فكرة فصل السلطات في الأنظمة الديمقراطية بين النظرية والتطبيق (2)
2013/01/01م
المقالات
2,204 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
فكرة فصل السلطات في الأنظمة الديمقراطية
بين النظرية والتطبيق (2)
كان من جراء عدم إدراك كثير من المسلمين في هذا العصر لنظام الحكم في الإسلام، ومن جراء وقوعهم تحت تأثير الفكر الغربي وتطبيق النظام الغربي عليهم مباشرة منذ فترة من الزمن، والبريق الخادع له من جراء الدعاية الكاذبة له، كان من جراء كل ذلك أن صعب عليهم أن يفرقوا بينه وبين النظام الغربي الديمقراطي. وصعب عليهم أن يفرقوا بين مفهوم الدولة الإسلامية ومفهوم الدولة الدينية عند الغرب، ولم يدركوا مدى تناقض الدولة المدنية مع الدولة الإسلامية، ولم يدركوا فكرة فصل السلطات ومخالفتها للواقع ولنظام الحكم في الإسلام، ولم يدركوا معنى الديمقراطية الحقيقي، فظنوا أن معناها الانتخابات، أو ركز أمام أعينهم على هذا الجانب حتى يغطى على المعنى الحقيقي لها الذي يجعل التشريع للبشر حتى يتم تجريعها لهم، لأن الغرب أدرك أنه لا يمكن أن يقنع المسلمين بالديمقراطية إذا أظهرها على حقيقتها؛ ولذلك رأينا التناقض العجيب عندما قام مسلم يعتبر متديناً وأصبح رئيساً للجمهورية في مصر، فيقسم في 29/6/2012م قسم الولاء لهذا النظام، فيقول بأعلى صوته: “أقسم بالله العظيم أن أحافظ على النظام الجمهوري” في ميدان التحرير، فتصفق له الحشود المليونية المسلمة هناك عندما أقسم على الولاء للنظام الذي ثاروا ضده. وخاطبهم قائلاً: “اليوم أسس الشعب المصري لحياة جديدة ديمقراطية حقيقية وإعلاء مفهوم المؤسسية”. وقال :”سأحترم وأقدر السلطة القضائية والسلطة التشريعية، وأقوم بدوري لضمان استقلال هاتين السلطتين عن بعضهما البعض وعن السلطة التنفيذية”. وقال:”سنكمل المشوار في دولة مدنية وطنية دستورية حديثة”.
إن من أسباب هذا التناقض العجيب لدى المسلمين ومن يتولى حكمهم هو أنه عندما قامت الثورات في العالم العربي وطرحت شعار إسقاط النظام وإعادة كرامة الإنسان، ولم تطرح البديل بشكل واضح لعدم اكتمال الوعي لديها، تحرك الغرب بسرعة وأدرك أن هذه الثورات حقيقية، وستطيح بالأنظمة التي أقامها، والدساتير التي وضعها ونصب عليها أتباعاً له في فكرته وفي سياسته، فجعلهم عملاء مخلصين له ومستبدين في الأمة يسومونها سوء العذاب حتى يحافظ على نفوذه، فتحرك الغرب بسرعة وضحى ببعض عملائه، وقبل بإسقاطهم في سبيل الحفاظ على نظامه الغربي الذي أقامه في بلاد المسلمين، وقبل بأن يأتي أناس من المحسوبين على التيار الإسلامي بشرط ن يتعهدوا بالولاء للنظام الديمقراطي والدولة المدنية، وأن يحترموا فكرة فصل السلطات. وبدأ الغرب يروج لذات النظام الذي أقامه من قبل والذي أصبح على وشك السقوط، ولكن أراد الحفاظ عليه بتلميع صورته ليظهر أقل استبداداً، وصار ينادي ويروِّج للدولة المدنية القائمة على أساس فكرته في فصل الدين عن الدولة وفي هيكلها فصل السلطات.
