أسباب اختلاف استراتيجية واشنطن عن أوروبا بشأن البوسنة
1993/03/08م
المقالات
1,888 زيارة
بقلم: محمد خليفة ـ ستوكهولم
تحفظت إدارة الرئيس بيل كلينتون على مشروع حل مشكلة البوسنة الذي اقترحه الوسيطان الدوليان، اللورد ديفيد أوين (عن الجماعة الأوروبية) وسايروس فانس (عن الأمم المتحدة)، وبررت الإدارة تحفظاتها بأن المشروع يغطي المعتدين الصرب ولا ينصف الشعب المسلم. ودعت للعمل إلى تعديله بعد أن وافقت خطوطه العريضة. وبدأت فعلاً بتحرك سريع لإعادة صوغ خطط جديدة بم يكفل إدخال ملاحظاتها وأفكارها في الحل الذي كان يمثل آراء الدول الأوروبية الرئيسية ومصالحها. وأسرعت حكومة الجمهورية البوسنة (المسلمة) إلى التعبير عن تأييدها لتلك الملاحظات الأميركية، وتبعها ارتياح عام في العالم الإسلامي نابع من مشاعر متفجرة تجاه التقاعس الغربي عن مساعدة البوسنة في محنتها القاسية التي تعرضت لها طوال العالم الماضي. واستعاد الرأس العام في العالم الإسلامي ذكريات الموقف الأميركي المؤيد للمسلمين الأفغان في جهادهم لتحرير بلادهم من الاحتلال السوفياتي (1979 ـ 1989)، وذكريات أخرى مشابهة (الصومال مثلاً) توحي بأن أميركا أقرب إلى قضايا المسلمين من الأوروبيين!
وبعيداً عن مشاعر الرأي العام التي تتمدد وتتقلص بتأثير الأحداث العابرة يبقى من المهم استجلاء الموقف الأميركي من مشكلة البوسنة، وأسباب تميزه واختلافه، ولو بهذه النسبة الضئيلة، وعن الموقف الجماعي المشترك للدول الأوروبية. فالواضح أن الاختلاف قائم وحقيقي على رغم رضوخ واشنطن إلى الضغوط الأوروبية والأممية (الأمم المتحدة) للتصديق على مشروع فانس ـ أوين على شرط إعادة النظر به لاحقاً. طبعاً إن الموقف الأميركي في قضية البوسنة، مثله مثل موقفها السابق من الجهاد الأفغاني، تمليه حسابات المصالح أولاً وأخيراً ولا صلة له بعواطف أو مبادئ. وثمة قضايا أخرى كثيرة تثبت أن الولايات المتحدة أشد عداء وكيداً للمسلمين من الدول الأوروبية.
غير أنه يمكن القول أن أميركا باعتباره زعيمة العالم في هذه الحقبة، مضطرة لاتباع سياسة أكثر توازناً بين الأطراف لتحافظ على علاقاتها ومصالحها مع جميع الدول والأطراف. ولا شك أن العالم الإسلامي يحتل موقعاً ممتازاً في تلك العلاقات والمصالح يتعين على السياسة الأميركية مراعاته أكثر من الدول الأوروبية، سيما أن المشكلة المعنية (البوسنة) تقع بعيداً عن القارة الأميركية ولا تتأثر بها مباشرة كالدول الأوروبية.
لكن هذه العوامل مجتمعة، تندرج في باب العموميات ولا تفسر بدقة أبعاد الموقف الأميركي من قضية البوسنة.
فالمراقبون الذين يتابعون أحداث منطقة البلقان وتطوراتها منذ انهيار المنظومة الشيوعية في شرق أوروبا يعلمون أن لواشنطن سياسية خاصة بهذا الجزء من أوروبا، ويدركون تماماً أن هذه السياسة تختلف، بل وتتناقض مع سياسة الجماعة الأوروبية. وأن الفترة المقبلة قد تبرز ذلك الاختلاف بشكل أوضح مما فعلته مسألة البوسنة.
فما هي هذه السياسة؟ وما هي عواملها ودوافعها؟ ولماذا تختلف وتتناقض مع الشركاء والحلفاء الأوروبيين؟
أميركا والبلقان
من المعروف أن انهيار المنظومة الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة قد ألغيا عملياً حاجة أوروبا للمظلة الأمنية الأميركية وقلّصا الاعتماد عليها إلى أبعد الحدود. وبالمقابل فإن تقدم المشروع الأوروبي للوحدة بدأ يحقق استقلالية أوروبية عن الولايات المتحدة. بل وأخذ يفرز تناقضات متنامية في المصالح الخاصة بكل منهما. وهناك عشرات الأمثلة والشواهد على ذلك في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية ظهرت في الأعوام الثلاثة الفائتة.
