مجلة الوعي: مذكرات السجن وشرف الصحبة مع أمير حزب التحرير
2016/08/27م
مواضيع متميزة
10,789 زيارة
عدد تشرين الثاني/نوفمبر 2013م
مذكرات السجن وشرف الصحبة
مع أمير حزب التحرير العالم الجليل الشيخ عطاء بن خليل أبو الرشتة
مجلة الوعي العدد 324
(الجزء الأول)
حصلت الوعي على جزء من مذكرات الأخ الكريم «سالم العمرو» وهي تنشر على صفحاتها بعض هذه المذكرات، فإن فيها العبرة إن شاء الله لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وإننا نتقدم بالشكر والتقدير للأخ سالم على هذه المذكرات المعبرة والمؤثرة إن شاء الله تعالى، ونسأل الله سبحانه أن يحقق ما جاء في خواتيم مذكراته، وأن يحفظه من كل سوء ويقيه من كل شر…
مذكّـرات السـجن وشــرفُ الصُّحـبَةِ (1)
من سجن سواقة الصحراوي كانت البداية، يومها لم أكن أعرف عن حزب التحرير إلاَّ ما يجعلني أسخر منهم وأحقد عليهم. وسامح الله من كان السبب!!
في صبيحة ذلك اليوم جاءت الأخبار إلى السجن بأنَّ معتقلاً يُدعى (عطا أبو الرشتة) سيتم نقله من سجن الجويدة إلى سجن سواقة الصحراوي. الأمرُ لا يعنينا كثيراً بقدر ما كان يعني شباب حزب التحرير الموجودين في الغرفة المقابلة لمهجعنا. فقد رأيتُ وجوههم ضاحكة مستبشرة بمجرّد سماع قدومه. فعرفت منهم أنّه (الناطق الرسمي باسم حزب التحرير) وصلت الأخبار إلى غرفتنا، فمن منّا يعرفُ ذلك الرجل؟ وإذا بصديقي (أحمد الصعوب ابن قضيتي في مقاومة يهود) يقول لي:
كيف يا رجل، هذا من القلّة التي كتبت في الاقتصاد الإسلامي!! طبعاً أحمد من الذين يقرؤون الصحف بنهم بحيث كنّا نعلّق عليه أننا نشتري الجريدة بعشرين قرشاً وهو يقرأ بدينار!! حتى الإعلانات الصغيرة لا تفوته. كنت وقتها في غرفة ما يُسمّى بالأفغان الأردنيين. قضية متشابكة ومعقّدة ظُلم فيها الكثير ممن لا ذنب لهم، فكانت المشاكل الداخليّة تحدثُ بين الحين والآخر ونحن يُطلق علينا وقتها (قضيّة وادي الموجب) فكانت قضيّتنا باختصار هي القيام بعمليّة استشهاديّة ضد السياح اليهود القادمين إلى الأردن، والعملية كانت في الذكرى الأولى لمجزرة الحرم الإبراهيمي في 1995/2/24م، إلاَّ أنَّ العمليّة لم تكلَّل بالنجاح، وحُكمتُ عليها بالإعدام، وتم تخفيض الحكم إلى المؤبد مع الأشغال الشاقّة، فكانت عقليّتي أقرب إلى السلفيّة الجهاديّة آنذاك؛ لذلك كان هناك بون شاسع في التفكير بيني وبين حزب التحرير. وأعترفُ أنّني كنتُ وقتها مراهقاً فكريّاً. لا يعنيني الفكر ولا أعرف ما معناه، فكانت المصطلحات التي نسمعها من شباب الحزب لا نعرفها ولا نلقي لها بالاً لدرجة أنَّنا نسخر من كلمة الفكر عندما كنَّا نرى أبا ياسين وأتباعه يتنقّلون بين الغرف لأداء واجب لأحد الإخوة، فكان أحد الأصدقاء يقول بشكل ساخر: (هذا كبيرهم الذي علَّمهم الفكر) ونضحك بكلِّ سذاجة!!!