فلو أدرك المسلمون إدراكاً تاماً بأن فصل السلطات شيء غير متحقق في الواقع، وهو مخالف للواقع، وأنه لا يوجد إلا سلطة واحدة يديرها شخص واحد يسمى الخليفة بأحكام شرعية مستنبطة مما أنزل الله، لما قبلوا بالديمقراطية أو بفصل السلطات، ولا نادوا بالدولة المدنية. فما حصل في الغرب لم يحصل عندنا، بل كان تاريخنا مشرقاً مختلفاً عن تاريخهم المظلم. فلم يحدث أن طالب الناس على مدى ثلاثة عشر قرناً بإسقاط الخليفة لأنه فرد واحد يحكم وأنه مستبد. لأن هذا الخليفة لم يكن مستبداً، فلم يحكم حسب هواه وحسب مصالحه، بل حكم بما أنزل الله فلم يعترضوا على حكمه؛ ولذلك لم يكن مستبداً أو ديكتاتوراً. وكل ما اعترضوا عليه هو إساءة تطبيق البيعة، أي أن الخليفة كان يرشح ابنه أو أخاه أو أحد أقاربه حتى يبايَع على الخلافة من بعده باجتهاد خاطئ؛ للمحافظة على وحدة الدولة ومنعاً لاختلاف الناس من بعده والحيلولة دون الفتن. مع العلم أن الإسلام يعطي الحق للأمة لتختار وتبايع من تريد، سواء ابن الخليفة أو أحد أقاربه أو أي شخص آخر ممن يحوز على الأهلية. هذا ولا توجد في الإسلام زمرة رجال الدين؛ لأن الإسلام لم يعط حق التشريع للعلماء ولا لغيرهم من البشر، وما يقوم به العلماء هو الاجتهاد فقط. فيقومون ببذل الوسع في استنباط الحكم الشرعي لمسألة عملية من الأدلة التفصيلية، أي من القرآن والسنة وما أرشدا اليه من إجماع الصحابة والقياس الشرعي. والخليفة ربما يكون هو أيضاً مجتهداً، فإذا تبنى حكماً شرعياً، سواء باجتهاده أم باجتهاد علماء آخرين يصبح حكماً شرعياً في حق الرعية، فيلزم الناس به حتى يتمكن من رعاية شؤونهم وتسيير مصالح الدولة. فالدولة الإسلامية ليست دولة دينية بالمفهوم الغربي وإن كان أساسها الدين الإسلامي، أي دستورها وقوانينها نابعة من الدين الإسلامي. بل هي دولة بشرية يحكمها بشر بما أنزل الله، ويُختار حكامها ونوابها من قبل البشر. فلم يعينوا من قبل الله، فليست هي دولة إلهية، وليست هي دولة ثيوقراطية. ورئيسها الخليفة أو الإمام ليس معصوماً بل هو بشر يصيب ويخطئ. والإسلام يرفض الحصانة للحكام وممثلي الشعب كما يقرها النظام الديمقراطي. فالخليفة أو أي حاكم في الدولة أو أي نائب يحاكم من قبل محكمة المظالم فوراً. والدولة النموذجية هي التي تكون على منهاج النبوة أي خلافة راشدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي».
وقد هاجم الإسلام مفهوم الدولة الدينية عند الغرب التي يشرع فيها رجال الدين. فجاءت الآيات تهاجمهم قائلة:] اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [ ووصفت هؤلاء المشرعين بالكذابين فقالت: ] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ وهددهم الله الحاكم على عباده بعذاب منه لفعلهم ذلك مقابل عرض دنيوي فقال:] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا[ وغير ذلك من الآيات العديدة التي تهاجم المشرعين من رجال الدين. كذلك هاجم الإسلام الدولة المدنية التي يصبح فيها زمرة من الناس مشرعين فقال تعإلى: ]قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [ وقال: ]إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [ وقال:] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا[فالذين يزعمون أنهم مؤمنون أو مسلمون ومن ثم يرفضون حكم الله ويريدون حكم البشر وهو حكم الطاغوت وصفهم الله العالم بخفاياهم بأنهم منافقون وليسوا بمؤمنين، وقد أضلهم الشيطان ضلالاً بعيداً. فالديمقراطية التي تجعل البشر مشرعين هي طاغوت، والدولة المدنية القائمة على ذلك هي أيضاً طاغوت،أي هما استبداد وديكتاتورية. ووصف الذين لا يحكمون بما أنزل الله بالكفرة والظلمة والفسقة. فالحكم بغير ما أنزل الله هو الظلم بعينه وهو الاستبداد. وفَرَضَ إقامة الدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله في العديد من الآيات، كما أن كثيراً من الأحكام التي تتضمنه الآيات وتطلب من المسلمين تطبيقها لا يمكن تطبيقها من قبل الأفراد، بل تقتضي وجود دولة لتطبيقها. بجانب ذلك هناك كمّ هائل من الأحاديث التي تتعلق بالدولة الإسلامية منها قولية ومنها فعلية، وإلى جانب ذلك كله إجماع الصحابة واستمرارهم بالفعل على إقامتها وتقويتها. والأمة كلها بعلمائها وبعامتها وبحكامها كلهم اتبعوا ذلك على مدى ثلاثة عشر قرناً وحافظوا عليه وطبقوه؛ لأنهم أدركوا أن ذلك من صلب دينهم، بل إن ذلك تاج الفروض، فمن دونه لا يمكن أن تقام الفروض الأخرى.