وفي إطار اختلاف الخطط نستطيع أن نلحظ السياسة الأميركية المؤيدة (نسبياً) ليس لمسلمي البوسنة فقط، بل جميع الشعوب ـ الأقليات المسلمة في البلقان ـ كما أشرنا ـ مع انفجار أزمات ونزاعات أخرى أكثر حدة في المنطقة:
– أزمة إقليم كوسوفو بين الصرب والألبان.
– مشاكل ألبانيا مع جاراتها.
– مشكلة مقدونيا بين الدول الأربع المحيطة بها (اليونان، صربيا، بلغاريا وتركيا).
– مشكلة تركيا مع جاراتها البلقانيات.
– مشكلة تركيا في علاقاتها مع أوروبا عموماً، والجماعة الأوروبية خصوصاً.
لقد بدأت واشنطن سياستها البلقانية الجديدة في نهاية العقد الماضي، مع بداية تحلل الكتلة الشيوعية، وقيام الجماعة الأوروبية بتوسيع خططها ونشاطاتها لاستيعاب دول شرق أوروبا، وظهور أو تفاقم بؤر التوتر والنزاعات العرقية والمذهبية في هذه الدول.
إنها سياسة تقوم على تقوية العلاقات مع الفئات أو الدول أو الجماعات التي ترفضها أوروبا، وترفض انضمامها إلى إطار مشروعها، أو التي بينها وبين مجتمعاتها الأوروبية تناقضات وتوترات عميقة ودائمة. وتهدف أميركا مع تقوية علاقاتها مع هذه الفئات إلى إقامة تحالف مضاد للمشروع الأوروبي يستند إلى عوامل راسخة وثابتة لا عوامل هشة أو مؤقتة.
والواقع أن تلك المواصفات تنطبق على المسلمين في البلقان أكثر مما تنطبق على أي طرف آخر:
1- تركيا عجزت بعد عشرين سنة من المحاولات اللاهثة عن إقناع أوروبا بقبولها عضواً في سوقها المشتركة، وأيقنت في النهاية أنه لا أمل أبداً في زحزحة الأوروبيين عن هذا الموقف الذي ينبع من العامل الديني أساساً.
2- الأقليات المسلمة في شمال اليونان، وجنوب بلغاريا، ظلت دائماً وما زالت، تتعرض لمعاملة دونية من قبل الحكومات والشعوب الأوروبية ـ المسيحية التي تعيش في أكنافها، وهي تعاني في الوقت ذاته من عدم اعتراف قاطع بحقوقهم كجماعات اثنية ودينية متميزة. وعلى رغم شكاوى هذه الجماعات للمنظمات والمؤسسات المرجعية في السوق المشتركة فإن هذه لم تفعل شيئاً يذكر لرفع الغبن والحيف عنها وتسوية أوضاعها، حتى باتت هذه الجماعات مقتنعة أن الوحدة الأوروبية المقبلة ستزيد من الظلم الحالي عليها لأنها تقوي الدول التي يعيشون فيها، وتعزز الهوية المسيحية الخالصة على أوروبا الموحدة. وقد تعززت هذه المشاعر والقناعات بعد مأساة البوسنة وتقاعس أوروبا عن الدفاع عن أبسط حقوق المسلمين، والمباركة الأوروبية الضمنية لما اقترفه الصربيون وتثبيت نتائجه مما يعني رفض أوروبا القاطع لقيام جمهورية ذات هوية إسلامية على أراضيها.
3- ألبانيا، وهي في الواقع الدولة الوحيدة في أوروبا القائمة فعلاً ذات غالبية سكانية إسلامية. غير أن الألبان يعانون من عقد اضطهاد عمرها مئات السنوات من جيرانهم في الشرق والغرب، أي البلقان والدول الأرثوذكسية فيه، وأوروبا اللاتينية والدول الكاثوليكية فيها وهي عقد متجددة. فالألبان لا يستطيعون نسيان ما حل بهم في مطلع القرن الجاري عقب انهيار السلطنة العثمانية. ولا ينسون أن الدول الغربية اقتطعت إقليم كوسوفو ووهبته إلى صربيا أو يوغوسلافيا. ولا يستطيعون نسيان عدم اكتراث أوروبا والغرب بمحنتهم في ظل نظام أنور خوجه الفاشي. وهم موقنون بعمق الآن أن أوروبا الغربية لن تقبلهم في إطارها أبداً، وأن تخلف بلادهم ليس إلا ذريعة لهذا الرفض القائم على العامل الديني، وهم أيضاً لا يستطيعون إغفال التهديدات والمخاطر التي يمثلها جيرانهم (اليونانيون والصربيون والإيطاليون).
