القروض الأجنبية والتنمية الاقتصادية هدف استعماري أم فائدة للمجتمع
1988/06/04م
المقالات
2,438 زيارة
بقلم: جلال غانم
التنمية الاقتصادية عملية ديناميكية مستمرة، ولذا فلا بد من ديمومة مصادر تمويلها. فلتحقيق التنمية لا يجوز الاعتماد على قروض أجنبية، نظراً لعدم التأكد من الظروف المحيطة بها ولارتباطها بالظروف السياسية المتغيرة. قد يفهم البعض أن الحكم قد صدر قبل دراسة حيثيات القضية. ولكن الأدلة عليه كثيرة وسنتناول بعضها.
من التاريخ
يرى المتتبع لتاريخ القروض الأجنبية أنها إحدى وسائل الاستعمار للسيطرة على البلدان الفقيرة والتي يسمونها «النامية»، إذ أنّ هذه القروض تُقدمَّ بدعوى توفير المال اللازم للاستثمار والذي بدوره ينعش الاقتصاد. إلا أن هذه الدعوى باطلة من أساسها، فنظرة إلى قروض إنكلترا لمصر خلال سنوات 1864 ـ 1875 تبين أنها بالفعل وسيلة للسيطرة، إذ عندما أغرقت بريطانيا مصر بالديون وعجزت الأخيرة عن سدادها أرسلت بريطانيا لجنة (كيف) للإشراف على نفقات الحكومة المصرية، ثم تطور الأمر إلى إدخال وزير بريطاني وآخر فرنسي لترشيد السياسة المالية المصرية، ثم انتهت المسرحية أخيراً باحتلال بريطانيا لمصر، وتاريخ فرنسا الأسود في تونس والجزائر وإغراقها لهذين البلدين ـ وفي نفس تلك الفترة ـ كان الباب الذي دخلته لاستعمار هاتين الدولتين ومن هذا يتضح الخطر والبلاء من وجود فكرة القروض الأجنبية.
قد لا يرى هذا المنحى في البحث بعض المضبوعين بالثقافة الغربية، بحجة أنه مجرد تحميل الدول الرأسمالية مسؤولية البؤس المنتشر في الدول الفقيرة والذي تتحمله في الحقيقة هذه الدول نفسها. وللرد على هذا نقول أن بحث القروض من حيث هي قروض يبين القصد الخبيث الكامن وراء تقديمها للدول الفقيرة.
فالقروض إمّا أن تكون قروضاً (قصيرة الأجل) وهذا ببساطة يتنافى مع فلسفة التنمية (طويلة الأجل) أي المتعلقة بالقطاع العام أو بتعبير أعمّ القطاعات الاقتصادية المشتملة على استغلال الثروات الطبيعية كالمناجم والزراعة وثانياً فيشمل قطاع الصناعة أما الثالث فيشمل الخدمات الإدارية والنقل والتجارة. أما القطاع الخاص فلا يشتمل عليه البحث لأنه متعلق بالنشاطات الاقتصادية التي يقوم بها الأفراد.
لذا نقول أن القروض قصيرة الأجل لا تخدم هذا النوع من قروض التنمية لا من قريب ولا من بعيد.
والنوع الثاني من القروض هي القروض (الطويلة الأجل) وهذه تكون ذات فوائد مرتفعة مما يرهق الاقتصاد في البلد الفقير بسداد الفوائد فقط.
ويكفي أن نشير إلى أن الخلاف بين مصر وفرنسا كان على مبلغ 160 مليون دور ـ 1987 ـ وهذه لم تكن إلا فوائد للديون ولم تكن هي الديون.
علاوة على ذلك فإن معظم القروض تكون مشروطة (Tide Loan) ـ والقرض العام Public Loan هو المبلغ الذي تستدينه هيئة عامة وتلتزم برده في تاريخ معين وبشروط معينة ـ وهذا يعني أن الدول المقرضة تحدد طريقة صرفها وإنفاقها، وهذا بحد ذاته ينسف فكرة القروض الأجنبية من أساسها لأن الدول الغنية ليست بأعلم من الدول الفقيرة بحاجتها وأفضل الطرق للاستثمار، مما يؤكد السم الزعاف لهذه القروض، وما سجلات (البنك الدولي للإنشاء والتعمير) والذي هو مؤسسة أميركية تحت اسم دولي إلا خير دليل على ذلك إذ يقرض الأردن مثلاً بصنعة ملايين لإنشاء حديقة للأطفال في عمان وينسى بل يتناسى أن الأردن يستورد كل شيء من الخارج مما يثقل ميزانه التجاري.
مثال آخر من بلد الكنانة المثقلة بالديون. فقد نشرت الأهرام القاهرية في سنة 82 سلسلة من المقالات حول تزايد نشاط مراكز الأبحاث والبعثات الأميركية عامة والوكالة الأميركية للإنماء العالمي خاصة ومما في تلك المقالات:
أولاً: في مصر ما يقارب 10000 أميركي وأقوى مؤسستين أميركيتين الجامعة الأميركية ـ القاهرة ـ ومؤسسة الإنماء العالمي.
ثانياً: تم إيجاد هذه الوكالة في مصر سنة 1975 بحجة التنمية والإعمار ووجود نقص في الخبراء والفنيين في مصر مع تخرج 1600 حامل دكتوراه كل سنة.