فالدولة الإسلامية فيها سلطة واحدة ترعى شؤون الناس ومصالحهم بشرع الله خالقهم. فكانت السيادة للشرع وليس للأمة ولا للخليفة، ولكن السلطان للأمة تمنح الشخص الذي تنتخبه خليفة السلطة ليرعى شؤونها ومصالحها حسب أحكام الشرع. فعندئذ لا يكون الخليفة مستبداً. وهو وإن كان هو على رأس السلطة ويملك كامل الصلاحيات، إلا أن للدولة أجهزة عديدة من معاوني تفويض يعاونون الخليفة وينوبون عنه، ومعاوني تنفيذ، وولاة وعمال، وجيش، وأمن داخلي، وخارجية، وصناعة، وقضاء ومنهم قاضي المظالم، وهناك جهاز إداري، وبيت مال، وإعلام، ومجلس أمة يشاوره الخليفة ويحاسب الخليفة. فقاضي المظالم ينظر في الدعاوى المرفوعة ضد الخليفة وغيره من الحكام في الدولة، فليس لأحد منهم حصانة، وينظر في شرعية القوانين. ولكنه ليس سلطة منفصلة وإنما يعين ويعزل من قبل الخليفة، ولكن حين النظر في الدعاوى لا يجوز للخليفة أن يعزله. ومجلس الأمة ينتخب من قبل الأمة لينوب عنها في الشورى والمحاسبة، فليس له حق التشريع. ولذلك كانت الدولة الإسلامية بشرية ينتخب رئيسها من قبل البشر، وهو ليس معصوماً وليست له الحصانة، وليس له حق التشريع، وإنما هو يتبنى الأحكام الشرعية فتصبح قوانين نافذة ظاهراً وباطناً يلزم الناس باتباعها. فالأمة قادرة على محاكمة الخليفة أمام محكمة المظالم، وقادرة على عزله بواسطتها عند مخالفته للأحكام الشرعية التي تستوجب العزل، فالسلطان في الدولة الإسلامية للأمة أي للبشر ولكن السيادة فيها للشرع. فالكل حاكم ومحكوم خاضع للشرع. لأنهم كلهم مخلوقون؛ فلا معصومية ولا حصانة لأي أحد منهم، وكلهم سواسية كأسنان المشط أمام سيادة الشرع.
الجزء الثالث
وبعد أن بحثنا موضوع فصل السلطات بشكل واقعي مجرد لنناقش فيه أصحاب الفكر العلماني والديمقراطي والمنادين بالدولة المدنية وفصل السلطات، وبعد أن تعرضنا في الجزء الثاني إلى واقع الدولة الإسلامية، نريد في هذا الجزء الثالث أن نتناول مسألة ليست قليلة الأهمية، ألا وهي ما نلاحظه على المفكرين والمشرعين الغربيين قديماً وحديثاً وهم يتناولون موضوع نظام الحكم، حيث نراهم لا يلتفتون إلى نظام الحكم في الإسلام قطعاً. فنراهم يتجاهلونه تجاهلاً تاماً حتى يظن البعض أنه لا يوجد نظام حكم في الإسلام، فلا يقومون بدراسته وبحثه بصورة مجردة. وما يقوم به المستشرقون لا يعد دراسة ولا بحثاً، وإنما يقومون بكتابات مغرضة خدمة للحروب الاستعمارية التي يشنها الغرب المستعمر على الإسلام والمسلمين، وقد أسس الغرب هذا معاهد الاستشراق على أثر هزيمته في الحروب الصليبية بقصد محاربة الإسلام فكرياً. مع العلم أن الدولة الإسلامية كانت أعظم دولة في العالم على مدى قرون عديدة، وكانت تغزوهم في عقر دارهم وتفتح بلدانهم، وقد عمرت ثلاثة عشر قرناً. وسبب تجاهلهم لنظام الحكم في الإسلام وهم يشاهدون وجوده ماثلاً أمامهم ويحسون بعدله ونجاحه نابع من أمرين رئيسيين:
أولهما: إنهم كانوا يعتبرون الإسلام عدواً لهم فاتخذوه عدواً حقاً، فكانت مواقفهم تجاهه مواقف عدائية؛ ولذلك لم يلتفتوا إلى نظام الحكم في الإسلام، ولم يكلفوا أنفسهم بالبحث فيه ولو على سبيل أخذ المعلومات السابقة أو على سبيل حب الاطلاع. وقد أدركوا أن الإسلام يخالف وجهة نظرهم مخالفة تامة، ويتناقض مع حضارتهم تناقضاً تاماً، فلا يوجد وجه شبه بين الإسلام وبين ما هم عليه. ومثل ذلك لم يدركه كثير من المسلمين في هذا العصر؛ بأن وجهة نظر الغرب هي على النقيض من وجهة نظرهم، وحضارته وثقافته تتناقض مع حضارتهم وثقافتهم تناقضاً تاماً؛ وذلك حتى يكونوا محصنين ضد ما يأتيهم من الغرب ولا يلتفتوا إلى نظمه وتشريعاته، سواء نظام الحكم أم غيره من النظم، كما فعل المسلمون الأوائل الذين لم يلتفتوا إلى نظم الحكم لدى الأمم الأخرى ولا إلى تشريعاتهم ولم يترجموها. مع العلم أنهم ترجموا علومهم ليستفيدوا منها؛ لأنهم أدركوا أنها ليست لها علاقة بوجهة النظر عن الحياة، وليست لها علاقة بالحضارة والثقافة. فالعلم عالمي لا يستند إلى عقيدة معينة، تماماً كما أدرك ذلك الغربيون بأن العلم عالمي، فأخذوا العلوم من المسلمين وبنوا عليها وطوروها وتقدموا على أساسها، بل تبنوا طريقة البحث العلمي التي اكتشفها المسلمون. وقد ترجم المسلمون فلسفات الآخرين للرد على قضايا فكرية تمر في فلسفاتهم، وقد أثيرت أمام المسلمين، فاضطر المسلمون لدراستها للرد عليها وإعطاء رأي الإسلام فيها، ولكنهم لم يترجموا نظم حكم تلك الأمم ولا تشريعاتهم.
وثانيهما: اتخاذ الغربيين فكرة فصل الدين عن الحياة عقيدة لهم، وقاعدة فكرية يبنون عليها كافة أفكارهم، فرفضوا كل دين وكل فكر يمتُّ إلى الدين كردة فعل على ما كان عندهم من واقع الدولة الدينية، فقاسوا الإسلام على النصرانية. فلم يعنوا أنفسهم ببحث نظام الحكم في الإسلام ليكتشفوا أنه بعيد عن الدولة الدينية في مفهومهم والتي تعني الاستبداد الديني. فاتجهوا نحو الفكر السياسي والفلسفي لدى اليونانيين القدامى لأنه فكر مادي بحت بعيد كل البعد عن الدين، فاستقوا من هذا الفكر معلوماتهم الأولية فيما يتعلق بالفكر وبالسياسة وبنظام الحكم مثل فكرة فصل السلطات والديمقراطية والجمهورية وغيرها الكثير من الأفكار، ولكن قاموا بتطويرها حتى تلائم مبدئهم وواقعهم.
