فكرة فصل السلطات في الأنظمة الديمقراطية بين النظرية والتطبيق (1)
2012/12/29م
المقالات
4,931 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
فكرة فصل السلطات في الأنظمة الديمقراطية
بين النظرية والتطبيق (1)
لقد سادت فكرة فصل السلطات أنظمة الحكم في العالم لسيطرة النظام الرأسمالي الديمقراطي على العالم وتأثر الجميع بنظم حكمه. فنريد هنا أن نتناول هذا الموضوع لنعرف ماهية هذه الفكرة، أي فكرة فصل السلطات؟ ومن أين أتت هذه الفكرة؟ وهل هي عبارة عن نظرية ولا تنطبق على الواقع ولا تطبق فيه؟ وهل توافق الواقع أم تخالفه؟
بعد هذه التساؤلات نأتي إلى الإجابات عنها؛ فإن فكرة فصل السلطات هي هيكل الدولة المدنية. وهي فكرة غربية بحتة مرتبطة بالفكر الغربي الديمقراطي. وقد ظهرت هذه الفكرة مع ظهور فكرة الدولة المدنية التي هي مضادة لمفهوم الدولة الدينية الغربية. فظهورها كان كردة فعل على حصر السلطات في يد الحكام المستبدين في أوروبا من ملوك وأباطرة. ولقد ظن بعض المفكرين السياسيين الغربيين بأن الاستبداد سببه حصر السلطات أو حصر صلاحيات الحكم في يد الحاكم. فأوجدوا هذه الفكرة كردة فعل على هذا الواقع السيئ في بلادهم لمعالجة موضوع الحكم عندهم. ويعتبر الإنكليزي جون لوك في كتابه الحكومة المدنية الذي أصدره عام 1690م أول من تكلم في موضوع فصل السلطات ضمن مفهوم الدولة المدنية، وذلك عقب الثورة الإنكليزية ضد الاستبداد الذي كان يتمثل بالحكم الملكي المطلق المتحالف مع الكنيسة إلى جانب تحكم العائلات العريقة والثرية في رقاب الناس، وطالبت بإقامة الجمهورية ولكن لم تتمكن من إقامتها. ومن ثم جاء من بعده الفرنسي دي مونتسكيو في كتابه روح القوانين عام 1748م فقام بتطوير هذه الفكرة إلى أن رسخت حتى يومنا هذا على أساس فصل السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، عن بعضها البعض. ولكن يقال إن الفيلسوف اليوناني أرسطو هو أول من تكلم في هذا الموضوع في كتابه السياسة. ولكنه لم يتكلم في ذلك بوضوح، ولم يبلوره حسب الشكل الحالي. بل أراد ترشيد الحكم وتنظيمه. فذكر أن للديمقراطية ركنين؛ حكم الأكثرية وحماية حقوق الأقليات والأفراد. وقال: السيادات ثلاث هي: السيادة الفردية ويعني بها سيادة الحاكم، والسيادة الشعبية، والسيادة الشرعية. ومن المعلوم أن الفلسفة اليونانية هي إحدى مصادر المعلومات الأولية للفكر السياسي الغربي. فيأتي الفلاسفة والمفكرون الغربيون فيدرسونها ويستقون منها المعلومات، ومن ثم يعملون على تطويرها حسب مبدئهم الرأسمالي ليعملوا على تطبيقها حسب واقعهم. وقد أصبحت فكرة فصل السلطات إحدى الأفكار الأساسية لنظام الغرب الديمقراطي الذي ينادى له في كافة أنحاء العالم ولدولته المدنية التي يعمل على تسويقها من جديد بين المسلمين.
