مع القرآن الكريم
2018/01/21م
المقالات
6,714 زيارة
مع القرآن الكريم
] لِّلَّذِينَ يُؤۡلُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرٖۖ فَإِن فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٢٦ وَإِنۡ عَزَمُواْ ٱلطَّلَٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٢٢٧[.
يبين الله سبحانه في هاتين الآيتين حكمًا آخر من الأحكام الشرعية في السـيـاق نفسه الذي ذكرناه سابقًا، وهذا الحكم هو أن الحلف بعدم جماع المرأة فوق أربعة أشهر وهو ما يسمى بالإيلاء حكم مختلف عن الأيمان الأخرى التي ذكرناها في تفسير الآية السابقة، فهو هنا إما أن يقسم أن لا يجامع زوجته أربعة أشهر فما دونها أو فما فوقها فيترتب عليه ما يلي:
أولًا: إن كان الحلف على عدم الجماع أربعة أشهر أو أقل من أربعة أشهر فهو لا يسمى (إيلاء) بل هو في هذه الحالة يمين كالأيمان المعتادة، إن نقضه فجامع زوجته قبل المدة التي أقسم عليها يكون حنث بيمينه ويكفر اليمين. وإن لم يجامعها المدة التي حلف عليها – وهي أقل من أربعة أشهر في هذه الحالة – يكون قد برّ بيمينه ولا شيء عليه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها -: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا فنزل لتسع وعشرين وقال: الشهر تسع وعشرون».
ثانيًا: أن يحلف ألا يجامع زوجته فوق أربعة أشهر، وهو ما يسمى بالإيلاء الشرعي والذي له أحكام بينتها الآيتان الكريمتان، ويكون الحكم على النحو التالي:
أ. إن جامعها قبل أربعة أشهر يكفر عن يمينه وينتهي الأمر.
ب. إن استمر لا يجامعها حتى انتهاء الأربعة أشهر فيوقف ويجبر على أحد أمرين:
أولًا: إما أن يفيء أي يرجع لما كان عليه قبل أن يحلف وهو كناية عن الجماع، ويكفر عن يمينه.
ثانيًا: وإما أن يطلق.
فإن رفض هذا وذاك طلق عليه الحاكم.
وما بيناه آتٍ من دلالة الآيتين الكريمتين المذكورتين على النحو التالي:
] لِّلَّذِينَ يُؤۡلُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ[ الإيلاء – في أصله – الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر الذي يحلف عليه، فيحلف أن يعمل سوءًا أو ينقص من خير على نحو قوله سبحانه ] لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا [ آل عمران/آية118 ] وَلَا يَأۡتَلِ أُوْلُواْ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤۡتُوٓاْ أُوْلِي ٱلۡقُرۡبَىٰ [ النور/آية22 ثم أصبح له معنى شرعي وهو الحلف المانع عن جماع المرأة.
] مِن نِّسَآئِهِمۡ[ أي زوجاتهم، وفيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات وليس بالإماء.
] تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرٖۖ [ التربص هو الانتظار والتوقف، أي أن له أربعة أشهر فقط مهلة وبعدها عليه التوقف لتقرير أحد الأمرين المذكورين فيما بعد.
] فَإِن فَآءُو [ أي رجعوا لما كانوا عليه كناية عن الجماع.
] وَإِنۡ عَزَمُواْ ٱلطَّلَٰقَ [ فيه دلالة على أن الزوجة لا تطلق بمضي المدة إلا أن يـطـلـقـهـا زوجـهـا أو يطـلـق عليـه الحـاكم.
وبالتالي يكون معنى الآية:
إن الذين يحلفون أن لا يجامعوا نساءهم فوق أربعة أشهر فإنهم عند مضي الأربعة أشهر يوقفون لتنفيذ أحد أمرين: إما أن يفيئوا ويرجعوا إلى ما كانوا عليه كناية عن الجماع ويكفروا أيمانهم، أو يطلقوا فإذا أبوا طلق عليهم الحاكم.
ويختم الله سبحانه الآيتين:
] فَإِن فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٢٦[ لما حدث منهم من اليمين على إضرار المرأة تلك المضرة.
] وَإِنۡ عَزَمُواْ ٱلطَّلَٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٢٢٧ [ سميع لإيلائهم الذي صار منهم طلاقًا، عليم بغرضهم من هذا الإيلاء فيجازيهم بما يستحقونه.
@ @ @
] وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٢٢٨ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيًۡٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٢٩ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٢٣٠[.
