مع رحلة للحج زمن الخلافة العثمانية
2012/10/29م
المقالات
3,359 زيارة
مع رحلة للحج زمن الخلافة العثمانية
لقد سار الخلفاء من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم على نفس المنهاج في تعيين أمير للحج وجعله مؤتمراً إسلاميا ًكبيراً. ولنستعرض رحلة الحج زمن الدولة العثمانية حيث لم تكن وسائط النقل الآلية مؤمنة (براً وبحراً وجواً)، كانت بلاد الشام بموقعها الجغرافي مركز تجمع للحجاج المسلمين القادمين من العرب والفرس والأكراد والتركمان والهنود واليزبك والجرجانيين والشركس والألبان والبيشناق والأفغان، وبعض أبناء جنوب شرق آسيا الذين يأتون براً. وسائر البلدان الإسلامية الشرقية، نظراً لأن الطريق البري بين دمشق والحجاز هي الأقصر لقوافل الحجاج المتوجهين لأداء فريضة الحج، وكذلك للقوافل والرحلات التجارية منذ القديم وقبل الإسلام.
كان الإعداد والتحضير لمحمل الحج يبدأ قبل موسم الحج بثلاثة أشهر، وكانت الدولة العثمانية وعلى رأسها السلطان العثماني (خليفة المسلمين) تهتم به اهتماماً زائداً وتوليه عناية فائقة. ويكلف الباب العالي لجنة مخصوصة رفيعة المستوى ترتبط مباشرة بالصدر الأعظم «رئيس الوزراء» مهمتها متابعة أمور المحامل في الأقاليم الإسلامية والإيعاز لولاة البلدان والأمصار بتلبية طلبات واحتياجات المحامل وتوفير الأمان لها وتسهيل أمور القائمين عليها؛ لأن هيبتها من هيبة الدولة.
وتبدأ أمهات المدن الإسلامية مثل القاهرة وبغداد ودمشق بالتحضير والتجهيز لمحاملها، فيعين الوالي أمير الحج من رجاله المشهود لهم بالكفاءة والتقوى، ومن ثم يبدأ أمير الحج باختيار أعوانه ورجاله مثل قاضي المحمل وقائد سرية الحراسة وأمين الصرة «صرة أميني» ورئيس الكتبة «باش كاتب» ورئيس الميرة والتموين ومسؤول الحملة «الحملدار» وهو المسؤول عن الطباخين والعمال، ويتم اختيار مسؤول البيارق والطبول «البيرقدار» وحامل العلم هو «البيرقجي». ومن ثم يقوم أمير الحج «باشا الحج» بعرض الأسماء على الوالي للموافقة. «ثم تبدأ مراسم الحج في اليوم الأول لعيد الفطر في دمشق، ويبدأ العمل بإخراج السنجق، وهو عبارة عن قطعة من القماش المتين، وقد كتب عليه بالخيوط الذهبية الآيات القرآنية، حيث يوضع في مكان تجمع الحجاج وتبدأ «مراسم الزيت والشمع والمحمل» التي تجمع لنقلها لمكة والمدينة، حيث تصطف الفرق العسكرية أمام المسجد الأموي، وتؤدي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري، وبعض كبار الموظفين، وبعد الانتهاء تجري حفلة إخراج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين. انطلاقاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر بإرسال الزيت لبيوت الله.
وفي «يوم الزيت» وهو الثاني من شوال كل عام، يتم الاحتفال بنقل الزيت إلى المستودع الخاص بأدوات محمل الحج.
وفي اليوم الثالث من شوال (يوم الشمع) فينقل الشمع وماء الورد لإهدائه إلى الحرمين، وفي يوم السنجق، يُخرج السنجق الشريف «الراية» أو «اللواء» وينقل باحتفال مهيب إلى دائرة المشيرية ليستقبله المشير ويضعه في قصره.
