الوعي.. بماذا؟
1988/06/04م
المقالات
3,066 زيارة
بقلم: القارئ عبد الله الشطي
دعنا أيها القارئ الكريم نقف مع آيتين قليلتي الكلمات، عظيمتي الدلالات، انهما الآيتان الحادية عشرة والثانية عشرة من سورة الحافة (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) فلعلنا نستثير من دلالاتهما ما نبغي من الوعي.. كيف لا والشطر الثاني من الآية الثانية (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) يقدم لنا الكثير في هذا السبيل. وإذا بدأنا بالمعاني والدلالات للآيتين معاً فسنقف في النهاية مع هذا الشطر الثاني، وما يعنيه في حقنا كمسلمين، وفي حق هذه المجلة التي تحمل اسم الوعي وتسعى من أجل تحقيقه لدى المسلمين.
إن طوفان نوح عليه السلام قد مضت عليه قرون وقرون قبل نزول القرآن ومجيء أمة الإسلام، فيكف يمن عليها رب العزة بأنه حملها في السفينة عندما طغا ماء ذلك الطوفان؟ يرى المفسرون بأن أمة محمد هم أحفاد قوم نوح الذين نجوا بإتِّباعهم لنبيّهم فاستحقوا أن يخاطبوا بهذا الخطاب وكأنهم كانوا مع أجدادهم في السفينة ذاتها.. فأي دلالة في ذلك؟
أن المتدبر لهذا المعنى يدرك إلى أي مدى تلفت الآية الكريمة النظر إلى ما في ذلك الحدث المصيري في تاريخ البشرية من أثر. فطوفان نوح عليه السلام الذي أتى على البشرية فلم ينج منه إلا من ركب السفينة واتبع رسول الله نوح.. هذا الطوفان يذكر به تعالى أمة محمد بأنهم سينجون من سخط الله لاتباعهم محمداً عليه السلام، وما داموا على هذا الاتباع بحق، كما نجا أجدادهم من قوم نوح باتباعهم نبيهم نوحاً عليه السلام.. وكأن الله سبحانه يقول للمسلمين بأن النجاة باتباع الإسلام ورسالة الإسلام التي أتاكم بها محمد عليه الصلاة والسلام.. وإلا ستهلكون كما هلك من عصوا نوحاً وكفروا برسالته.. وهذا هو المعنى الذي ذهبت إليه الآية الأخرى عندما قالت: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) مشيرة إلى أن في تلك السفينة، وما صاحبها من هلاك للكافرين ونجاة للمؤمنين، تذكرة، وأي تذكرة.. والتذكرة لا تكون إلا لمن كان له عقل يعي ما يذكّر به، وقلب يستشعر ما استقر به من خشية الله.. كيف لا والقرآن الكريم يؤكد (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، والدلالة تؤكد أن غير المؤمنين لن تنفعهم الذكرى قبل تشييد الإيمان في عقولهم وقلوبهم.. كما يقول: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى) مؤكداً قيمة الإيمان وأهمية التقوى في تحقيق الذكرى، وانتفائها عمّن فقد ذلك وكان من أصحاب النار..
فها هي السفينة قد صلحت أن تكون تذكرة للمسلمين، ولكن ما صلتها بالأُذن وصلة الأُذن بها، وكيف تعيها الأُذن وهي بحاجة لمن ينقل إليها خبرها، وكيف تكون الأُذن واعية؟
إن المفسرين مجمعون، يا أخي، على أن (تعيها) تعني تحفظها وتعقلها وتفهمها، وأن الأُذن الواعية هي الحافظة لما تسمع، وهي التي تعقل عن الله وتنتفع بما تسمع، فالأُذن تسمع ما يصل إليها من أخبار، خيّرة كانت أو شريرة، فتنقلها إلى العقل ليجري المحاكمات اللازمة في ضوء ما لديه من المفاهيم والمقاييس والقناعات، ثم تصدر عنه الإجابات التي ما أن تختلط مع أحاسيس القلب ومشاعره وتتجاوب مع العقل وقناعاته حتى تحقق الانسجام الكلّي في شخصيته متكاملة متميزة.. وتحقيق بذلك الوعي القائم على اثر القناعات المؤدي إلى تأثير الاطمئنان.