في هذه الآيات البينات أحكام تتعلق بالطلاق بعد أن ذكر الله سبحانه في الآيات السابقة بعض الأحكام المتعلقة بالزواج والمعاشرة بين الأزواج:
-
يبين الله سبحانه أن النساء ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهن إذا طُلقن فعدتهن أن ينتظرن بدون زواج مدة ثلاثة قروء، وأنَّه يحرم عليهن أن يكتمن واقع حيضهن أو حملهن لأي سبب كان؛ لأنَّ العدة تتوقف على صدقهن في ذكر ما في أرحامهن من حيض وحمل كما فسرها ابن عمر، رضي الله عنهما.
ثم إن أزواجهن لهم الحق في إرجاعهن إلى عصمتهم خلال فترة العدة في الطلاق الرجعي أي المرة أو المرتين كما في الآية اللاحقة.
ويحث الله سبحانه الأزواج عند مراجعتهم لأزواجهم أن يكون ذلك بقصد الإصلاح والإحسان في الحياة الزوجية والمعاشرة الطيبة وليس من باب مضايقة المرأة، فلا هو يريدها ولا يتركها.
وفي خاتمة الآية يبين الله سبحانه وجوب أداء المرأة ما أوجبه الله من حقوق عليها لزوجها، وأداء الرجل ما أوجبه الله من حقوق لزوجته؛ فالرجل والمرأة مطالبان بأداء الأحكام الشرعية المتعلقة بهما سواء بسواء من حيث الأداء على وجهه، في الوقت الذي يبين الله سبحانه أن الرجال لهم درجة على درجة النساء وهي التي بينها الله سبحانه في آية النساء ] ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ [ النساء/آية34 أي قوامة رعاية؛ فهو المسؤول عن البيت، وصاحب الإذن فيه، وصاحب النفقة على أهله، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالرجل دون المرأة في هذا الباب.
والله سبحانه هو أعلم بما يصلح مخلوقاته وما يناسب الرجل والمرأة من أحكام، وهو سبحانه عزيز غالب لا يعجزه معاقبة من خالف الأحكام الشرعية رجلًا كان أو امرأةً، وهو حكيم عالم بعواقب الأمور وما يناسبها وما يصلحها.
] وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ [ (ال) هنا للعهد فهي عن مطلقات مخصوصات بالحرائر المدخول بهن اللائي يحضن؛ وذلك لأن غير هذا الصنف من النساء عدتهن غير هذه كما قال سبحانه ] وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ[ الطلاق/آية4 وكذلك التي يتوفى عنها زوجها، فإن عدتها أربعة أشهر وعشر: ] يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ[ البقرة/آية234. وكذلك فإن الأَمة تَعْتَدُّ بقُرْأَين لأنها على النصف من الحرة: أخرج الدارقطني وغيره عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» وكذلك فإن غير المدخول بها لا عدة لها لقوله تعالى: ] يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٤٩[ الأحزاب/آية49.
وقلنا ] وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ [ (ال) هنا للعهد أي لمطلَّقاتٍ مخصوصات وهن الحرائر المدخول بهن ذوات الأَقْراء، قلنا ذلك ترجيحًا على كونها للعموم، ثم خُصصتْ في (غير الحرائر، وغير المدخول بهن، وغير ذوات الأقراء الصغيرات والكبيرات، وغير ذوات الأحمال)؛ لأن الأنسب في تخصيص العام أن يكون الباقي بعد التخصيص أكثر، وليس أن يكون المخصَّص هو الأكثر كما هو واضح هنا؛ لهذا رجحنا كون (ال) للعهد على كونها للعموم ثم خُصصتْ.
وترجيح العهد بدل الاستغراق أو العموم آتٍ كذلك من ذكر ] يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [ فهي إذن لنساء مخصوصات ذوات قروء.
] يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [ ينتـظـرن ثلاثة قـروء أي إن عدتهن هي ثلاثة قروء.
أما ما هو (القرء)؟ فهو في اللغة يأتي بمعنى الحيض والطهر والراجح هنا أنه (الحيض) لما يلي:
أ. «روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا، دعي الصلاة أيام أقرائك» وهذا يدلّ أن (القرء) هو الحيض، أيام أقرائك أي أيام حيضك.
