في تنفيذ أمر الله وتعمد البحث عن التبريرات لعدم التنفيذ كالإكثار من الاستفسار والتساؤلات غير الضرورية حول الموضوع المطلوب تنفيذه. ثم لبيان أن الله سبحانه يزيد المشقة على الذين يبحثون عن التبريرات ويكثرون التساؤلات غير الضرورية على نحو ما قال سبحانه في الآية الكريمة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )، وفي هذا بيان عام لكلّ من يدين لله سبحانه في كلّ زمان ومكان أن ينفِّذ أمر الله على وجهه دون محاولة إيجاد التبريرات بعدم التنفيذ وقد يكون لأهمية هذا الأمر علاقة بتسمية هذه السورة بالبقرة.
ب. أما الغرض الثاني فإن في هذا التقديم والتأخير إظهاراً للموضوع الواحد كأنه موضـوعـان في كلّ منهـمـا بـيـان، فلو كانت آيات قتل النفس في البـدايـة ثم الأمر بذبح البقرة للدلالة على القاتل لكانت القصة على هذا النحو واحدة ولارتبطت في الذهن بعبرة واحدة هي:
(ذبح البقرة لبيان القاتل).
أما بيانها كما جاء في كتاب الله فكأنهما قِصَّتان بموعظتين:
الأولى: حول تنفيذ الأمر بدون تلكؤ ولا تبريرات.
والثانية قدرة الله سبحانه على إحياء الموتى بشكل عام ومن ضمنها بيان القاتل ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) فكان ذكر هذا الموضوع في آخر آيات ذبح البقرة كأنه موضوع جديد.
-
إن موسى \ طلب منهم بأمر من ربه سبحانه أن يذبحوا البقرة، فلو أنهم عمدوا لأي بقرة فذبحوها لكانوا قد نفذوا أمر الله بسهولة ويسر: “لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم”[1] ولكنهم بدلاً من ذلك بدءوا في التلكؤ والتبريرات والتساؤلات حول البقرة لإطالة أمد التنفيذ فشقّ الله عليهم في نوع البقرة المطلوبة فكانوا كلما استفسروا عن شيء منها شقّ الله عليهم في الجواب حتى سُدَّت عليهم منافذ التساؤلات فكانت البقرة المطلوبة بالمواصفات الجديدة مكلفة عليهم في الجهد والثمن؛ فقد قال لهم موسى \ ( نَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) أيـة بـقـرة، فلما اسـتفسروا عنها أعلمهم سبحانه ( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ ) أي لا هرمة ولا مُسِنَّة، والفارض التي فرضت سنها فقطعتها وبلغت آخرها، ولا هي بكر أي صغيرة، بل عوان أي النصف بين الكبيرة والصغيرة التي ولدت بطناً أو بطنين. وهكذا شَقّوا على أنفسهم بسؤالهم فبدل أن تكون بقرة على الإطلاق أصبح المطلوب بقرة مقيَّدة بسن معينة. ولكنهم مع ذلك لم يبحثوا عن هذه فيذبحوها بل زادوا في الاستفسار فشقّ الله عليهم ( إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا ) أي أشدّ ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد أصفر فاقع.[2] ولكنهم كذلك لم يفعلوا بل عادوا بالسؤال والاستفسار فشقّ الله عليهم في الجواب ( إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ) أي هي بقرة مدللة عند صاحبها لا هي ] ذَلُولٌ [ أي لم تذلل للركوب أو حرث الأرض ولا هي ( تَسْقِي ) فليست من النواضح التي ينقل عليها الماء لسقي الحرث أي الزرع، ثم هي ( مُسَلَّمَةٌ ) أي خالية من العيوب و( لَا شِيَةَ فِيهَا ) أي ولا شيء فيها غير الصفرة فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها. و( شِيَةَ ) في الأصل مصدر من: وشاه وشيا وشية أي أصاب لونه الغالب لون آخر.
وهكذا سدت عليهم منافذ السؤال فاضطروا للبحث عن بقرة بهذه الأوصاف فحصلوا عليها بعد جهد جهيد في مدة البحث وغلاء الثمن. ولولا أنهم أُلجئوا لذلك بعد استنفاذ أسئلتهم ما فعلوه فكأنهم كانوا لا يريدون أن يُعرف القاتل لمنزلة له أو نحوها ( فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ).
-
ثم يعود الله سبحانه بعد ذلك لذكر ما طلب ذبح البقرة لأجله وهو القتيل الذي وجدوه مقتولاً ولم يعترف أحد منهم بقتله، وقوله سبحانه ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ) يـدلّ على أن القاتل من بينهم وليس غـريـبـا عنهم. وقوله سبحانه ( فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﮃ ) أي تدافعتم فكل منكم قائل: لم أقتل بل قتله غـيري فيدفـع كلّ واحد القتل عن نفسه إلى غيره.
فأمرهم الله سبحانه أن يضربوا القتيل بجزء من البقرة المذبوحة، فلما فعلوا أحياه الله سبحانه وأعلمهم قاتله وأظهره الله بعد أن كانوا يكتمونه ( وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ).
وكان في ذلك – إحياء الموتى – آية لهم على قدرة الله على بعثهم أحياء يوم القيامة، وبخاصة الذين ينكرون البعث منهم في ذلك الوقت، ففي هذا الإحياء دلالة على ثبوت الحجة عليكم أيها المنكرون للبعث لتعقلوا وتعلموا أن الله هو المحيي والمميت.
-
يخبرنا الله – سبحانه وتعالى – أنه على الرغم من هذه الآيات – إحياء الموتى وغيره – إلا أن كفار بني إسرائيل الذين شاهدوا تلك الآيات لم يؤمنوا لقساوة قلوبهم أي لغلظتها وجفوتها فهي معاندة للحق، وذلك من قسا إذا جفا وغلظ وصلب.