غثاء كغثاء السيل:
والآن، وبعد هذه الوقفة السريعة مع هاتين الآيتين، نسأل أنفسنا: ما علاقة الآيتين بالوعي الذي نسعى إليه، وتسعى لتحقيقه هذه المجلة، أو يردّده أي فرد أو جماعة؟ وما هذا الوعي بالذات؟ وما هي أهميته في حياة هذه الأمة الإسلامية ومصيرها؟
إن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما يقول: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» فإنه يعلمنا أين تكون الخيريّة.. إنها في الفقه بالإسلام، في فهم الإسلام، في فهم ما يلزم فهمه ابتداء وإلزاماً لكل فرد مسلم وانتهاء وكفاية لكل الأمة الإسلامية.. وبهذا يتحقق الوعي على الدين، وبهذا الوعي يتوفر للفرد وللمجتمع المعرفة بكتاب الله وسنة رسوله، المعرفة بمصدري التشريع، التشريع الذي ينضبط به الفرد ويتكون به المجتمع.
وعندما تقول الآية الكريمة بأن الأُذُن الواعية، الأُذن السامعة، الحافظة، المنتفعة بما سمعت وحفظت، تعي وتفهم وتدرك مثل هذه الواقعة المحسوسة التي وقعت في الماضي بكل تفاصيلها، بكل الأسباب الكامنة وراءها، وبكل الأحداث التي صاحبتها، وبكل النتائج التي أدّت إليها، فإن هذه الآية تقرر بما لا يدع مجالاً للشك بأن مثل هذه الواقعة مطردة، أي حتمية الوقوع على مسار التاريخ، والتاريخ يؤكد ذلك، بحيث إذا وجدت الأسباب المماثلة لأسبابها ستقع الحوادث المترتبة عليها وتحصل النتائج المؤدية إليها.. وعليه فلينتظر كل مجتمع تنكب عن رسالة نبيه أن يحل به من البلاء الكاسح لكيانه الماسح لمكانته ما حصل لقوم نوح.. وهل ما حصل للأمة الإسلامية، وقد أدارت ظهرها لرسالة الإسلام، فهماً وتشريعاً، وأقبلت بوجهها على ضلالات الغرب والشرع، أخذاً وتطبيقاً، ببعيد عن ذلك ونحن نراها رغم كثرتها، وتوفر إمكاناتها البشرية والمادية، غثاء كغثاء السيل؟!
ماذا تنتظر أمة الإسلام؟
إن الأذن، يا قوم، واسطة التلقي للأخبار، سواء كانت يقينية أو ظنية، صحيحة أو خاطئة، فتنتقل هذه الأخبار من الخارج لتصب في العمق الذهني، متى استعمل، والعوز النفسي، متى استثير.. فها هو خبر واقعة سفينة نوح اليقيني يصل إلى أذهان أمة الإسلام، سواء بالمشاهدة الحقة التي حصلت لدى سلفها وقد رأوا بقايا أخشاب تلك السفينة، أو بالنقل القاطع في الآيات القرآنية، فماذا ننتظر يا قوم بعد ذلك غير وقوع شكل مما وقع لقوم نوح، وحصول بلاء مما حصل مع قوم نوح؟!
وهذا هو حال الخبر اليقيني، أما الخبر الظني فيحتاج بلا ريب لتمحيص وتدقيق، سواء من حيث الرواية والراوي أو من حيث الدراية والمعاني.. فإذا ما استقر الاطمئنان في القلب لسلامة هذا الظن بالخبر استحق أن يكون موضع استيعاب وحفظ، وموضع استشهاد واستدلال.
ولكن من أنيّ لنا أن تترك لنا وسائل الإعلام الأمور بهذه السهولة وهي بزخمها وتنوّعها وتأثيرها تأخذ بمجامع القلوب وتربك أحلام العقلاء؟ إن الفرد منا ليقف أمام هذا الزخم الهائل من الأخبار متسائلاً متشككاً، مدققاً مغربلاً، كيف لا وأعداء هذه الأمة وإسلامها ما زالوا يتفننون في الكيد لها والنيل منها ومن إسلامها.. وإذا كان بعض الظن شراً وإثماً في الأحوال العادية فبعضه الآخر خير وبر في مثل هذه الأحوال.. ولا سيما في حق من يتصدى للوعي والتوعية.. فكرياً كان الأمر أو سياسياً أو غير ذلك.