في الوقت الذي كنّا فيه منشغلين بمشاكلنا الداخليّة ودعاية العفو العام التي نسمعها بين الحين والآخر على أمل الخروج من السجن كان شباب حزب التحرير ينهلون من علم أبي ياسين، فهم كما وصفهم الكاتب عبدالله أبو رمّان ـ عندما سُجن على قضيّة الخبز ـ يؤلّفون في كلِّ أسبوع كتاباً. وكما نقل واقعهم باختصار الأستاذ (حمزة العنيد) على شبك الزيارة، فكان يقول لأهله بأنَّ عندنا (أبو ياسين) يعطينا بين كلِّ درسٍ ودرسٍ درساً، فدعاية العفو العام لا تشغلهم، يؤمنون بأنَّ السجن قضاء، ولا يوجد مشاكل تُذكر بين الشباب إلاَّ ما ندر، فكان الشيخ عطا يشغلهم بالبحث والكتابة ويعلّمهم العربيّة والأصول. ففي الوقت الذي نذهبُ فيه للرياضة يذهب الكثير منهم إلى مكتبة السجن ليعيشوا في ظلال التفاسير ويستعيروها لينجزوا ما طلبه منهم من واجبات.
مذكّـرات السـجن وشــرفُ الصُّحـبَةِ (2)
أحياناً نتعرّض لحالة من عدم الاستقرار نتيجة معارك جانبيّة لسنا بحاجة لها مع إدارة السجن، وهذا يكون عادة بسبب الأخوة في التيار السلفي الجهادي، «وكانت الدول تسمي قضيتهم قضية بيعة الإمام»، فنظّرتُهم للشرطة ونعتهم بالطّواغيت وما يترتّبُ عليه من أحكام هو ما جعلنا نعيش حالة من الإرباك داخل السجن من معارك كرٍّ وفر لا ناقة لنا بها ولا جمل. فتقوم إدارة السجن بقمعنا وإلقاء القنابل المسيلة للدموع لتفريقنا مما جعل إدارة السجن تفكّر بنقلنا إلى غرف صغيرة متفرّقة موزّعة على طابقين، وبهذا استطاعت إدارة السجن التخفيف من الكثير من المشاكل بهذه الخطوة. آنذاك كان الواقع كما وصفه الكاتب والصحفي عبدالله أبو رمّان بمقالة له عندما خرج من السجن تحت عنوان (وفي السجون أُمراء) فقد كنتُ أميراً أقوم بخدمة مجموعة من الشباب من مختلف التيّارات: أفغان أردنيين، وقضايا متفرّقة، وحزب تحرير «حيث كان من الحزب بقيّة في الغرفة التي أسكن منهم طارق الأحمر»، وكذلك كان المهندس ليث شبيلات معتقلاً… وكان أبو مصعب الزرقاوي أميراً على مجموعته. والأخ وليد حجازي أميراً على شباب الحزب في الغرفة بمن فيهم (أبو ياسين) حيث كان أبو ياسين يرفض أن يكون أميراً، وتعمّد أن يصنع من الشباب قادة داخل المعتقل مع توجيههم بعض الشيء.
في صلاة الجمعة كنّا نصلي في الغرف حيثُ كنّا نسمعُ الخطب مرّة من الشيخ عطا ومرة من أبي محمّد المقدسي، وهذا كان قبل أن نتوزّع إلى الغرف الصغيرة، فكانت خطبة أبي ياسين لافتة للانتباه. حيث أثّرت ببعض السلفيين مما جعل قادة الفكر السلفي يتنبّهون لهذا الأمر. فكان لابد من افتعال بعض المشاكل من أجل القطيعة، وبالفعل هذا ما كان.
كان أبو ياسين له درس راتبٌ في غرفتنا في أصول الفقه يحضره بعض الشباب في الغرفة، ودرس آخر للأخ شبيطة في اللغة العربيّة، وهو أيضاً من شباب حزب التحرير، إلاَّ أنّنا لم نكن نعير هذه الدروس اهتماماً كبيراً مع كلّ أسف.