هذا مع العلم أن الأنظمة في العالم الإسلامي ومنه العربي قد أقيمت على هذا الأساس ولو بشكل نظري عندما أسقط الغرب نظام الحكم في الإسلام، وهو نظام الخلافة الإسلامية، وذلك عن طريق عملائه. وبعد حدوث الثورات في البلاد العربية بدأت الدول الغربية تعمل على تفعيل تطبيق هذه الفكرة من جديد ضمن الدولة المدنية الديمقراطية عندما رأت هذه الدول أن الأنظمة التي أقامتها كانت على هذا الأساس شكلياً ولكنها كانت استبدادية فعلياً، وبدأت تتساقط نتيجة ازدياد الوعي لدى الأمة وكسر حاجز الخوف. فخافت الدول الغربية على سقوط نظامها السياسي ومنظومتها الفكرية فأرادت تفعيل ذلك بصورة ملمَّعة لتظهر على أنها غير استبدادية. فالفكرة بشكل عام موجودة في الدساتير التي وضعها الغرب للأنظمة التي أقامها في العالم الإسلامي؛ ولذلك نراه يلزم المسلمين بنفس الدساتير ويريد أن يخدعهم من جديد، فيظهر أن الخطأ كأنه ليس في وجود أنظمته وإنما في عدم تفعيلها أو تطبيقها كما ينبغي وفي وجود حكام فاسدين. فأوهم الغرب الناس قائلاً بأنه عندما يجري إقامة نظام الدولة المدنية على أسس فصل السلطات؛ فعندئذ تطبق الديمقراطية ويستعيد الإنسان كرامته ويسعد في ظل الحرية.
فهذه السلطات الثلاث تتكون منها الدولة المدنية عند الغربيين؛ فأولها السلطة التشريعية التي تتمثل بالبرلمان الذي ينتخب أعضائه كنواب عن الشعب في سن القوانين وتشكيل السلطة التنفيذية ومراقبة هذه السلطة وإسقاطها بحجب الثقة عنها. وثانيها السلطة التنفيذية التي تتمثل بالحكومة التي تنفذ القوانين التي تشرعها السلطة التشريعية. وثالثها السلطة القضائية وعلى رأسها المحكمة الدستورية وهي التي تنظر في دستورية القوانين، وتنظر في مدى التزام السلطة التنفيذية بهذه القوانين وتسمع لشكاوى الناس بحقها. فأصبحت الدولة لديهم مركبة من هذه السلطات الثلاث. وقالوا بأنه يجب أن تكون كل سلطة منفصلة عن الأخرى ومستقلة. فتكون الدولة مركبة من سلطات ثلاثة منفصلة وليست من سلطة واحدة. فقالوا إن الدولة تحكمها ثلاثة سلطات مستقلة عن بعضها البعض كل واحدة تمارس صلاحياتها باستقلالية، بل قالوا إنها قوى ثلاث قادرة على أن تفرض نفسها على الآخرين بحدود صلاحياتها. وبذلك تتوزع الصلاحيات على قوى ثلاث فيزول احتمال التفرد بالسلطة وبالتالي يمنع الاستبداد.
وبالرغم من قولهم بفصل السلطات إلا أن التداخل بينها حاصل؛ فيحصل التداخل بين السلطة التنفيذية والتشريعية وكذلك التعارض والتناقض. فالسلطة التنفيذية أو الحكومة تريد سن قوانين وتنفيذ قرارات معينة حسبما ترى من مصلحة عند ممارستها لصلاحياتها وقيامها برعاية شؤون الناس وربما السلطة التشريعية لا ترى ذلك. فيحدث تصادم بين السلطتين ربما يؤدي ذلك إلى شلل في عمل الحكومة. ولذلك قاموا بالتحايل على الأمر فجعلوا تشكيل الحكومة من الأكثرية البرلمانية حتى يساعدها ذلك في سن القوانين أو التشريعات واتخاذ القرارات عندما يصوت حزب الأكثرية وهو حزب الحكومة لصالح تشريعاتها وقراراتها، أو إذا كانت ائتلافية فتكون الأكثرية البرلمانية من الأحزاب التي تشكلت منها الحكومة. فأصبحت السلطة التشريعية متوافقة أو متواطئة مع السلطة التنفيذية، فلم تعد هناك استقلالية ولا انفصال بين هاتين السلطتين بل أصبحتا متحدتين، وهذا مع ما يجري في كافة الدولة المدنية الديمقراطية. فعندئذ تستصدر السلطة التنفيذية التشريعات والقوانين بسهولة ويسر لدى السلطة التشريعية، أي إن البرلمان يشرع للحكومة ما تريد ويقر قراراتها ويوافق على سياساتها. لأن هاتين السلطتين أصبحتا مشكَّلتين من حزب الأكثرية أو من عدة أحزاب شكلت الأكثرية. وبذلك انتفى فصل السلطات في الواقع بشكل عملي. فهذا يدل على تناقض مدى النظرية أو الفكرة مع الواقع في موضوع فصل السلطات وعلى عدم إمكانية فصل تلك السلطتين عن بعضهما البعض، وإلا لا يمكن تسيير أعمال الدول وشؤون الناس. ويدل ذلك على مدى التحايل والخداع للشعب بأنه يحكم، وأن ممثله البرلمان يشرع وهو مستقل عن الحكومة، فدلَّ كل ذلك على فساد فكرة فصل السلطات.