بينما نرى المسلمين منذ بدء الغزو الغربي لهم فكرياً وسياسياً وعسكرياً واحتلاله لبلادهم يأخذون كل شيء من الغرب. وكل ذلك بسبب الضعف الفكري الذي طرأ على أذهان المسلمين من جراء عوامل عديدة، وقد بهرهم تقدم الغرب مادياً فتأثروا بفكره وبنظمه. فلم يلتزموا بوجهة النظر التي لديهم، ولم يعودوا يدركون مدى التناقض بين وجهة نظرهم ووجهة نظر الغرب؛ ولذلك لم يتخذوه عدواً فكرياً وسياسياً وحضارياً كما اتخذوه عدواً عسكرياً محتلاً. فرفضوا احتلاله لبلادهم وقاوموه ولكنهم لم يرفضوا فكره ونظمه وثقافته وحضارته. فالغشاوات التي غشت على فهم المسلمين لإسلامهم جعلهم يسيئون فهمه ويتأثرون بالفكر الغربي، ولم يدركوا سر تقدم الغرب المادي وسر تأخرهم المادي، مع العلم أن الغرب كان متأخراً عنهم وكانوا هم متقدمين عليه، بل لم يكن عند الغربيين أي تقدم، وهم يسمون عصورهم بالعصور الوسطى المظلمة والتي كانت مضيئة لدى المسلمين. فعندما صار الحال لدى المسلمين على هذا الشكل خضعوا للغرب ولفكره ولنظمه، فأخذوا النظام الجمهوري والديمقراطي، ونادوا بالدولة المدنية وبالحريات العامة من دون إدراك لديهم أن ذلك كله يخالف الإسلام ونظمه. بل تجاوز البعض الحد بأن قال بأن ما عند الغرب يوافق الإسلام، أو أنه في الأصل هو فكرنا، وأنه بضاعتنا رُدَّت الينا. مع العلم أن الغرب يسخر من هذه الأقوال ومن أصحابها، ويتعجب كيف أصبح هؤلاء أسرى لفكره الغربي ومنضبعين به، بل هو يتعجب كيف نجح في ذلك في أمة عظيمة لديها دولة عظمى سادت العالم مدة لم تسدها أية دولة في العالم عبر التاريخ وتؤمن بمبدئها وتتمسك به؟! فيُعدُّ ذلك من انتصاراته الكبرى على الإسلام، فراح يعتبره فكراً رجعياً ليس له علاقة بالسياسة وبالفكر التنويري، بل صوَّره على أنه يحجر على العقول، فيسخر منه ويستهزئ به بأشكال متعددة، ويقيسه على النصرانية، بل إنه يحترم النصرانية كدين روحي أكثر مما يحترم الإسلام، وبعض الدول الغربية لا تعترف به رسمياً كأحد الأديان الموجودة في بلادها، وكل ذلك بسبب الحقد الذي يُكنُّه له وقد اتخذه عدواً له، واعتبر الغربيون أن التاريخ انتهى بانتصار الرأسمالية بكل أفكارها ونظمها، ولا يوجد بعدها مبدأ سيسود في الأرض.
فقبول حركات تعتبر إسلامية بأفكار الرأسمالية من ديمقراطية ودولة مدنية وحريات عامة وبفكرة فصل السلطات وغير ذلك من الأفكار والنظم السياسية الغربية، وبعد قيام الثورات التي تفجرت في وجه هذه الأنظمة التي تستند إلى الفكر الغربي الرأسمالي، لهو دليل على أن التأثر بالغرب وبوجهة نظره وبأفكاره ونظمه ما زال موجوداً لدى الكثير من الناس خاصتهم وعامتهم. فلو لم يكن ذاك التأثر موجوداً لرفضوا تلك الأفكار والنظم جملة وتفصيلاً، وقد سببت لهم المآسي الكبيرة وعمتهم البلوى من جرائها منذ أن أدخلها الغرب عليهم، ولو لم يكن الأمر كذلك لأصروا على إقامة نظام الإسلام كما أقامه رسولهم صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء الراشدون المهديون. بالرغم من أنه قد تولدت لديهم قناعة بأن الإسلام هو الحل ولكن لعدم بلورتهم لأفكاره وعدم وعيهم التام عليها وخاصة الأفكار التي تتعلق بالحكم وبالسياسة والاقتصاد بجانب ضعف الإرادة لدى القائمين على تلك الحركات، فلا يجدون لديهم القدرة على التحدي وعلى تطبيق الإسلام والإصرار عليه مهما بلغت التضحيات، ولعدم وعيهم السياسي التام حيث يقعون في فخاخ الدول الغربية ويتخوفون من أنها سوف لا تسمح لهم بتطبيق الإسلام وسوف تجهز على بلادهم إذا ما فعلوا ذلك، ويشعرون بأنه ليست لديهم القدرة على ردهم والتصدي لهم، كل ذلك عرقل إقامة نظام الحكم في الإسلام حتى الآن. مع العلم أن الأفكار والنظم الغربية التي ينادون بتطبيقها بعد الثورة هي بالأصل قائمة في بلادهم ومطبقة عليهم منذ سقوط الخلافة. وقد شاهدوا بل عايشوا فساد تلك الأفكار والنظم الغربية واصطلوا بنارها قرناً من الزمان، فلحقهم الظلم والجور وأصابهم الفقر بسببها. فكيف يقبلون بها مرة ثانية بعدما ثاروا عليها؟ فيظهر أن تلميع الغرب لها من جديد، وإغراء البعض بالمناصب، والاستعجال بقطف شيء ما من ثمار الثورة من إعادة الكرامة وتنفس رائحة الانعتاق من الظلم والاستبداد جعل البعض يغترُّ بذلك فيقبل بإعادة النظام السابق من جديد بصورة ملمعة وبوجوه جديدة. كما حصل تماماً بعدما انعتق الناس من نير المستعمر وخرجت جيوشه من بلادهم فأخذوا نظمه التي كان يطبقها عليهم أثناء استعماره المباشر لهم! فلم يتغير حالهم بعد خروج المستعمر بل أصبح المستعمر يديرهم بواسطة هذه الأنظمة التي أقامها. فالدساتير التي وضعها المستعمر أثناء الاستعمار بقيت بعد خروجه، والآن يعملون على إبقائها بعد الثورة بعد إجراء عمليات تجميلية عليها.