كان أبو ياسين يغتنم أيَّ فرصة من شأنها التواصل مع الغرف الأخرى، سواء أكان ذلك في حالة مرض أم عزاء، فلم يجد اليأسُ طريقاً إلى قلبه، وكأنّي به يوصي أصحابه بوصيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلْ من قطعك، واعفُ عمّن ظلمك» فقد كان يترفّع عن بعض الإساءات التي توجّه إليه من بعض التيارات ولا يقابلها إلاَّ بالإحسان ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
كنّا وقتها نسخر من شباب الحزب وبنفس الوقت كنّا نحبّهم. حيث كان أحد الشباب يداعبُهم بقوله: (أنتم يا شباب حزب التحرير عندما تدخلون إلى القهوة تقولون للقرصون جيب لي واحد شاي واثنين أناقشهم) ولقد رأيت أبا ياسين يضحك على هذه العبارة الصادرة من صديقي عيد الجهالين من قضيّة الأفغان الأردنيين حيث فقد قدميه نتيجة إقدامه على تفجير سينما ـ شافاه اللهُ وعافاه ـ .وقد كان الدكتور علي الفقير (قضيّة ألغام عجلون) يجلس في حلقة أبي ياسين ويتعلّم الأصول حيث كان يقولُ لنا عندما نخلو بأنفسنا: يا إخوان، إن كان هناك شخصٌ يستحقُّ الاحترام فهو أبو ياسين، من باب إنصاف الرجل.
بعد سنتين من السجن بدأت معالم الطريق تتضحُ لي شيئاً فشيئاً. وأصبحتُ أنظر للأمور بشكلٍ موضوعي. خاصّة وأنا أرى المشاكل الداخليّة تزداد لأتفه الأسباب مما يجعلني لا أغتنم من الوقت شيئاً، فكتبتُ طلباً لإدارة السجن بأن أنقل إلى الطابق الثاني في الغرفة المتواجد فيها شباب حزب التحرير، بعدما تمّت الموافقة على الطلب جاء الرفض بعدها بساعات من قبل الإدارة!! فلم أمكثُ إلاَّ ليلة واحدة وعدتُ من حيثُ أتيت ويا فرحة ما تمّت.
بين فترة وأخرى كنّا نودّع شباب حزب التحرير المفرج عنهم، وكانت العادة أن نحتفل بخروجهم، فكنتُ ليلة الإفراج عن بعضهم أدبّر حالي مع الحارس وأنام في غرفتهم من أجل تقديم بعض الأناشيد احتفاء بمناسبة الإفراج.
ثمَّ جاء اليوم الذي أكرمني اللهُ به لأجتمع بأمير حزب التحرير وشبابه بزنزانة واحدة حيثُ تمَّ نقلنا إلى سجن السلط المقسّم إلى زنازين لا تراها الشمس، وهي عبارة عنّ أسرّة إسمنتيّة من طابقين بمعنى أنّ كل زنزانة فيها أربعة أسرّة مكونة من طابقين، وحاصل العدد (8) في كل غرفة. كان سجنُ السلط مقارنة مع سجن سواقة محنة، فتغيّر علينا الجو وضاق علينا المكان وكثرت الرطوبة وكثرت المشاكل، ولا أبالغ إن قلت بأنّني الأكثر استفادة بسبب هذا النقل مع العلم أنّهم أبعدوني عن أهلي ضعف المسافة عن سجن سواقة حيث أسكن في الكرك.
وبفضل الله وكرمه انقلبت المحنة إلى منحة في السجن.
مذكّـرات السـجن وشــرفُ الصُّحـبَةِ (3)
تختلف الأجواء من سجن لآخر، فسجن السلط رغم صغره وقلّة خدماته إلاَّ أننا بدأنا نألف المكان، فالسجن ليس بجدرانه، فقد يقلب الإنسانُ محنة السجن إلى منحة بإرادته رغم كل المعوقات.