وقد وضعت سلطة قضائية ووضع على رأسها المحكمة الدستورية، فهي أعلى مرتبة في القضاء، والحل والفصل الأخير يرجع إليها لتنظر في دستورية التشريعات الصادرة من السلطة التشريعية وتراقب تنفيذها من قبل السلطة التنفيذية، وحتى تمكِّن أحزاب الأقلية المعارضة من الشكوى لديها لتنظر في المخالفات الدستورية والقانونية، بالإضافة إلى شكاوى الناس إذا رأوا أن الأحكام التي صدرت بحقهم تخالف الدستور.
فالأصل أن تكون السلطة التشريعية هي المشرعة وتشريعها هو التشريع فلا سلطة عليه؛ فكيف يضع عليها حكماً يفنِّد تشريعاتها ويحكم على صحتها وخطئها؟ فكيف تكون اذاً السلطة التشريعية مستقلة وهي ترى أن فوقها قوة أقوى منها ربما تحكم على تشريعاتها بالخطأ فتسقطها؟ فهل تستطيع أن تنظر في القوانين بشكل مستقل وهي تحسب حساباً للمحكمة الدستورية وتخاف أن ترد تشريعاتها؟ فاذا حكمت سلطة أخرى على صحة تشريعات المشرّع فهل هذا مشرع حقيقي؟ إن هذا يدل على عدم استقلال السلطة التشريعية في تشريعاتها، ويدل على عجز هذا المشرّع وأن احتمال الخطأ وارد عليه! فهذا يدل على إقرار أهل الفكر الغربي ضمنياً بأن المشرّعين الذين أنابهم الشعب ناقصون وأنهم يخطئون! لأنهم وضعوا فوق السلطة التشريعية التي هي الأصل وهي المشرع الأول والأخير في النظام الديمقراطي وضعوا فوقها سلطة قضائية ربما تفند كل تشريعاتها؟ فكيف يكون المشرع مخطئاً؟ وكيف يوضع فوقه سلطة أقوى منه ليست منتخبة من الشعب، وإنما هي مجموعة أفراد لا يتجاوز عددهم مجموع أصابع اليدين ويكون المئات من ممثلي الشعب محكومين لهذه الفئة القليلة، بل إن الشعب كله أصبح محكوماً لأحكام وقرارات تلك المحكمة؟ فيدل ذلك على عدم صحة فصل السلطة، وان الشعب غير مشرع، ولا يحكم نفسه بنفسه، فيعني ذلك أن لا وجود للديمقراطية في الواقع. فالسلطة التشريعية هي سلطة الشعب الحقيقية في الديمقراطية التي تعني أن الشعب هو المشرع وهو الذي يحكم، فكيف يوضع عليه سلطة من عدة أفراد في المحكمة الدستورية من السلطة القضائية؟ فهذا يناقض الديمقراطية ويناقض مفهوم الدولة المدنية التي رفضت سلطة رجال الدين الذين كانوا يشرعون للملك وزمرته وكانت سلطتهم فوق الشعب؟ وإذا قيل إن الشعب عاجز عن أن يضع قوانينه بنفسه لأنه غير متخصص بذلك وكذلك ممثليه في السلطة التشريعية، وأن محكمة الدستور متخصصة في القانون وتفهمه أكثر ممن هم في البرلمان وفي غيره! فهذا الكلام وحده ينقض الديمقراطية ويبرهن على أنها غير موجودة أصلاً لأن الشعب لا يحكم نفسه بنفسه، فلا يشرع ولا يدير دولة، وانما تفرض عليه القوانين فرضاً ويحكم بصرامة القانون وبقوة الشرطي. والحقيقة، إن الشعب غير راضٍ عن كثير من التشريعات ولا تخدمه، وإنما تخدم فئة قليلة من أصحاب النفوذ والمال. ونلاحظ في الغرب الديمقراطي أن كل فئة من الناس غير راضية عن القوانين التي تتعلق بها؛ وتراها هاضمة لحقها وتخدم فئة نافذة فيما يتعلق بموضعها؛ ولذلك سمحوا بحرية الاحتجاج والإضراب لكل فئة حتى تطالب بحقها من الفئة المتنفذة، وتعمل على تسوية الأمور بعد الإضرابات والاحتجاجات بحل وسط يلبي بعض مطالب المحتجين وليس كلها، ويترك الباقي إلى مرحلة أخرى، فوضعت قاعدة (خذ وطالب) حتى لا يتمكن المحتجون على هضم حقوقهم من تلبية كامل حقوقهم فتبقى ناقصة.