ومن جانب آخر فان الشعوب الغربية قد سئمت أنظمتها الرأسمالية وذاقت الويلات منها، وهي تعيش في ضنك من العيش وتبحث عن بديل، وقد بدأت تتململ من جديد. فكان الأحرى بالمسلمين الثائرين أن يفكروا في هذه الظاهرة ويعملوا على أن يكونوا محرِّرين ومخلِّصين لتلك الشعوب بعدما تأثرت هذه الشعوب بثوراتهم فارادت تقليدها، ولكنها لم تنجح حتى الآن. وقد قامت الشعوب الغربية ضد نظمها سابقاً فتطلعت إلى الاشتراكية كمخلِّص لها، وقد حاربت الدول الغربية الفكر الاشتراكي بكل الوسائل، ومن أخبثها تبنيها لتشريعات اشتراكية، والسماح بتأسيس أحزاب اشتراكية لا تتعارض مع المبدأ الرأسمالي، وتصل إلى الحكم وتصدر تشريعات اشتراكية تعتبر ترقيعات في ظل المبدأ الرأسمالي، وقد عبر عنها باشتراكية الدولة، مع العلم أن الاشتراكية المستندة إلى الفكر الماركسي وصلت إلى الحكم في روسيا والصين وغيرهما من البلدان التي اتبعتهما، ولكنها فشلت وسقطت فلم يعد لها وجود سوى اسمها والأحزاب الحاملة لاسمها. فالغربيون حتى الآن لا يتطلعون إلى الإسلام كنظام للحياة يمكن أن يأخذوا به ليحل محل المبدأ الرأسمالي مع أنهم في حاجة ماسة إلى نظام حياة ينقذهم. فما زال الغرب ينظر إلى الإسلام على أنه مجرد دين كهنوتي، وليس على اعتبار أنه دين فيه دولة ونظام حياة كما هي حقيقته. وأغلب الحركات الإسلامية من أحزاب وجمعيات وهيئات ومؤسسات لا تعرض الإسلام على الغرب بهذه الصورة، بل تتوجس من عرضه عليه بهذه الصورة، ثم هي متأثرة بالفكر الغربي فلا تستطيع أن تجيب على كثير من الأسئلة، بل تظهر نفسها بأنها تقبل بأفكار الغرب، ولا تعرض إلا الجانب الروحي والخلقي من الإسلام. وبجانب ذلك فانه لا توجد دولة في العالم الإسلامي تكون نموذجاً لتطبيقه ولحمله للعالم، وتلفت نظر الغربيين بشكل جاد إليه، أي إلى الإسلام، على اعتباره نظاماً شاملاً للحياة. بل بقيت النظرة العدائية السابقة لدى الغربيين عن الإسلام مسيطرة على أذهانهم. وقد التفتت الشعوب الغربية إلى الثورات العربية وتابعها البعض باهتمام، ولكن وسائل إعلامهم التي تملكها الدولة ويملكها أصحاب رؤوس الأموال الذين يملكون المليارات ويحرمون شعوبهم منها عملت على عدم إبراز تلك الثورات أو تلميعها، ولم تعمل على التركيز عليها خوفاً من أن تنتقل العدوى إلى بلادهم وشعوبهم، ولم يقم مفكرون منهم بدراستها وعرضها عليهم، إلا أن بعض أخبارها لامست أسماعهم فحاولوا تقليدها وقاموا ببعض من مظاهرها كاحتجاجات وول ستريت وغيرها في أمريكا وأوروبا، ولكنها لم تنضج، والثورات العربية لم تطرح بديلاً حتى تلفت نظر الغربيين، بل جرى التحايل عليها بإعادة النظام القائم بثوب جديد، وهو النظام الذي ثاروا عليه وأرادوا إسقاطه، وهو النظام الغربي الرأسمالي