يومها كان (أبو ياسين) على وشك أن يودّع معظم شباب حزب التحرير داخل السجن، فلم يبق من الشباب آنذاك إلاَّ القلة وسيفرج عنهم قريباً بمجرّد انتهاء مدّة محكوميّتهم، أذكرُ منهم وليد حجازي وصهيب جعارة وعبدالرحيم أبو علبة. وهذا ما كان بالفعل، فلم تمض أسابيع إلاَّ وبقية شباب الحزب خارج أسواره يتنفّسون عبق الحرّيّة، ولم يبقَ من الشباب في الغرفة إلاَّ (أبو ياسين) .كم هو مؤلم ومحزن أن يُترك الإنسان وحده دون رفيق في الغرفة، وكأنّي به يردد قول الشاعر:
ذهبَ الذينَ أُحبّهم —- وبقيتُ مثل السيف فرداً
هنا قررت النقل إلى غرفة شباب الحزب، خاصّة وأنَّ الأمر أصبح ميسوراً، وتذكّرتُ قول الشاعر:
إذا هبّت رياحك فاغتنمها — فإنَّ لكل خافقة سكونا.
الأسباب تبدو كثيرة لقراري بالنقل، الاستقرار النفسي في غرفة أبي ياسين. خدمة الرجل بعد أن اشتعل رأسه شيباً. فلا بد من خدمته (فمن إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وصاحب القرآن). وسعة الصدر التي كان يتميّز بها أبو ياسين، فقد رأيت أحد الشباب يوماً قد أساء إليه كثيراً ولكنّه ترفّع عن ذلك.
بعدها أصبحت أراقب الرجل عن كثب. كيف يأكل؟ كيف يشرب؟ كيف يتوضأ؟ كيف يتعبّد؟ كيف يعامل الناس؟ فرأيت الإسلام واقعاً في تلك الزنازنة. وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء. كان أبو ياسين محطّ احترام الجميع، لا يلاقيك إلاَّ بابتسامة. كان عندما يتوضأ لا يسرف في الماء، تجده يغلق الحنفيّة مرّات وهو يتوضأ متنقلاً من اليد إلى الوجه، وهكذا فكنت أقول: يا أبا ياسين، أنت خائف على ماء السجن أن ينفد؟ فكان يقول هذه ملكيّة عامة، ويجب المحافظة عليها وعدم الإسراف فيها!!
كان يلقي السلام على الجميع إلاَّ أنَّ بعض التيارات لا تردَّ السلام، فكان هذا الأمرُ يحزنه، وكان يقول لي: كيف العمل مع هكذا عقليات في حال إقامة الدولة؟ فيصمتُ قليلاً ثم يقول: لا حلَّ لهؤلاء عند قيام الخلافة إلاَّ أن يكونوا على جبهات القتال لقتال الأعداء.
لا يوجد في السجن إلاَّ تلفاز واحد للجميع، فالتلفاز مفتوح دائماً حيثُ إنه موجود في صالة الطعام، فكان أبو ياسين لا يذهب إلاَّ الساعة الثامنة لسماع نشرة الأخبار فقط وبعدها يرجع إلى زنزانته.
قال لي يوماً أحد الشباب، وهو من دار (الطحّان) وهو ليس من شباب الحزب سجن على قضيّة اقتناء سلاح (يا أخي كم أحترم هذا الرجل (عطا) فقد شاهدته أكثر من مرّة عند سماعه لنشرة الأخبار وخاصة عند سماع أخبار الجزائر المؤلمة يبكي وهو يشاهد القتل هناك فكبر في نظري أكثر وأكثر).
بحكم أنني ابن عشيرة معروفة في الكرك (العمرو) فكان بعض الضبّاط من أبناء الجنوب يستودُّ إليَّ، فكنا نذهب إلى ساحة التشميس على ظهر السجن المسيّج، فكان الحراس أحياناً يخرجون معنا. قال لي يوماً ضابطٌ من دار الشبطات من الطفيلة، كان قد أمضى فترة من خدمته في جهاز الأمن الوقائي قبل أن يتم نقله إلى السجون وبعد أن أصبح بيني وبينه شيء من الإلفة، قال لي: يا سالم، برأيك من هم الأخطر على النظام الأردني من جميع الموجودين؟ فكانت الإجابة سريعة عندي إنّهم بيعة الإمام «السلفية الجهادية» ثم ألغام عجلون، فضحك الرّجلُ قليلاً فقال: هؤلاء جميعهم لا يعجزوننا. ثم قال: انظر شايف الرجل ـ (ويعني عطا) الماشي هناك وحده ولا أحد يمشي معه ولا يعيره أحدٌ منكم أيّ اهتمام، قلت: نعم. قال هذا أخطر واحد فيكم على النظام الأردني.