دور الأُذن الواعية:
وهنا يأتي دور الأُذن الواعية في الحاضر، ويكون أشد أهمية وأعظم خطورة من ذي قبل. فبقدر ما تسمع وتعي وتحفظ وتنتفع بما تعي وتحفظ من أمور الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية بكل وقائعه وتفاصيله، وأسبابه ونتائجه؛ وبقدر ما تعود إلى مصدري تشريعها في الكتاب الكريم والسنة المطهرة وتستنطقهما ليقدما لها الحلول الكاملة الشاملة المنيرة لكل جوانب هذا الواقع المظلم، وبقدر ما تصل إلى الطريقة الواضحة النابضة بالحياة لتلك الفكرة النيّرة.. بقدر هذا الوعي بأطرافه الثلاثة: على الواقع، والتشريع اللازم لجوانب الواقع، والطريقة التي تعيد الحياة السليمة لهذا الواقع بعودته لذاك التشريع.. بقدر هذا الوعي الثلاثي، الذي يصب في الأُذن من مصادر موثوقة، يتحقق للأُذن الواعية دورها الهام والخطير على المستوى الفردي والجماعي معاً، فتحدث الثورة الفكرية التي تأتي على الواقع من جذوره فتكون جذرية.. انقلابية..
مجلة ” الوعي” ودورها:
وهنا يأتي دور مثل هذه المجلة التي تحمل اسم (الوعي)، والتي تحاول، كما لمست من قراءتي المتأنية لها، أن تقدم زاداً كبيراً للأُذن الواعية، فتكون بقدر ما تتناقل عنها الألسن والأقلام مرجعاً تستقي منه هذه الأُذن وعيها، فتعيش بحق مع كل كلمة تنقلها عنها وتأخذها منها.. وهذا بالطبع هو شأن الأُذن ما دامت واعية، صادقة مخلصة، متفتحة لكل حق، ساعية لكل صواب، وأما إن لحقها شيء من الصمم، بحسن نية أو بسوء نية، فإنها لن تستطيع استقبال الكلمات من هذه المجلة، والمعاني والدلالات من أفكارها، مهما كانت صائبة صادقة، بنفس المستوى من الدقة والوضوح كتلك الأُذن السليمة من كل عطب وصمم.
أما قدرة هذه المجلة، كما يبدو لي، على العطاء في سبيل تحقيق هدفها، وهدفها، حسب تقديري، هو الوعي الذي حملته اسماً لها، فإنها ستبقى محدودة طالما بقيت مجالات التعامل معها وبها محدودة، ومتى أتيحت لها فرصة الانتشار، وتلقتها الأيدي النظيفة بالترحاب، واستقبلتها القلوب الظامئة للخير بالرضى، فإنها ستتخطى كل الحواجز وتتجاوز كل العقبات..
إن هذه المجلة، يا قوم، وسيلة ضعيفة بالمقارنة مع وسائل الإعلام الأخرى القوية الجارفة، وإذا كان لها أن تنجح في التصدي لمهمتها وتحقيق هدفها فلن تتمكن من ذلك إلا بنفس المستوى وعلى نفس المدى الذي تنال فيه حرص المخلصين لفكرتها، الصادقين لغايتها..
أليس في الإيجابية، والخيريّة، اللتين تقدمهما هذه المجلة عندما اختطت لنفسها مثل هذا المسار ما يكفي للوقف بجانبها وتشجيعها؟ وأن أي جفاء لها، ولو نحج بالرضى أو بالقسر، سيدفعها كما دفع غيرها للاختفاء عن الصدور، وعندها ستخسر ساحة الصراع الفكري سلاحاً انتزع منها هو عزيز عليها، فتخلو الساحة لغيرها من الصحف والمجلات التي نجد بعضها، ولا نقول كلها، يدسّ السم لهذه الأمة في الدسم حيناً، ويقدمه صريحاً دون خجل ولا حياء حيناً آخر.. كما نجد بعضاً آخر منها يحاول المشاركة في هذا المسار الواعي النبيل ولكنه يتلجلج فيقع في الغموض والإبهام، فتجيء كلمة الحق الطيبة على صفحاته باهتة عديمة التأثير..
كلمة أخيرة:
اللهم إننا نشهدك ما قصدنا من هذه الوقفة مع هذه المجلة غير وجهك، وجه الحق والحقيقة.. فاجمع كلمة المسلمين حول هذا الحق وفي سبيل طلب الحقيقة، وأنر بصائرهم ليروا الحق حقاً فيتبعوه ويروا الباطل باطلاً فيجتنبوه، وألّف بينهم ليعيشوا على الإسلام وشريعته، ويحملوا رايته، لتسعد بهم ومعهم البشرية جمعاء، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.. وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والحمد الله رب العالمين.
1988-06-04