أما اليوم الرابع من هذه المراسم، فهو (يوم المحمل)، حيث يخرج موكب الحج الشريف مع المحمل والسنجق إلى وسط دمشق استعداداً للرحيل، حيث يوضع (المحمل) على ظهر جملٍ جميل الشكل قوي وعال لا يستخدم لأي عمل سوى الحج، ويحمل إضافة للمحمل الكسوة السلطانية إلى الكعبة الشريفة، ثم يتوافد الحجيج على مكان المحمل ويشتري كل حاج جملاً أو أكثر إضافة إلى جمال الدولة التي تعاقدت على شرائها لرجالها ولجندها المرافقين لمحمل الحج.حيث تسير قافلة أمير الحج في طريقها إلى مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي اليوم الثالث تشترك الحكومة المحلية بصورة رسمية، فيحضر المشير والوالي وكبار الضباط والعلماء والموظفين ومشايخ الطرق وقطاعات مختلفة من الجيش والمدارس بأجمعها وذلك لوداع المحمل الشريف، وينطلق هذا الموكب مع السنجق في احتفال كبير.
أما الكسوة الشريفة فقد كانت تصنع من قِبل صنّاع مهرة يقيمون بدمشق ويتقاضون رواتبهم من الدولة، وكانت الدولة العثمانية تتحمل نفقات الحج، وتعهد بإمارته لواحد من كبار رجال الدولة، ويهيئ هذا الأمير للخروج بالحج، قبل حلول الموسم بثلاثة أشهر، فيقوم بجمع المال اللازم والتخطيط للرحلة للمحافظة على الحجاج ويرعاهم، وكان كبار رجال الدولة في مختلف أنحاء الدولة العثمانية يتوقون إلى هذا اللقب.لإدراكهم أهمية المنصب وقيمة ركن الحج.
وتتكون قوافل الحج الشامي من عدة فئات تقوم بخدمة الحجاج والسهر على راحتهم وحمايتهم، ولكل من هذه الفئات وظائفها: فالسقاة، كانوا يحملون القرب لنقل المياه من البرك والآبار إلى الحجيج. والبّراكون، هم أصحاب الدواب التي تنقل الحجاج وتكون من البغال والبراذين. والعكّامة وهم أصحاب الجمال والهوادج التي تنقل الحجاج أيضاً، وأصحاب المشاعل، وهم حملة القناديل ومشاعل الزيت، وطائفة أصحاب الخيم، ولكل هؤلاء رؤساء ومعاونون كثيرون، مهيؤون لتأمين راحة الحجاج، والجنود يسهرون ويحرسون.
كان أمير الحج يخرج على رأس موكب الحج بين 15–17 شوال، ويتخذ أسهل الطرق: فتلتقي قافلة الحج الشامي من الطريق ثم يتلوها قافلة الحج الحلبي، ومعهم حجاج المسلمين العجم، وكانت رحلة الحج الشامي تستغرق أربعة أشهر من شوال حتى صفر.
أما الجردة فتختار الدولة العثمانية أحد وزرائها أو أحد ولاتها ويدعى «سردار الجردة» لإعداد قافلة الجردة، وهي قافلة مؤن تُعد لإسعاف الحجاج في طريق عودتهم إلى بلاد الشام خشية أن يكون ما عندهم منها قد نفد. والجوخدار: هو أحد رجال أمير الحج ويُعرف بالجوقدار يسبق قوافل الحجاج إلى دمشق ليبشر أهلها بسلامة القافلة إذا عادت سالمة، وهو ينفصل عن الركب في تبوك باتجاه دمشق في حراسة بعض الجنود متقدماً القافلة بسبعة أيام. وفي إثر الجوخدار يكون الكَتَّاب – وهو شخص يكلفه أمير الحج – ليحمل كتب الحجاج إلى ذويهم فيصل إلى دمشق بعد الجوخدار بثلاثة أيام وقد يكون لدمشق.