عندها أدركت أنَّ الصورة ليست كالحقيقة، كان بعض الضباط يأتون خلسة إلى الزنزانة للجلوس مع أبي ياسين عندما يتأكدون من غياب الأمن الوقائي، بعدها ادركت أنَّ النصرة ممكنة، وأنَّ كثيراً من آل فرعون يكتم إيمانه.
كنتُ لا أميّز بين المبتدأ والخبر في النحو. فقال لي يوماً: لمَ لا تستغل وقتك وتتعلم اللغة العربيّة؟ فقلتُ له: يا رجل هذه المادة صعبة ولا أستطيع فهمها، إنسَ الموضوع. فقال لي: ما عليك إلاَّ أن تحضر معك مصحفاً ودفتراً وقلماً فقط، واترك الباقي عليّ، وإن شاء الله ستتعلم. فتحدّيته على أنّه سيبذل جهداً في غير مكانه، إلاَّ أنّه أصرّ على تعليمي اللغة العربيّة، كيف لا وهي لغة القرآن والمفتاح لفهمه وتدبّره واستنباط أحكامه.
وبالفعل أقنعت بعض الشباب من القضايا الأخرى بحضور درس اللغة العربيّة، وبدأنا على طريقة الكتاتيب القديمة، فبدأنا نميّز بين الاسم والفعل والحرف، وأنَّ الجملة هي كلامٌ مفيدٌ ذو معنى. فكانت معظم الأمثلة من القرآن وكذلك الواجبات. وخلاصة الموضوع في نهاية المطاف بعد مضي عدّة أسابيع هو اختبارٌ لم أكن يوماً من الأيام أحلم بالوصول إليه وهو أن أعرب سورة الأنفال إعراباً تامّاً… فجزاه الله عنّي خير الجزاء.
مذكّـرات السـجن وشــرفُ الصُّحـبَةِ (4)
لم يبقَ من الوقت الكثير، فبعدَ أسابيع قليلة يكون أبو ياسين قد أنهى مدّة محكوميّته ويخرج، ووقتها كان محكوماً عليه ثلاث سنين ونصف السنة، ومع فرحي لقرب خروجه ليكون بين أهله وأحبّته وحزبه الذي ينتظره بفارغ الصّبر حيثَ استجدَّ أمرٌ لم يكن في الحسبان وهو عملية نكث من قبل البعض، فلم أجده متأثّراً إلاَّ في تلك الفترة العصيبة، فكان أشدّ ما يؤلمه أنَّ بعض الأنفس المريضة قد تقوّلوا عليه بأنّه مع هذا الانشقاق عن قيادة الشيخ عبد القديم زلّوم رحمه الله تعالى، فكانت بعض الزيارات تأتي له بأخبار سيئة بهذا الشأن، فلم يجد ملجأ إلاَّ إلى الله في الثلثُ الأخير من الليل، فما أعظَمَهُ وهو يناجي ربّه! إلاَّ أنني كنتُ حزيناً لفراقه، فقد كان بمثابة الأب والأخ والصديق.
ومع هذا المصاب الجلل بالنسبة لهُ إلاَّ أنّهُ يحاول أن لا يُظهر هذا الأمر للآخرين، لم أكن يومها من شباب الحزب، جلستُ مع نفسي واستخرتُ اللهَ سبحانه بالدخول والعمل مع شباب حزب التحرير، بعدها تكلّمتُ معه بالموضوع بأن يسمح لي بأن أكون أحد شباب حزب التحرير فتهلّل وجهُ الرّجل، وعادت إليه الابتسامة من جديد، وكم كان حريصاً أن ينهي موضوعي بالدراسة في الحزب قبل أن يخرج، فلم يبقَ على خروجه إلا أسبوع تقريباً، إلاَّ أنني رفضت الأمر لصعوبة المنهاج ولعدم توفّر الكتب، فأخذ يدرّسني بعض الخطوط العريضة وبعض الأمور الإداريّة في الحزب كفكرة عامة؛ لذا أعتبر نفسي أنني ولدتُ من جديد سنة 1998م وذلك بشرف الانضمام لشباب حزب التحرير. فالفضلُ بعد الله سبحانه وتعالى لأبي ياسين حفظه الله.