ثالثاً: كان مايكل ستون مدير الوكالة في مصر قد طلب معرفة الكثافة السكانية في كل شارع بل لمّح إلى ضرورة معرفة سكان كل بيت والحصول على خرائط تفصيلية إلى ما لا نهاية من المعلومات بحجة إصلاح نظام المجاري. وقد جاء في الأهرام على لسان كاتب المقالات لطفي عبد العظيم رداً على ذلك «بصراحة، أعتقد أن كل هذه المعلومات تذهب إلى دوائر المخابرات».
رابعاً: لقد وصف وزير التخطيط المصري السابق إسماعيل صبري الوكالة الأميركية للإنماء العالمي بأنها الحكومة الثانية في مصر.
– إننا نرى أن هذه الملاحظات الأربعة وعلى لسان أهل تلك البلاد تكفي لتوضيح صورة عمل هذه الوكالات والمؤسسات الإنمائية والاعمارية التي نتجت عن القروض أو وجدت بحجة الإشراف على إنفاق هذه القروض.
أما إن لم يكن كافياً مثل هذا المثال فلنأخذ مثالاً آخر لدول مثل باكستان كقروض وكمساعدات من أميركا وأحد هذه كان القروض المعطى لباكستان من أجل التطويرات الداخلية (طرق وحدائق ومناظر جمالية في الشوارع إلى كل ما يتعلق بالمواصلات والخدمات العامة). وقد جعلت على قسمين قروض ومساعدات.
بعد فترة من بداية دفع هذه الأموال أرسلت أميركا بوفد ليراجع هذه المساعدات وكيفية صرفها ثم وضع تقدير عن ذلك ولنا أن نشير إلى فقرة جاءت في التقرير ـ ونشرته مجلة نيوزويك ـ يقول التقرير «باكستان من أغنى دول العالم بما ليدها من ثروات».
ثم جاءت لجنة الإشراف والمتابعة لموضوع القرض المتعلق بالتطويرات الداخلية ـ وما زالت هذه اللجنة موجودة للآن ـ ولنا أيضاً أن نشير هنا أن انتخابات البلديات في باكستان عقدت في 30/11/87 وقد ترشح لهذه الانتخابات رجالات من الحزب الحاكم ـ مسلم ليك ـ أو الرابطة الإسلامية وكذلك رجالات من المستقلين أو المعارضة، وجعلت هذه اللجنة الأميركية هي المشرف على هذه الانتخابات ولذلك فقد أرسلت إلى المرشحين المتوقع أن يستلموا رئاسة البلديات «أنه إذا كنتم تريدون السير بحسب رأيكم وأن تطرحوا سياسيات مستقلة فلن يصل لبلدياتكم أي مساعدة أما إن سرتم حسب ما تريد الدولة وحسب سياستها فستنعمون بالمساعدة».
بقي أن نشير إلى ما يقوله من يعطي هذه المساعدات من أن قروضهم سببت الفقر للبلدان التي اقترضت منهم. فهذا القاضي وليام دوغلاس ـ أحد قضاة المحكمة العليا الأميركية ـ وبتاريخ 12/07/1962 يلقي خطاباً في اجتماع ماسوني في سياتل يعلن فيه «بأن هناك دولاً كثيرة ازدادت حالتها سوءاً نتيجة لتلقيها مساعدة أميركية» وقال: «لقد أصبح كبار المسؤولين في تلك الدول أثرياء نتيجة للمساعدة الأميركية، وفي الوقت ذاته أخذ أفراد عامة الشعب يهلكون جوعاً».
ليس لنا بعد ذلك إلا الوصول إلى النقطة التالية وهي أن كل هذه القروض والمساعدات لا تصرف إلا بمعونة الدولة أو المؤسسة المقرضة ولا تصرف إلا في مشاريع استهلاكية وخدمات عامة (مد الطرق، فتح مستشفيات، بناء مدارس وحدائق عامة، تجميل المدن وفتح أسواق، تمديد مياه وشبكات مجاري…الخ) ولا تصرف في مشاريع إنتاجية. ومن هذا كله يتبين أن القروض إن لم نقل تضرب اقتصاد البلد فيكفي أن نقول لا تؤدي إلى تنمية الثروة وإنما إلى إخضاعها لسيطرة الدولة التي تعطي القروض.
على أنه لو فرضنا جدلاً أن هذه القروض تصرف للمشاريع الإنتاجية، فإن الخطر ما زال مستشري. ذلك أنه إن كان القرض قصير الأجل كان على الدولة المستدينة أن تسدّه بالعملة الصعبة بأسعار عالية وبالتالي لا بد أن تهبط عملتها وتضرب في السوق العالمي وليس لها إلا أن تلجأ إلى صندوق النقد الدولي فيتحكم حينئذ في عملتها حسب ما يريد أي حسب سياسة أميركا المتحكّمة به. أما إن كان القرض طويل الأمد فدائماً نجد المُدين يتساهل في تحصيل أمواله حتى تتراكم وتتضخم ليخضع البلد المستدين لسياسته ولما يريد ويتحكم به بالسياسة التي يريد ويكون باباً له لاستعمار ذلك البلد الذي يضطر في النهاية حين السداد وعدم وجود أموال منقولة لديه أن يسدد من الأموال غير المنقولة من مصانع وأراضٍ… الخ.
فمتى يفيق المسلمين من غفوتهم، أم أنه نوم مثل نوم أهل الكهف؟.
1988-06-04