الإسلام ومحن العلماء 5- محنة مالك بن أنس
1988/07/04م
المقالات
3,803 زيارة
سئل عن الخارجين على الحكام أيجوز قتلهم؟ قال: نعم إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز. قالوا: فإن لم يكونوا مثله؟ قال دعهم ينتقم من ظالم لظالم ثم ينتقم من كليهما.
مالك
في البلد الطيب وفي مركز الإشعاع الفكري والروحي، وفي موطن النور المحمدي وفي حرم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي جوار المصطفى حبيب الرحمن، وبين القبر الشريف والمنبر العظيم، القبر الذي يضم تربة سيد الخلق إمام المرسلين صلى الله عليه وسلم المنبر الذي رفعت عليه كلمة الإسلام عالية المنبثقة من كلمة التوحيد، حيث أخذت تدوي في المشرقين. لتهدي الضال وتبصر العمى وتنير درب المظلومين والمحرومين، وتحدد سبيل تحرير الشعوب من ربقة عبودية البشر. وطريق التخلص من سيطرة الطغاة، وحكم الجائرين ومن على هذا المنبر كان العلماء ينهلون من معينه الذي لا ينضب ومنه يستلم القادة العسكريون وأمراء الأجناد أوامر السير نحو الفتوحات.
ويأخذ الحكام والولاة نصيبهم من التعليمات والتوجيهات هناك بين القبر والمنبر. الروضة المباركة التي ما جلس أحد فيها هنيهة بروحة وجسده إلا وشعر أنه حقاً في الجنة من ذاك الرحاب الطاهر. كان الإمام مالك بن أنس يأخذ كامل زينته من طيب ولباس. ووافر حظ من حسن الأدب جالساً على منصة متواضعة يبين للناس ويعلم، هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قائلاً: حدثني فلان أن صاحب هذا القبر قد قال: والناس يسمعون، وكأنما على رؤوسهم الطير، وهم بين ناصت بكل جوارحه ليصن قلبه ويحفظ عقله، وبين كاتب يسجل على قرطاس. وكان ما حدّث به هذا الإمام الجليل قوله صلى الله عليه وسلم : «ليس على مستكره طلاق».
وما أن نطق بهذا الحديث الصحيح. إذا بالألسن تتداوله ذائعة أمره، حتى شاع وانتشر بين الخلق في مدينة سيد الخلف عليه الصلاة والسلام. ثم أخذت التأويلات لهذا الحديث تجري على قدم وساق كل طائفة وجدت فيه بغيتها وعضت عليه بالنواجذ لأن فيه مستنداً شرعياً لما عزمت عليه من أمر مما بيّتت من فعل.
فالمناوئون لحكم أبي جعفر المنصور وجدوا فيه مستنداً قوياً على التحلل من بيعة المنصور لأنها جاءت ـ كما اعتقدوا ـ عن طريق الإكراه. إذ قاسوا البيعة على الطلاق فقالوا: وليس على مستكره بيعة.
وأنصار محمد بن عبد الله بن الحسن رضي الله عنهم وجدوا فيه متكئاً حين خروج هذا الإمام الجليل.
أما الحكام من أبي جعفر وولاته فقد وجدوا في نشر هذا الحديث خطراً عليهم وعلى كيانهم، لذلك حاولوا أن يمنعوا الإمام مالكاً من التحدث به.
ولكنه لم يفعل، وهددوه فلم يسمع، لأنه يؤمن بأن الله أوجب على العلماء أن يبينوا للناس ما نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ولم يكن الإمام مالك من الجبناء الذين يكتمون أحكام الإسلام. إرضاء لهوى الحكام، أو خوفاً من بطشهم وجبروتهم أو أسواطهم وأغلالهم، عند ذاك نزلت المحنة ووقع الأذى، والسؤال الذي يرد: من أنزل بإمامنا هذه المحنة فباء بإثمها وتولى كبرها، وحصد شرها؟
الروايات التاريخية تشير إلى ما يلي:
… أن أبا جعفر (نهاه أن يحدث بهذا الحديث ثم دس إليه من يسأله عنه فحدث على رؤوس الناس فضربه).
ومثل هذا روى ابن عبد البر في الانتقاء.
(لما دعى مالك بن أنس وشور وسمع منه وقبل قوله شنف له الناس(1) وحسدوه ونعتوه بكل شيء، فملا ولى جعفر بن سليمان على المدينة سعوا به إليه وكثروا عليه عنده، وقالوا لا يرى إيماناً ببيعتكم هذه شيء.
وهو يأخذ بحديث رواه: (ثابت بن الأحنف في طلاق المكره لا يجوز).
(بعد أن ذكر هياج أهل المدينة على المنصور في أول أمره، أنه أرسل إليهم ابن عمه ـ جعفر بن سليمان ـ . فاشتد في أهل المدينة في الخلاف وأخذت البيعة للخليفة فسعى حسدة الإمام مالك إلى الأمير أنه يفتي بألا يمين على مكره فيحل بهذا ما أبرمتموه مما قام على الاستكراه، فأراد أن يبدر فيه فقيل لا تبدر فإنه أكرم الناس على الخليفة فدس إلى مالك بعض ثقاته فأفتاه على طمأنينة منه، فلم يشعر إلا ورسول جعفر فيه فأتوا به فهتك الحرمة وضربه سبعين سوطاً أضجعته بعد انتهاء الفتنة).
والذي يبدو في هذه الروايات أن الذي تولى كبر هذه المحنة ونفذها هو ابن عم المنصور ـ جعفر بن سلميان ـ وكان المنصور على علم بذلك وإن لم يكن من ظاهر الواقع ضارباً أو آمراً بالضرب.
(ونحن لا نستطيع أن ننفي أن يكون ذلك بعلم ورضا من المنصور الداهية الذي كان على علم بما يجري داخل دولته وخاصة من كبارها وأن الذي كان على علم بداخل بيت مالك حتى يعرف أنه كان يأمر خادمه بإدارة الرحى حتى لا يسمع الجيران صوت ابنته من البكاء جوعاً ما كان يجهل بما يجري).
ولكن الخبث السياسي الذي يحمله أصحابه من الحكام يجعلهم يُحمِّلون إثم الأفعال وكبر المحن غيرهم لتكون لهم فرصة البراءة لأنفسهم عند اللزوم بين الناس إذا وجدوهم قد أنكروا هذا الإثم وسخطوا من تلك المحن لظهور الظلم فيها، أما الله فلا تخفى عليه خافية فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهذا ما اتبعه المنصور مع مالك، عندما برأ الأخير من جراحه وطلب إليه الاجتماع بمنى في موسم الحج. يقول مالك: (لما وصلت على أبي جعفر وقد عهد إليّ أن آتيه في الموسم قال لي: والله الذي لا إله إلا هو ما أمرت بالذي كان ولا علمته، أنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين ظهرهم وإني أخالك أماناً لهم من عذاب ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة، فإنهم أسرع الناس إلى الفتن، وقد أمرت بعدو الله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على قتب وأمرت بضيق محبسه والاستبلاغ في اتهامه ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه، فقلت عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته منك قال: فعفا الله عنك وأوصلك).
ومثل هذا روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة.
تلك عظمة مالك من تسامحه واحتسابه السبعين سوطاً لله، له بها ثواب الصابرين ومثوبة المؤمنين…
(وبهذا انتهت محنته وعاد إلى دروسه وصنف كتابه الموطأ بعد ذلك ولكن المحن لم تزل قائمة بأقرانه)…
1988-07-04