كم كان معجباً بشخصيّة محمّد الفاتح رضي الله عنه! أذكرُ أنّهُ خلال دقيقتين رسم لي على الورقة خريطة العالم ليريني أين وصل القائد محمّد الفاتح بفتوحاته.
عندما أستأذنه بالذهاب إلى النوم كان يقول لي (نَوم العافية) وكم كنتُ أسمع منه عبارة (إلى غدٍ مشرقِ عزيزٍ بإذن الله) قبل أن يخلد إلى النوم ليودّعنا بهذا اليقين المفعم بالأمل إلى عزٍّ ونصرٍ وتمكين.
كان أبو ياسين شاعراً. فعادة يكتبُ بعض الأبيات لبعض الشباب الذين يكرمهم اللهُ بالخروج من السجن.
وكان له ديوان من الشعر يحتفظُ به، إلاَّ أنَّ هذا الديوان تم اعتقاله.
أذكر بعض الأبيات التي كان يرددها فمنها:
«في سبيل الله دنيانا تهون — نبذل الأرواح لا نخشى المنون»
وقصيدة كان يخاطب فيها شهر رمضان:
رمضان أهلاً ثم سهلاً
إن فيك الخير آت
فيك الرسول المصطفى
نزلت عليه البينات
وقد كتب بعض أبيات ليلة الإفراج عنه يداعب فيها بعض الشباب من التنظيمات الأخرى عندما أتوا لتهنئته بالإفراج، أذكر منها:
وأما الأحمد الصعب
ففي الآذان أشياء
يهز الرأس مبتسماً
وقد يتلوه إصغاء
فقد كان أحمد الصعوب حاد المزاج، وكان بحوزته راديو وسماعات أذن.
وكذلك عن عكرمة غرايبة من قضية ألغام عجلون فقد كان يتميز بطاقيّة على شكل قبّة، وكان يجمع بعض الشباب حوله ليدخن هيشي فكتب عنه:
وعكرمة وقُبته
وتدخين وأضواءُ
أعكرمُ قد كفى هيشاً
أصاب القوم إعياءُ
وقد كتب عنّي بعض الأبيات منها:
وحُبُّ الكلِّ سالِمُنا
فما في القلبِ بغضاء
قويٌّ في شكيمته
إذا مسته ضرّاء.
كنتُ أُحاول قدر الإمكان أن أخفّف على الشباب ضيق السجن بإدخال السرور عليهم. أذكر أنّه حصلت مشاجرة بين (أبو محمد المقدسي) وشاب آخر من التنظيمات المسلّحة (عصمت شكري) فما كان من الأول إلاَّ أن كبَّ سلّة الزبالة على رأس الآخر، فذهبنا بعد أيام لزيارة عصمت لعيادته فقد كان مريضاً، فوجدناه حالقاً رأسه على الصفر، فكنت أداعبُ عصمت أمام أبي ياسين فقلت لهُ: هذه المرّة سينبتُ شعرك سريعاً، فقال لماذا؟ قلت: لأنّه (مزبّل) فقد ضحكنا على هذه المداعبة كثيراً، فكلما يتذكرها أبو ياسين يضحك، فكان يقول لي: ما أقدرك عالحكي.
كان أبو ياسين ـ وهو صاحبُ الفضل الأكبر ـ يذكّرني بأنني قد أحسنتُ إليه وذلك بأنْ خَدَمْتُه أحياناً…
كان يقول لي (لقد أحسنتَ إليَّ كثيراً وأسأل الله أن يجمعنا في غير هذا المكان).