الاعتماد على المسلمين
كان لافتاً للمراقبين في البلقان بروز الاهتمام الأميركي بأوضاع ومعاناة وحقوق هذه الفئات والشعوب الإسلامية في الأعوام الفائتة. وعلى رغم أن هذه الأوضاع ليست جديدة، إلا أنها لم تكن تجد أي اهتمام في واشنطن.
وعلى سبيل المثال كانت المرة الأولى التي أشار فيها تقرير وزارة الخارجية الأميركية لمعاناة الأقلية المسلمة في شمال اليونان هي عام 1990. وكذلك كانت المرة الأولى التي أشار فيها ذلك التقرير الذي يصف أوضاع حقوق الإنسان في العالم لمعاناة الأقلية المقدونية في شمال اليونان عام 1991. (والأقلية المقدونية تنطبق عليها النظرة نفسها للمسلمين).
وفي إبان اضطهاد النظام الشيوعي في بلغاريا للمسلمين (1986 ـ 1989) تبنت واشنطن سياسة قوية دفاعاً عنهم أقوى من سياسة الدول الأوروبية، في حين أن دول البلقان جميعها أيدت حكومة صوفيا، بما فيها اليونان (الديمقراطية). وعندما انهار النظام الشيوعي وتسلم المحافظون والليبراليون في بلغاريا الحكم اشترطت واشنطن رفع المظالم السابقة عن المسلمين مقابل تقديم معوناتها لهم.
أما في يوغوسلافيا فالأمر كان أكثر جلاء. فواشنطن أيدت منذ البداية استقلال البوسنة، ودعمت مطلبها وحقها في الانضمام إلى الأمم المتحدة. وعلى رغم الضغوط الجبارة التي بذلها اليهود والأرثوذكس في أميركا طوال العام الماضي لصالح الصرف فقد ظل الموقف الأميركي يتميز بتعاطف نسبي يزيد قليلاً عن الموقف العام لدول أوروبا والغرب.
أما في كوسوفو فالموقف الأميركي شديد الوضوح والحزم. ويمكن الحديث هنا عن «خط أحمر» وضعته واشنطن أمام الصرب وأعلنته بحزم وقوة وهو أنها لن تسمح للصرب بتكرار جرائمهم وسياستهم في البوسنة فيه. وهذا الخط الأحمر على حدود كوسوفو هو الذي حمى في الواقع تحركات الشعب الألباني في كوسوفو لاختيار مؤسساته القومية، كذلك إجراء عملية انتخاب رئيس للدولة في هذا الإقليم في نهاية أيار (مايو) الماضي. وهي عملية تميزت بحضور حشد من المراقبين لا مثيل له في أي مكان آخر أو في مناسبة مماثلة في البلقان، حين حضر أكثر من ثلاثة آلاف مراسل صحفي غالبيتهم من الولايات المتحدة، وحضر مراقبون يمثلون عشرات المنظمات الأميركية: الكونغرس، مجلس النواب، وزارة الخارجية، اتحاد المحامين، منظمات حقوق الإنسان، وغيرها كثير.
وكانت وفود من هذه الجمعيات والمؤسسات دأبت على زيارة كوسوفو منذ عام 1989 ورفع تقارير عن الأوضاع فيها، تتسم جميعها بتأييد تام لتطلعات السكان الألبان، وتندد بسياسة بلغراد وممارسات جيشها الذي يحتل الإقليم. وتصاعدت هذه المواقف حتى بلغت ذروتها في الإعلان الذي أذاعه الرئيس السابق جورج بوش في العام الماضي مراراً وأكد فيه أن أميركا ستتدخل بالقوة في حال إقدام الصرب على استخدام القوة والعنف ضد الألبان في كوسوفو.
والواقع أن خطة أميركا لبناء تحالف مع المسلمين في البلقان يعتمد اعتماداً كبيراً على ألبانيا والألبان، نظراً إلى أنهم أقوى وأكبر الشعوب الإسلامية في المنطقة، وأكثرهم قوة وشجاعة، فضلاً عن أنهم يملكون دولة مستقلة معترفاً بها. وهو ما تؤكده سياسة واشنطن تجاه الألبان منذ سنوات.
