مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته
( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
إن المتدبر لهذه الآية الكريمة لا يملك إلا أن يخشع لله سبحانه مدركاً كلّ الإدراك أن هذا كلام الله سبحانه، والمعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذه الآية قد بينت وعداً مـن الله – جـلّ ثنـاؤه – لجميع أصناف البشـر مع اختلاف أديانهم على وجه الشرط ( فَلَهُمْ ) أي إن فعلوا الشرط تحقق لهم الجواب، وكلّ ذلك في آية قليلة الكلمات في عددها عظيمة في قدرها.
( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ) تشمل المعنى العقدي للإيمان في الإسلام، وهو التصديق الجازم بعقيدة الإسلام، وتشمل كلّ من آمن بما جاء به رسل الله في كلّ زمان ومكان منذ آدم عليه السلام ومن آمن معه إلى نوح ومن آمن معه وإبراهيم… إلى خاتم الأنبياء والرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه.
( وَالَّذِينَ هَادُوا ) تشمل كلّ من انتسب إلى اليهودية منذ أن وجدت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
( وَالنَّصَارَى ) تشمل كلّ من انتسب إلى النصرانية منذ بدئها إلى منتهاها.
( وَالصَّابِئِينَ )[1] وهم الذين لا دين لهم، من “الصبوة” وهي الميل عن سنن الحق أو الذين خرجوا من دين قومهم إلى آخر، من “صبأ” خرج من الشيء الذي كان فيه. صبأت النجوم: طلعت فظهرت بعد أن لم تكن ظاهرة. صبأ علينا فلان موضع كذا، أي طلع علينا في ذاك الموضع بعد أن لم يكن فيه. ولذلك ( وَالصَّابِئِينَ ) من لا دين لهم أو من خرج من دينه إلى دين آخر أو إلى غير دين، وعليه يكون: ( إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ) تشمل كلّ أنواع البشر من حيث أديانهم أو عدمها. وهنا يتبين ما يلي:
-
إن الآيـة تـفيـد الـعـمـوم ( الَّذِينَ ) مـن صـيـغ الـعـمـوم:( وَالنَّصَارَى ) ( وَالصَّابِئِينَ ) محـلاة بالألف واللام من صيغ العموم، وعمومها يشمل كلّ البشر كما بينا.
-
جاءت هذه الآية الكريمة بعد أن بيّن الله سبحانه الوعيد الشديد في الآية السابقة لليهود بسبب ما اقترفوه من كفر وقتل وعصيان، فكأن الآية الكريمة جواب لسؤال عن هؤلاء اليهود الذين فعلوا وفعلوا، هل يمكن أن يكون منهم خير كأن يسلموا أو يكون لبعضهم أجر لمن سلف أو خلف؟ فبيّن الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أن اليهود وغيرهم ممن ذكروا في الآية الكريمة لهم أجر إن قاموا بالخير الذي بينه الله – جلّ ثناؤه – على وجه الشرط محصول الأجر.
-
(ﭘ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) فالذين آمنوا إن ثبتوا على إيمانهم وعملوا صالحاً، والذين هادوا والنصارى والصابئين إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً، كلّ أولئك ( فَلَهُمْ ) وهذا جواب الشرط أي إن كانوا كما بينه الله سبحانه( فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ).
-
جاء ( صَالِحًا ) نكرة ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) أي ليس (وعمل الصالحات) والنكرة تفيد التعدد وليس من نوع واحد، أما (الصالحات) فهي عامة في الصالحات التي جاء بها الإسلام[2].
وهذا ليشمل من آمن قبل الإسلام وعمل صالحاً كما في دينه آنذاك ومن آمن مع نوح عليه السلام وعمل حسب شرعه، وهكذا الأنبياء اللاحقين فكلّ أولئك لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولو كان شرط الأجر عمل الصالحات المبينة في الإسلام لكان شأن المؤمنين مع الأنبياء السابقين خارجاً عن الوعد بالأجر. وهكذا فإن المؤمنين السابقين الذين كانوا يعملون الصالحات في شرائع أنبيائهم لهم وعد الله سبحانه بالأجر وعدم الخوف، يقول صلى الله عليه وسلم مخاطباً سلمان الفارسي حول الرهبان الذين صحبهم سلمان قبل إسلامه: «من مات على دين عيسى قبل أن يسمع بي فهو على خير، ومن سمع بي ولم يؤمن فقد هلك»[3]. أي من كان على الدين الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام ومات قبل الإسلام فهو على خير بإذن الله، أما من عاش بعد الإسلام ولَم يؤمن بالإسلام فهو كافر وله العذاب الأليم.
-
( وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) كما ذكرنا في الآية السابقة ( فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي لا خوف مما يحصل لهم مستقبلاً ولا حزن على ما فاتهم في ماضيهم وعليه يكون المعنى: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه من أهوال يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها عند معاينتهم ما أعدّ الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.
[1] هناك روايات عن طائـفـة أو طوائف سميت الصابئة ولكنني لم أرَ فيها نصاً صحيحاً يُستند إليه فعمدت إلى مدلولها في اللغة كما هو مبين.
[2] قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) ) الشرح، فقال: عسر واحد لن يغلب يسرين على اعتبار أن ( يُسْرًا ) نكرة فهي ليست ( يُسْرًا ) الأخرى لأن النكرة تتعدد باختلاف، أما (العسر) فقد تكرر وهو معرفة فيكون تكراره هو هو، فقولك جاء الرجل جاء الرجل يعني أنَّ الرجل نفسه هو الذي جاء، وأما قولك جاء رجل جاء رجل، فهما رجلان.
[3] تفسير الطبري: 1/323، الدر المنثور: 1/74