والسلطة القضائية أيضاً عاجزة ولكنها جعلت على أنها الحكم مع أنها مكونة من مجموع أفراد قليلين، بينما البرلمان مشكل من أعداد كثيرة تمثل الشعب وانتخب على أساس مطالبه، ولكن محكمة الدستور أقوى منه! فكيف يحصل ذلك؟ وإن قيل إن هؤلاء الأفراد متخصصون في القانون ويفهمون الدستور أكثر من غيرهم من الناس فيفهمونه أكثر من الشعب ومن البرلمان الذي يمثله! فهذا القول وحده ينقض الديمقراطية كما قلنا ويثبت أن الديمقراطية غير موجودة فعلاً؛ لأن الشعب لا يحكم نفسه بنفسه فلا يشرع لنفسه، بل إن هناك أفراداً قليلين يشرعون ويحكمون على التشريعات، ولا هو يدير دولة حسب تشريعاته، وإنما تفرض عليه التشريعات فرضاً ويحكم بصرامة القانون وقوة الجندي! وقلنا بأننا نلاحظ في الغرب الديمقراطي أن كل فئة من فئات الشعب غير راضية عن القوانين التي فرضت عليها، والأصل حسب الديمقراطية أن تكون كل فئة هي على الأقل هي المشرعة للقوانين المتعلقة بها، أو أن يؤخذ رأيها فيما يتعلق بها! ولكن لا هذا ولا ذاك يحدث، وإنما تفرض عليها القوانين فرضاً. ويترك لكل فئة حق الاحتجاج والإضراب في محاولة للتنفيس حتى لا تقوم ضد القانون وضد الدولة، وإذا نجحت في إضرابها واحتجاجاتها تلبى لها بعض المطالب وليس كلها، وتعطى بعض العلاوات لا كلها.