وفي حقيقة الأمر هو انني لو أحسنت إليه الدهر كاملاً ما رددتُ جزءاً من إحسانه، وما يدري بأنني كنتُ أتلذّذُ بخدمته يشهدُ الله.
أُفرج عن أبي ياسين من سجن السلط وترك وراءه فراغاً كبيراً آلمنا لشهور حتى تمَّ نقلنا لسجن الجفر الصحراي جنوب الأردن.
مذكّـرات السـجن وشــرفُ الصُّحـبَةِ (5)
حالة من الغليان بدأت تدبُّ في سجن السلط على إثر عملية ما يُسمّى (اغتيال خالد مشعل) وسرعة الإفراج عن الموساد الصهيوني الذين قاموا بهذه العمليّة دون أن يُقدّموا إلى المحاكمة فلسان حال النظام الأردني يقول: اليهود أغلى ما نملك. فعلى أثر البلبلة التي حدثت في السجن من قبل السجناء السياسيين والتفكير الجاد بالهروب من السجن لمن كانت أحكامهم عالية خاصة وأنّ بعضاً من آل فرعون ممن يكتمون إيمانهم كانوا على استعداد لتيسير أمر الهروب اعتقاداً منهم بعدالة قضيّتنا، وبعد شعور إدارة السجن بشيء من هذا الأمر قرّروا نقلنا إلى سجن الجفر الصّحراوي في أقصى جنوب الأردن. وبالفعل، في الثلث الأخير من الليل، وفي جنح الظلام تم نقلنا بعد أن أوثقوا القيود وربطوا على أعيننا، وتحت حراسة مشدّدة نقلنا إلى سجن الجفر، وكان هذا في نهاية 1998م.
سجن الجفر من أقدم السجون، ولا يكاد يصلح للعيش، ولكنَّ اللهَ منَّ علينا بأن أنزل على قلوبنا الطمأنينة والسكينة، وعندما رأت إدارة السجن أننا ألفنا المكان أدخلت إلى غرفتنا ما يزيد عن 15 سجيناً ممن ينتمون إلى قضايا المخدرات والمشاجرات وغيرها ممن يتميزون بالقضايا الجرمية ظناً منهم بأننا سنصطدم معهم فاستوعبناهم وأكرمناهم وبدأنا نؤثِّر بهم، لم يكن من شباب الحزب آنذاك في السجن إلاَّ أنا، فغربة الفكر بين التنظيمات المسلحة فيها شيء من الابتلاء.
تربطنا بحراس السجن علاقة طيبة نظراً لعدالة قضيّتنا فعلمتُ، بأنَّ هناك يوم غد سجناء جدداً سيتم نقلهم إلى سجن الجفر، فنظرت إلى الكشف الموجود مع أحد الحراس وإذا باسم (عطا خليل أبو الرشتة) من ضمن القائمة التي سيتمُّ نقلها إلى السجن، ولم أكن أعلم بأنَّ أبا ياسين قد تمَّ اعتقاله مرّة أخرى، خاصة وأنّه لم يمكث خارج السجن إلاَّ 4 أشهر أو أقل.
طار قلبي من الفرح، فربَّ ضارة نافعة، وكأن الخبر الذي قرأته هو قرار بالإفراج عنّي.
بالفعل كنّا على موعد مع أبي ياسين في الليلة التالية، فنعمَ المعتقل ونعم الضيف. وللأمانة كان الجميعُ مسروراً بقدومه. فهو يفرضُ احترامه على الجميع، كنت يومها أعدُّ العدّة لدراسة التوجيهي وأنا داخل السجن، فقام والدي ووالدتي -رحمهما الله – بإحضار كل ما يلزم من الكتب، وكانوا يضحكون عليَّ كيف أفكّر بأمر الدراسة وأنا المحكوم بالمؤبّد، فدفعت الرسوم وبدأت أدرس ولحسن الحظ جاء من يرفعُ معنوياتي، إنَّهُ أبو ياسين، فقام بتدريسي بعض المواد، فما أجملهُ من أسلوب! لقد فكفكَ لي المادة بسرعة غير متوقّعة، فما كان يحتاجُ لشهور أنجزته بأقل من شهر، فجزاه اللهُ عنّي خير الجزاء.