ب. عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» في مقابل عدة الحرة ثلاثة قروء أي ثلاث حيضات، فنصف عدة الحرة (نصف ثلاثة قروء) أي قرآن اثنان فيكون القرء هو الحيض. وقد قيل في هذا الحديث إن أحد رواته (مظاهر بن أسلم) لا يعرف له غير هذا الحديث مما اعتبره بعضهم مجهولًا؛ إلا أن ابن حبان وثقه، وقال الحاكم: «مظاهر شيخ من أهل البصرة، ولم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح» ولهذا فالحديث حسن.
أما قوله تعالى: ] إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ الطلاق/آية1 واعتبار أنَّ ] لِعِدَّتِهِنَّ [ أي لأول العدة، وحيث إن الطلاق حسب الشرع هو ما كان بعد الطهر من الحيض، أي إن أول العدة هو الطهر؛ وبذلك يكون القرء هو الطهر كما جاء فيما رواه الشيخان أن ابن عمر – رضي الله عنهما – طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ ثم قال: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر قبل أن تمس، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء».
فإن هذا القول متوقف على معنى (اللام) في ] لِعِدَّتِهِنَّ [ وفي «يُطلَّق لها النساء» و(اللام) في مثل هذه الحالة مشتركة المعنى: فقد تأتي لأول الوقت (كتبت لغرة كذا) فالفعل وقع فيه أي مع دخول الوقت، وقد تأتي بعد الوقت (كتبته لليلة خلت من كذا) أي تم الفعل بعد الوقت، وقد تأتي قبل الوقت (كتبته لليلة بقيت من كذا) أي تم الفعل قبل الوقت، والقرينة هي التي تبين المعنى المقصود.
وهنا يكون (لعدتهن) قبل بدء عدتهن لقرينة وقوع الطلاق، فالطلاق يقع قبل بدء العدة، وهكذا «فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» أي تطلق النساء قبل عدتهن، وبالتالي فلا تناقض بين اعتبار (القرء) بمعنى (الحيض) كما في الحديثين اللذين ذكرتهما في البداية، وبين حديث الشيخين في موضوع ابن عمر، فإن العدة تبدأ بالحيض. ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر طلق زوجته في الحيض أمره بمراجعتها إلى أن تحيض وتطهر ويطلقها في الطهر الذي يسبق بدء العدة من الحيضة التالية، فالطلاق حسب الشرع هو الذي يتمّ في طهر لم تمسّ المرأة فيه قبل بداية العدة من الحيضة التالية، ثم يعد بعدها حيضتان فتكون ثلاثة قروء وتنتهي بذلك عدة المرأة الحرة المدخول بها ذات الحيض.
ولا يقال إن الآية ] يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ [ فيها تأنيث للعدد (ثلاثة) أي أن المعدود مذكر (قرء) فكيف يكون قروء بمعنى (حيضات) جمع حيضة؛ لأن العدد حينذاك يكون مذكرًا (ثلاث)؟ لا يقال ذلك لأن العدد يجوز التأنيث فيه إن كان لفظ المعدود مذكرًا بغضّ النظر عن معناه كما نقول (له ثلاث من البط ذكور) فقد جعلت العدد مذكرًا بناءً على لفظ المعدود المؤنث (البط جمع بطة) وهكذا فلفظ (قروء) جمع (قرء) لفظ مذكر فيجوز تأنيث العدد معه. فيجوز أن يعامل العدد مع اللفظ ومع المعنى. أما اللفظ فقد ذكرناه، وأما المعنى فقوله تعالى: ]وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا[ فالعدد مؤنث وهو يطابق المعدود من حيث المعنى، أي لم يؤخذ المعدود بلفظه (سبط أسباط) بل بمعناه (فرقة فرق).
ولذلك قلنا إن الراجح في معنى (القرء) هو الحيض لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش صريح في الموضوع: “دعي الصلاة أيام أقرائك” ولحديث عائشة عن عدة الأمة وهو صريح (حيضتان) ولأن اللام في قوله تعالى ]لِعِدَّتِهِنَّ [ وحديث الشيخين: “يطلق لها النساء” يعني قبل بدء عدتهن كما بيناه أعلاه. ويكون الجمع بين الأدلة يرجح معنى القرء في الحيض، وتكون العدة ثلاث حيضات متتاليات.
] وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ [ ]بُعُولَتُهُنَّ[ أزواجـــهـــن جــمــع بـعـــل كعم وعمومة.
] أَحَقُّ [ ههنا بمعنى حقيق، عبر عنه بصيغة التفضيل للمبالغة.
] بِرَدِّهِنَّ [ أي برجعتهن في العدة إن كان الطلاق رجعيًا كما في الآية التالية.
] فِي ذَٰلِكَ [ أي زمن التربص – فترة العدة -.