والدستور في الدولة المدنية التي تحكم المحكمة الدستورية بمقتضاه ويسن البرلمان القوانين حسبه وترعى الدولة شؤون الناس به؛ هذا الدستور لا يضعه الشعب الذي يعتبر في الديمقراطية هو المشرع الحقيقي وهو مصدر السلطات، ولا يصدره البرلمان النائب عن الشعب في التشريع حسب التحايل الديمقراطي، وانما تضعه لجنة تأسيسية دستورية من عدد من الأشخاص يعيَّنون من قبل السلطة التنفيذية المؤقتة أو من قبل سلطة عسكرية مؤقتة عندما تستولي على الحكم. وبعد أن تضع الدستور تحل تلك اللجنة التأسيسية، وبعد ذلك يعرض الدستور على الشعب لإجراء الاستفتاء عليه، فإذا أقر بأكثرية شعبية فوق النصف يصبح هذا الدستور ساري المفعول! وتكون هذه اللجنة قد حددت صلاحيات السلطات الثلاث وما يتعلق بها من كيفية تشكيلها وحلها. فيجري بعد ذلك انتخابات عامة لتشكيل السلطة التشريعية، ومنها يجري تشكيل السلطة التنفيذية من جديد، وتحل السلطة التنفيذية المؤقتة، ومن ثم يتم تشكيل السلطة التنفيذية الدائمة وتعين السلطة القضائية. فتكون مجموعة قليلة من الناس هي التي وضعت دستوراً لكافة الناس فهي الحاكمة على الناس جميعاً، فهذا يخالف القول في الديمقراطية بأن الشعب يحكم نفسه بنفسه، أي أنه هو المشرع ويخالف حكم الأكثرية أيضاً. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن قبول نسبة فوق النصف من الناس ولو كانت نسبة واحد في المئة فوق النصف يصبح هذا الدستور ساري المفعول، ويهمل الجزء الآخر من الشعب، وربما يكون هذا الجزء أقل من النصف بواحد في المئة! فكيف يصبح الشعب مشرعاً ولم يضعه جزء هام منه يصل إلى النصف؟ حتى إن الذين وافقوا على الدستور لم يطلعوا عليه، والنزر اليسير من الناس من يطلع عليه، وأقل من هذا النزر من يدرك معانيه، وقد صوَّت الذين وافقوا عليه بسبب من تأثير دعائي وليس عن إدراك ووعي، وهذا ما يشاهد في كافة الدول الديمقراطية. فكل ذلك يدل على عدم ديمقراطية الدستور حسب الفكر الديمقراطي الذي يجعل الشعب يحكم نفسه بنفسه. وتسري عدمية الديمقراطية في النظام الديمقراطي على البرلمان بعدما يتشكل حيث يشرع حسب فئة قليلة وبنسبة معينة لا تمثل الشعب جميعاً، وحسب دستور لم يضعه.
وإذا دققنا في ممارسات السلطة القضائية في النظام الديمقراطي وخاصة محكمة الدستور وفي المحاكم العليا الأخرى فسوف نرى مدى علاقتها بالسلطة التنفيذية، بل بقوى نافذة في البلد؛ فهي تقع في كثير من الأحيان تحت تأثير القرار السياسي، وتقف بجانب السلطة التنفيذية أو بجانب قوى نافذة في البلد. فعندما يكون الحال هكذا فمن الصعب أن تقول باستقلالية القضاء.
إن تناقض ذلك مع الواقع من كونه لا يمكن الفصل بين السلطات فصلاً مطلقاً، ولا يمكن عمل كل سلطة لوحدها، ولا يمكن منع تداخل هذه السلطات مع بعضها البعض، ولا يمكن تعيين القائمين فيها من دون تأثير الأخرى مباشرة أو غير مباشرة. وإذا وجد تنافر بين هذه السلطات فإن الدولة سيصيبها الشلل. فالحكومة تريد تشريعات معينة، وترى مصلحة البلد في أمر ما كذا وكذا، وربما ترى المصلحة أكثر دقة مما تراه السلطة التشريعية، والأخيرة تعارض الأولى. فالقائم على رعاية المصالح يدرك حقيقتها وحقيقة المشاكل التي يوجهها الحكم أثناء هذه الرعاية أكثر مما يدركها الجالسون في المجلس النيابي، وان كان رأيهم لا يجوز إهماله بسبب أنهم يراقبون هذه الرعاية. ولذلك لا يمكن أن تعمل الدولة إلا إذا صار توافق بين هذه السلطات، وبعبارة أخرى إلا إذا وافق البرلمان على التشريعات التي تريدها الحكومة ولم ينقضها القضاء. فعندئذ تسير الأمور على ما يرام. وإذا قالوا فإن ذلك يسير على الأغلب في الدولة المدنية، فنقول: لماذا إذاً الادعاء بفكرة فصل السلطات وهي تشل عمل الدولة وتعرقل سيرها في رعاية المصالح عند محاولتها تطبيق هذه الفكرة؟ واذا تم التوافق بين هذه السلطات في الأغلب فكيف يتم الحديث عن وجود فصل للسلطات؟ فالفكرة واقعياً غير موفقة أو أنه لا يمكن تطبيقها واقعياً، فتبقى نظرية عند محاولة تطبيقها، فإن عمل الدولة يشل ولا تتمكن الحكومة من رعاية المصالح.