بعد انتهاء مناسك الحج، يتجمع الحجاج في المدينة المنوّرة حول المحمل والسنجق ويعودون في نفس الموكب الذي ذهبوا به، وحين يقارب وصولهم إلى دمشق، تستعد الحكومة والأهالي لاستقبالهم باحتفالات كبرى.
وفي العودة، يكون مع القافلة رجل يُدعى «أمين الصر»، والصر هو المال الذي ترسله الدولة العثمانية للولايات ولأشراف الحجاز ولرؤساء القبائل المرابطة في طريق الحج وبعض الهدايا التي كانت توزع على فقراء المسلمين بين الحرمين، ويحوي هذا الصر مختلف المتاع من أحذية ومحارم، وهي مناديل قطنية أو حريرية كان بعضها يصنع في دمشق أو تحضر من إستانبول، والعُقل، والعباءات والجوارب.
أما الدولة فتعين يوماً لاستقبال موكب الحج، يأتي فيه الناس مهللين مكبرين، فيصطفون على جوانب الطرق، وتطلق مدفعية قلعة دمشق عند وصول الموكب عشرين طلقة متقطعة، وتقام الاحتفالات باستقبال الحجاج. وبعد نزول الحاج عن هودجه ويقولون له بعد التهليل والتكبير: «حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً وتجارة لن تبور».
وقد كانت الدولة العثمانية حريصة على راحة الحجاج، فأنشأت الخط الحديدي الحجازي حيث وصل أول قطار إلى محطة المدينة المنورة قادماً من دمشق في الثاني والعشرين من شهر أغسطس سنة 1908 ميلادية في رحلة استغرقت زهاء خمس وخمسين ساعة. في زمن السلطان عبد الحميد الثاني كان إنشاء الخط الحديدي الحجازي الذي يصل دمشق بالمدينة المنورة عملاً مهماً لخدمة الحجاج المسلمين وتسهيل التنقل بين بلاد الشام والحجاز.
وقد أعلن السلطان عبد الحميد عن المشروع من دمشق إلى المدينة المنورة في أوائل أبريل من عام 1900م، بالإضافة إلى خط برقي يمتد بمحاذاته، وأقام دعاية واسعة له في العالم من حيث إنه كان بإضافة لهذا الهدف الديني كانت هناك أهداف أخرى هي تسهيل سفر الحجاج وتأمين راحتهم بربط البلاد الإسلامية بطريق حيوي وسهل، وإزالة مظهر الدولة العثمانية بمظهر العاجز أمام الدول الأجنبية. وتشديد قبضة السلطان عبد الحميد على الولايات التي يمر بها الخط وجعلها تحت السيطرة بأسرع وقت. وتعمير وتطوير المناطق الواقعة في مسار الخط وتطوير الزراعة وتنشيط اقتصاد الجزيرة العربية باتصالها ببلاد الشام وساحل البحر الأبيض المتوسط. ومساعدة التجمعات السكانية والقبائل الواقعة على مسار الخط.
ويذكر أنه بعد الإعلان عن المشروع وأهدافه، افتتح السلطان عبد الحميد الثاني الاكتتابات حيث تبرع بثلاثمائة وعشرين ألف ليرة عثمانية ذهبية. وتبرع شاه إيران بمبلغ خمسين ألفاً. وخديو مصر بكميات هائلة من الأخشاب ومواد البناء. وتشكلت جمعيات عديدة لمساندة المشروع، ففي الهند تشكلت مائة وست وستون جمعية لمساندته وجمع التبرعات له. وقد أرسل أهالي مدينة لكناو مبلغ اثنين وثلاثين ألف ليرة عثمانية، وأهالي رانجون ومدراس مبلغ ثلاثة وسبعين ألف ليرة. وأرسل الميرزا علي من كلكوتا مبلغ خمسة آلاف ليرة، ومثله جريدة الوطن في لاهور. ثم أعلن السلطان عن منح أوسمة وشارات وألقاب لمن يتبرع للخط. وتبرع الموظفون براتب شهر كامل من راتبهم، وأحدثت الطوابع التذكارية له. وجمعت جلود الأضاحي وبيعت لمصلحة الخط، كما أوقفت عليه أراض ومشروعات أهمها ينابيع الحمة المعدنية ومرفأ حيفا. وقد نجح المشروع نجاحاً كبيراً لم يكن أشد المتفائلين يتوقعونه، ولولا تبدل الأوضاع السياسية، وخاصة خلع السلطان عبد الحميد الثاني لوصل الخط إلى مكة المكرمة وينبع وجدة واليمن كما خطط المشرفون عليه آنذاك.