والمعنى: أن لبعولتهن حق الرجعة في العدة وذلك في الطلاق الرجعي.
] إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ [ فيه حثّ للأزواج أن يكون قصدهم الإصلاح والمعاشرة الحسنة عند إرجاع زوجاتهم في العدة.
ولا مفهوم لهذا الشرط أي أن الرجعة غير متوقفة على إرادة الأزواج الإصلاح بل لو راجعها فالرجعة جائزة مهما كانت نيته، ففي حديث ابن عمر، عندما طلق زوجته في الحيض، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر أن يبلغ ابنه أن يرجعها، ثم بعد أن تطهر وتحيض وتطهر يمسكها إن شاء أو يطلقها، وقد مرّ الحديث، فهنا واضح أن الإرجاع لم يكن لأجل المعاشرة الزوجية أي ليس للإصلاح ومع ذلك صحت الرجعة.
غير أن الزوج الذي يراجع زوجته للإضرار بها حتى لا تنتهي عدتها فتسرح منه وإنما يريد أن يبقيها على عصمته بالمراجعة إضرارًا بها وليس للمعاشرة الزوجية فهذا آثم بنص الآية ] وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُوٗاۚ [ البقرة/آية231 وهي نهي جازم أي تحريم إمساك المرأة مضارة لها.
-
يبين الله في الآية الثانية أن الطلاق الذي يملكه الرجل ويراجع زوجته في العدة هو تطليقتان ]ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ[، فإن طلقها الأولى فله أن يراجعها خلال العدة وليس شرطًا رضى الزوجة، لكنها إن بقيت دون مراجعة حتى إذا انقضت عدتها فتصبح أجنبية عن زوجها السابق، ولا يجوز له الزواج منها إلا بعقد ومهر جديدين، أي أن رضاها شرط كأي عقد زواج، وهذه الحالة المسماة في الفقه البينونة الصغرى.
وهكذا إذا طلقها الثانية، ولا يملك الرجل في الإسلام غير هاتين الطلقتين برجعة.
أخرج الترمذي عن عروة عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعًا قالت: «كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته والله لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك. فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها، فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن ] ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [ فكان الحدّ الأقصى لطلاق الرجعة للرجل مرتين».
أما إن كانت الزوجة عند زوجها وقد مضى عليها طلقتان من زوجها وراجعها خلالهما، فإن حقه من الطلاق مع الرجعة قد انتهى وبالتالي يكون له أحد أمرين:
] فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ [ أي استمرار الزوجية بحسن الصحبة وحسن العشرة وطاعة الله سبحانه ورسوله فيما بينه من حقوق الأزواج وواجباتهم.
أو ] تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [ أي أن يطلقها الثالثة وهو ما بينته الآية الثالثة.
] فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ [.
وذكر ] بِإِحۡسَٰنٖۗ [ فيه دلالة على أن لا يضارها في الطلاق؛ فلا يأكل حقها بتضييق الخناق عليها في الطلاق كما تبينه الآيات اللاحقة ] وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ [.
أما لماذا قلنا إن ] فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ [ هي بعد استنفاذ الطلقتين، أي هي للزوجة الموجودة في عصمة زوجها بعد أن مضى عليها طلقتان، ولم نقل إنها المراجعة بعد الطلقة الأولى والثانية، فيمسك بمعروف أو لا يراجع حتى تنقضي العدة فيكون هنا تسريحًا بمعروف، وتصير المرأة بذلك أملك لنفسها.
إن السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: إن الطلقة الثالثة هي التسريح بإحسان وبالتالي أصبح المعنى كما قلنا: إن الزوجة التي في عصمة زوجها، إن كان قد مضى عليها طلقتان؛ فإن زوجها حينذاك إما أن يستمر معها بالمعروف من حسن الصحبة وحسن المعاشرة، أو يطلقها الثالثة ويسرحها بإحسان.
أخرج ابن مردويه من طريق أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة قال «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان». وفي رواية ابن أبي حاتم من طريق أبي رزين الأسدي أين الثالثة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «التسريح بإحسان».
بعد ذلك يبين الله سبحانه أنه لا يحل للأزواج أن يأخذوا شيئًا مما قدموه لزوجاتهم من مهور مقابل أن يطلقوهن، بل إن أراد الزوج طلاق زوجته فليطلقها بإحسان دون أن يضارها ليأخذ شيئًا مما آتاها ] وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيًۡٔا [. (يتبع)
2018-01-21