والتناقض الذي يحصل بين هذه السلطات أو التعارض بينها سببه:
أولاً: إن الحاكم هو الذي يجب أن يتبنى القوانين؛ لأنه هو الذي يحكم ويمارس الحكم ويرعى مصالح الناس فكان أدرى وأحق بذلك. ولذلك وجب أن يكون الحاكم هو الذي يسن القوانين والمجلس يراقبه ويحاسبه ويرشده، والقضاء ينظر في شرعية تلك القوانين ودستوريتها.
وثانياً: رؤية الأمر المعيَّن الذي يراد سنه أو تبنيه قانوناً أهو مصلحة أو غير مصلحة؟! وهذا يرجع إلى مسألة التحسين والتقبيح للأعمال. فعندما ترك للإنسان تعيين الحسن والقبح في الأعمال فعندئذ اختلفت الرؤى بين الناس؛ لأن العقل يكون هو الحكم، وعقول الناس مختلفة، واهواءهم ومصالحهم التي تؤثر على عقولهم مختلفة. فكل إنسان يقيِّم المصلحة حسب هواه وحسب مصلحته وحسب قدراته العقلية وإحاطته بالأمر الذي يراد أن يسن ليصبح قانوناً. وتتغير النظرة للحسن والقبح من زمن لآخر، ومن بيئة إلى بيئة، ومن شخص إلى شخص. فعندما تكون النظرة للحسن والقبح متأثرة بهذه العوامل ولا يمكن للإنسان أن يتحرر منها فيكون من الخطأ الفاحش أن يترك للإنسان حق التشريع؛ لأنه لا يمكن أن يعطي نظرة صحيحة عن حسن العمل أو عن قبحه حتى يقرر أن ذلك مصلحة أو مفسدة! ولهذا لا يعطى حق التشريع لا للحاكم ولا للبرلمان ولا للقضاء ليقرر الحق في التشريع.
وثالثها: إنه لا يمكن أن يسيِّر أعمال الدولة ويرعى مصالح الناس ويدير شؤونهم الا سلطة واحدة. فالدولة سلطة واحدة وليست عدة سلطات، وهذا هو الواقع؛ ولذلك لا يمكن أن يسير الأمر على مايرام إلا إذا وافق البرلمان على التشريعات التي تريدها الحكومة ولم ينقضها القضاء. وإذا لم يحصل ذلك فان التناقض سيظهر؛ وبذلك تتوقف أعمال الدولة أو تتوقف رعاية المصالح وإدارة الشؤون وكأنه لا توجد دولة. فلو استمر الأمر هكذا في كل مسألة فستصبح الدولة في حكم العدم. وبذلك لا يمكن الرعاية إلا بتوافق ما يسمى بالسلطات الثلاث؛ فتعتبر سلطة واحدة. ولذلك فإن البلد لا يدار إلا بسلطة واحدة.
ورابعها: إن القيادة فردية. فلا يمكن للدولة أن تسير إلا إذا كان هناك شخص واحد هو الذي يقرر في النهاية أن الأمر يجب أن يسير هكذا أو هكذا. وإذا ترك اتخاذ القرار لمجموعة من الناس فإن تسيير الدولة أو إدارتها لا يتحقق لأن قدراتهم العقلية ومداركهم متفاوتة. فللحسم والقطع في الأمور أي للعزم على التنفيذ لا بد إلا أن يكون القائد فرداً واحداً. وأما دور الآخرين فهو للشورى وللمراقبة وللمحاسبة.
وعندما سحبوا من الحاكم في الغرب حق التشريع لأن ذلك يؤدي إلى الاستبداد، وأعطي هذا الحق للشعب حتى يقضى على الاستبداد؛ أدركوا أن الشعب لا يستطيع التشريع فسقطت الديمقراطية، فصار تحايل على الأمر بأن أعطي هذا الحق لمجلس يمثل الشعب. فأصبح البرلمان هو المستبد الذي يشرع رغماً عن الجميع، بل جعلوا فوق مجلس الشعب محكمة تقضي وتحكم عليه. فأصبحت هذه المحكمة بمثابة المستبد في الأمر، فانها تحكم رغماً عن المجلس وعن الشعب كله. فاذاً لم يستطيعوا أن يتخلصوا من الاستبداد من قبل فرد أو من قبل مجموعة من الأفراد.