نفسه الذي أقامه المستعمر منذ استعماره لبلاد المسلمين وهدمه لنظام حكمهم نظام الخلافة. فقبل من ركبوا على أكتاف الثائرين بهذا النظام على شرط أن يتوظفوا فيه رؤساء ووزراء ونواباً، فأقسموا الأيمان المغلظة على أن يكونوا مخلصين في المحافظة على النظام القديم الفاشل، وأشهدوا الله على الإخلاص لنظام الكفر من جهمورية وديمقراطية ودولة مدنية وفصل سلطات. فكيف يُشهدون الله على أن يخلصوا لنظام ما أنزل الله به من سلطان، يخالف بل يعادي النظام الذي أنزله الله، ويقسموا الأيمان المغلظة على ذلك؟! فالثورات العربية حتى الآن لم تنجح في الإتيان بنظام بديل جديد حتى تلفت نظر الشعوب الغربية التي تبحث عن نظام بديل. وأكثر ما سيجري من تغيير هو وضع بعض المواد التي تظهر أن لها علاقة بالإسلام في الدساتير، وأن يجري سن بعض القوانين باعتبارها أنها غير مخالفة للشريعة الإسلامية، وأن تصل بعض الأحزاب التي تعتبر إسلامية إلى الحكم في ظل النظام الرأسمالي القائم، فتنطلي هذه الحيلة على الشعوب الإسلامية كما فعل الغربيون تماماً مع الاشتراكية والاشتراكيين وتحايلوا عليهم. وبهذا الشكل تظهر ترقيعات إسلامية في الثوب الرأسمالي كما ظهرت الترقيعات الاشتراكية في الثوب الرأسمالي. فالدول الغربية تتقن فن التحايل على شعوبها وعلى شعوب العالم كله، وهذا هو سر بقاء النظام الرأسمالي حتى الآن، وإلا كان من الطبيعي أن يسقط من أول أيامه في بداية القرن التاسع عشر عند ظهور وحشيته وجشعه وظلمه، خاصة بعد أن بدأت الأفكار الاشتراكية بالحلول محله بعد مرور فترة قصيرة على البدء بتطبيقه. وقد تعرض للانهيار عدة مرات ولم ينقذه سوى مثل هذا التحايل، وهو قبول ترقيعات من غير جنسه في لباسه، ومن ثم يعمل مع الزمن على إزالتها إذا رأى أنها لم تعد صالحة له.
ولذلك كان أخطر شيء على الإسلام أن تؤخذ منه أفكار وتشريعات ويعمل على تطبيقها في ظل النظام الرأسمالي القائم لتكون ترقيعات فيه تديم عمر النظام الرأسمالي، مع جعل المسلمين يوافقون على بقائه فوق رؤوسهم، ويحافظون عليه بجعلهم يتبنون أفكاره من دولة مدنية ديمقراطية أوعلمانية، ومن فكرة فصل السلطات وغير ذلك من الأفكار والنظم، وعلى الأخص منها تلك التي تتعلق بالحكم وبالسياسة والاقتصاد. فاذا لم تضرب تلك الأفكار كلها وتنقض نقضاً تاماً وأن يميز بينها وبين الإسلام، وما لم يُدعَ إلى تطبيق الإسلام تطبيقاً كاملاً وتاماً في جميع نواحي الحياة مستنداً إلى عقيدته ووجهة نظره في الحياة وبعيداً عن النظم الاخرى فلا يمكن أن يكتب النجاح للعاملين على تطبيقه، ولن يكون مثالاً للشعوب الأخرى التي تتعطش لنظام جديد ينقذها مما هي فيه، ويحررها من ربقة النظام الرأسمالي الاستبدادي. وعلى الله قصد السبيل.
2013-01-01