لم أكن مقتنعاً بأهل النصرة كثيراً، وكنتُ أناقشه بهذا الأمر فأعطاني درساً عملياً بهذا الأمر.
كيف؟! في يوم من الأيام ناداني فقال لي: اقرأ. فإذا بنشرة للحزب قد وصلته وبتاريخ جديد!!! من الذي أدخلها إليه؟ فعرفتُ أنَّ الخير موجود، وأنَّ النصرة موجودة…
لم تمضِ شهور إلاَّ ودعاية العفو العام تغزو سجننا بعد موت الملك حسين، وما هي إلاَّ أيام وإذا بنا خارج أسوار السجن، فسبحان الذي بيده مفاتيح كل شيء.
قصّة خروجي من السجن قصّة عجيبة. كيف يتمُّ الإفراج عنّي وأنا المحكوم مؤبّداً، ومستثنى من قانون العفو العام. فالإرهابيون مستثّنَون من العفو. فبسبب ثغرة في قانون العفو العام خرجت وأنا الأكثر محكوميّة (مؤبّد) وبقي زميلي (أحمد الصعوب) في السّجن وهو المحكوم (10 سنوات) وواسطته هو الملك حسين عن طريق أهله، فقد تمَّ نقله إلى سجن سواقة تمهيداً للإفراج عنه من قبل الملك حسين، فمات الملك وبقي ملك الملوك، فخرجتُ من السجن وبقي أحمد في سجن سواقة، عندها تذكّرتُ كلام أبي ياسين (بأنّه لا يُقضى أمرٌ في الأرض إلاَّ وقد قُضيَ في السماء).
كان أبو ياسين في تلك الفترة أكثر أيّامه صائماً، كان كلمّا يصلّي فرضاً يتبعه بفرض آخر قضاءً، كنّا نسأله عن تلك الصلاة فكان يقول: في أيّام الشباب لم تكن صلاتي متقنة كما يجب، فأحاول أن أقضي ما فات…
رأيت أبا ياسين مسروراً، يا تُرى بماذا؟ قال: الحزب عاد أقوى مما كان عليه بعد عملية النكث التي ظن الكثير من الناس أنّ الحزب بعدها سينتهي، وأضاف لقد زوّجت ابني ياسين في الشهور الماضية عندما أفرج عني قبل أن أعتقل مرّة أخرى، فقد كان ياسين يرفض الزواج ووالده داخل السجن.
المهم خرجنا من السجن بفضل الله، وبعد أيّام قدمتُ إلى أبي ياسين زائراً في بيته في مدينة الرّصيّفة، فما اجمل اللقاء والترحيب!. لقد قدمت متأخراً مساءً، وكنتُ أظنُّ ـ بعقليّتي الكركيّة ـ أنَّ العشاء سيكون فاخراً…!
بعد ساعات من الترحيب قال للأولاد أحضِروا العَشاء وإذا به (زيت زيتون، زعتر، بيض، بطاطا (نواشف)) وأقسمُ بالله العظيم ما رأيت أجمل من ذاك العشاء في حياتي على بساطته، وبنفس الوقت لو كان عنده أفضل من ذلك لقدّمه، فالجود من الموجود، فلم يتكلّف الرجل ولم يتصنّع، فأعطاني درساً عملياً أن أكون كما أنا، وبأنَّ إكرام الضيف هي حسن الملاقاة قبل كل شيء، كما يقول المثل (لاقيني ولا تغدّيني).
فسهرتُ ليلة مع أبي ياسين من أجمل الليالي، فودّعني في الصّباح بعد أن صلّينا الفجر في المسجد، وكان إماماً للمصلين في تلك الصلاة.
لم أرَ أبا ياسين منذ 1999م إلى يومنا هذا فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بالخلافة بعد أن أكرمنا بهذا العالم الجليل أمير حزب التحرير وأن يجعل تحرير بيت المقدس وفتح روما على يديه، إنُّه وليُّ ذلك والقادر عليه.