وعلى رغم أن النظام الشيوعي في ألبانيا تأخر في السقوط نحو عامين بعد الأنظمة الشيوعية الأخرى، فإن واشنطن لم تتعامل بقسوة وشدة مع نظام رامز علي، بل ضغطت عليه برفق ولين لإجراء انتخابات ونقل السلطة تدريجياً إلى القوى الديمقراطية الجديدة. وحتى حين زوّر النظام نتائج الانتخابات واحتفظ بغالبية مقاعد البرلمان ومقاليد السلطة، فإن واشنطن حافظت على الأسلوب نفسه.
وفي وقت من عام 1990 جرت مفاوضات سرية بين ألبانيا والولايات المتحدة استضافتها أنقرة ولعبت فيها دور الوسيط. وأكدت أميركا للألبان أن بإمكانهم الاعتماد عليها إذا ما أجروا نقل السلطة إلى الأحزاب الديمقراطية. وأعربت لهم ـ وهذا هو الأهم ـ عن تعاطف واشنطن مع التطلعات والطموحات المشروعة للشعب الألباني في استعادة وحدته القومية (أي استعادة إقليم كوسوفو إلى ألبانيا).
ويذكر أن استجابة أميركا لتطلعات الألبان للوحدة مع كوسوفو مبنية على إدراكها أن هذه الوحدة هي السبيل الوحيد لإعادة بناء ألبانيا كقوة سياسية مؤثرة في محيطها الألباني أو الأوروبي.
وفي السياق المذكور جاءت خطوة علنية أخرى من جانب واشنطن ذات دلالات عميقة، حين قام وزير الخارجية السابق جيمس بيكر بزيارة تيرانا في المرحلة الانتقالية، وقبل أن يسقط النظام الشيوعي فيها. وهي زيارة لا تفسيرها بالعوامل الاقتصادية، فألبانيا دولة صغيرة وفقيرة ومتخلفة، ولن تجد أميركا فيها كثيراً من المغريات والمقبلات! ولو كانت هذه العوامل هي الأساس لكان بيكر زار دولاً أغنى وأهم اقتصادياً في المنطقة، مثل بلغاريا أو رومانيا أو يوغوسلافيا، وهي كلها لم يزرها بيكر أو أي مسؤول أميركي رفيع (باستثناء زيارة يتيمة لبوخارست)، مما يقطع بأن زيارة تيرانا ذات أغراض سياسية قصدت بها واشنطن إبلاغ دول المنطقة أن ألبانيا الضعيفة والمتهاوية ليست لقمة سائغة لأطماعها. وفيما بعد تبينت القيمة الفعلية لهذه الخطوة حين كشف أن اليونان كانت في مطلق 1991 قد أعدت جيشها وحزمت أمرها لغزو ألبانيا واقتطاع جنوبها الذي تسكنه أقلية أرثوذكسية ـ يونانية. وكانت زيارة بيكر لتيرانا متقاربة زمنياً مع الخطة اليونانية، وقيل أيضاً أن واشنطن حذرت أثينا بأقوى العبارات.
في مواجهة الوحدة الأوروبية
في المحصلة النهائية، نخلص إلى أن السياسة الأميركية الخاصة بالبلقان تبني جسوراً راسخة مع كل من تركيا، ألبانيا، الأقليات المسلمة في بلغاريا واليونان ويوغوسلافيا. والحق أن أنقرة لعبت دور الوسيط والعراب في بناء هذه الجسور بين واشنطن والمسلمين في البلقان، وهي ما زالت تقوم بدور المنسق الإقليمي بين الطرفين. فهذه الدول أو الشعوب أو الفئات تجمعها الآن مصلحة مشتركة في مواجهة مشروع الوحدة الأوروبية حتى وإن اختلفت على أشياء أخرى في ما بينها، غير أنه لا شيء يوحي بأن تلك المصلحة قصيرة المدى، بل كل شيء يوحي بأنها ستكون طويلة ودائمة، إلا إذا غيرت الدول الأوروبية سياستها ونظرتها تغييراً جذرياً وجوهرياً تجاه الأتراك والمسلمين في البلقان، وإعطائهم الموقع والدور الطبيعيين في أي بناء إقليمي، أو قاري، وكذلك تحسين معاملة الأقليات الإسلامية، والتركية والألبانية في دول البلقان خصوصاً، وفي أوروبا عموماً، وتخفيف الطابع المسيحي، والعرقي للمشاريع الأوروبية.
ولأن ذلك لا يتوقع حدوثه، على الأقل في المدى القريب، فإننا يجب أن لا نستغرب إذا وجدنا الولايات المتحدة في الفترة المقبلة تتحول إلى محام قوي عن حقوق المسلمين في البلقان وأكثر مما رأينا في صدد قضية البوسنة c
عن «الحياة» 27/02/1993
1993-03-08