وبدأ العمل في الخط في شهر سبتمبر من عام 1900م، أي بعد الإعلان عنه بنحو ستة أشهر وذلك في القسمين: دمشق درعا و درعا مزيريب في آنٍ واحد. واستغرقت أعمال الإنشاء لكامل الخط حوالى سبع سنوات إلى عام 1908م حيث تم إنجازه إلى المدينة المنورة فقط، وكان من المُقرر أن يصل إلى مكة المكرمة. وفي المرحلة الثانية عن طريق جدة، ثم إلى عدن في اليمن كمرحلة ثالثة.
إلا أن هذه الفكرة تم صرف النظر عنها، وبقيت المواد اللازمة لإنشاء المرحلتين الثانية والثالثة في مستودعات المدينة المنورة حتى عام 1916م، واستخدمت فيما بعد لصيانة الخط ولتمديد خط فلسطين مصر الذي أنجزته الحكومة البريطانية. وعند نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914م استخدمت الدولة العثمانية هذا الخط في تنقلات جيوشها وعتادها الحربي، مما دعا الثورة العربية العميلة ضد الحكم العثماني، والتي شارك فيها الكولونيل لورنس الإنجليزي مع «الشريف حسين» إلى تدمير معظم أقسام الخط، وخاصةً في الأراضي الحجازية.
هكذا كان الحج زمن الخلفاء يرعونه حق رعايته، ويهتمون به أٍيما اهتمام ويعدونه اجتماعاً سياسياً كبيراً بالإضافه لمكانته الدينية.
فلنعد للحج مكانته الجماعية وعدم حصره بالتكاليف الفردية التي يريدها حكام الجور ومن خلفهم الاستعمار. فالظروف مهيأة، وتحرك الأمة له نتائج ممتازة حيث بدأت الأمة تلغي من قاموسها لغة الخوف والتهميش والإقصاء والتبعية. وهدمت بيديها حاجز الخوف الوهمي الذي كبلها لسنوات، وبدأت تنهي مرحلة الحكم الجبري. إن هذه الأمة التي تعتصم بحبل الله وتقف في وجه كل من يريد إقصاء إسلامها لهي أمة حية بعقيدتها الحية التي تجعل المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضاً بمشاعر واحدة، وتجعله يقف موقفاً أصيلا ً ضم جميع المسلمين تجسيداً للحديث الذي وصف المسلمين أنهم في توادهم وتراحمهم وتضامنهم كالجسد الواحد رغم محاولات الغرب الكافر وعملائه، الذي لا يزال يجند الإعلام والمفكرين والمثقفين ممن تستهويهم بضاعة الغرب، من الذين لا يبصرون الحل إلا منبثقاً من عقيدة فصل الدين عن السياسة، فتراهم يترجمون هذا الحراك السياسي للأمة على أنه التوجه نحو الديمقراطية والدولة المدنية والمزيد من الحريات، بينما هو في الواقع ترجمة لتطلعات الأمة النابعة من عقيدتها الإسلامية الغراء
وما الثورات إلا الخطوة الأولى إن شاء الله تعالى نحو نهضة الأمة وعودتها كما كانت شاهدة على الناس بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر ونشر دعوة الله. هذه الخطوة هي إشارة عملية نحو العمل الصحيح لوضع إطار صحيح لعملها نحو استئناف حياة إسلامية بإقامة دولة الإسلام. قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
2012-10-29