فما حصل في الغرب من ردة فعل على الدولة الاستبدادية أو الديكتاتورية لكونها دولة ثيوقراطية أي دولة دينية أو دولة الاستبداد الديني كان بسبب أن فرداً ومعه فئة ممن يسمون النبلاء والعائلات الثرية بالتحالف مع رجال الدين أو الكنيسة كانوا يشرعون حسب مصالحهم. فالكنيسة تشرع بصلاحيات كاذبة ادعت أنها من الله ليحصل توافق بينها وبين الدولة، وتتواطأ على حكم الناس بغير ما أنزل الله. فحصل الاستبداد، فنودي بالدولة المدنية ليتخلصوا ممن أسموها بالدولة الدينية بالمفهوم الغربي، وبالديمقراطية حتى يحكم الشعب نفسه بنفسه، ولكن لم يحصل من هذا القبيل شيء كما ذكرنا، أي لم يحكم الشعب نفسه بنفسه؛ فلم يشرع ولم يحكم بل بقي محكوماً والتشريعات تصدر من فوقه رغماً عنه من قبل فئة قليلة من الناس؛ فعاد الاستبداد بصورة أخرى. بل إن الدولة المدنية الديمقراطية يتحكم فيها أصحاب النفوذ وخاصة أصحاب رؤوس الأموال، فهم الذين ينتخبون الحاكم، وهم ينتخبون مجلس الشعب، وهم يتحكمون في الحكم ولكن بصور خفية تخفى على كثير من الناس. والناس يذهبون إلى صناديق الاقتراع ليصوتوا على أشخاص فُرضوا عليهم من قبل أصحاب النفوذ وعلى رأسهم أصحاب رؤوس الأموال. ولذلك سادت دكتاتورية أصحاب رؤوس الأموال، أي الاستبداد الرأسمالي؛ فسمي النظام بالرأسمالي، وهذه هي الحال في كل دول الغرب الديمقراطية. وقد جعلوا للحاكم ولأعضاء الحكومة والبرلمان الحصانة، فلا يحاكم هؤلاء وهم في الحكم وفي المجلس، وهذا نوع من الظلم والاستبداد. فالحاكم أصبحت له الحصانة كما كان في العصور ما قبل ظهور الديمقراطية حيث كان للملك وللنبلاء وللإقطاعيين الحصانة. وإذا قيل يجب أن تكون للحكام حصانة ما داموا في الحكم حتى يتمكنوا من الحكم وحتى يكون هناك استقرار، فنقول إنكم قد أقررتم بالاستبداد. فالحق ألا يجعل لأحد حق بالحصانة، بل يجب أن يحاكم الحاكم فوراً، مثله مثل عامة الناس.
والخلاصة إن القول بتعدد السلطات وبفصل السلطات قول خاطئ لأنه غير متحقق فعلياً، ولا توجد غير سلطة واحدة في الدولة، وهي التي ترعى مصالح الناس وتسيِّر شؤونهم. ولقد رأينا أن فكرة تعدد السلطات وفصلها وجدت كردة فعل على الاستبداد من جرَّاء حصر السلطة في شخص رئيس الدولة ملكاً كان أو إمبراطوراً، ولكن الاستبداد ليس آتياً من ذلك، وإنما آتٍ من أن المشرعين هم البشر، سواء في الدولة المدنية الحالية أم الدولة الدينية البائدة. فالقضية أن التشريعات التي يصدرها البشر لا تنتج العدل وإنما تنتج الظلم. فلا بد من أن يأتي التشريع من خالق البشر، والبشر يديرون أنفسهم بهذه التشريعات، فينتخبون حكامهم ويحاسبونهم ويقوِّمونهم ويسقطونهم بناء على ذاك التشريع الذي أنزله خالقهم. فعندئذ يزول الاستبداد ويسود العدل ويسعد البشر.
2012-12-29