بقلم: محمد موسى
لم يأت النظام الدولي الجديد من فراغ، كما لم يولد بعملية قيصرية، فهو في حقيقته نظام دولي جديد قديم، جاء اثر تطور في العلاقات الدولية طويل، وصراع بين الدول الكبرى مرير ودام. لذلك فإنه لا يتسنّى إعطاء وصف مفهم للنظام الدولي الجديد من غير إعطاء صورة عن ماهية الموقف الدولي والنظام الدولي، ومن غير إعطاء لمحة معبّرة عن العلاقات الدولية التي أدت إلى ولادته. وقد بشّر بولادة النظام الدولي الجديد، معطياً له اسمه هذا، رئيسُ الولايات المتحدة الأميركية بوش، مما يعني أن النظام نظام الولايات المتحدة. لذلك فإن البحث يقتضي إعطاء لمحة عن الأعراف السياسية الأميركية وعن السياسة الأميركية وتطوّرها.
الدولة والمصالح في العلاقات الدولية
تصوغ الدولة مصالحها لاعتبارات ذاتية فتحددها على ضوء ما تريد حمايته أو ما تريد تحقيقه، ثم تصوغها في أهداف قابلة للتنفيذ، فتحمل تلك الأهداف للحلبة الدولة بما يسمى بالسياسة الخارجية. والمصالح التي تتبناها الدولة قد تكون مصالح للأمة بمجموعها، وقد تكون مصالح الفئة الأقوى فيها، وبهذا تضمن الدولة الدعم الخارجي لسياستها الخارجية. وهذه المصالح قد تكون مبدئية كنشر رسالة الأمة أو قيمها، وقد تكون مادية كالسيطرة على مناطق إستراتيجية أو مناطق غنيّة بالمواد الخام أو فتح أسواق تجارية. وقد تكون معنوية بحتة كاعتبارات العظمة الكرامة. وقد تتحكم الظروف الموقف في تحديد بعض هذه المصالح، وعند ئذ فإن على الدولة أن تدخلها تحت مظلة مصالح الأمة أو قيمها حتى تحظى بالدعم الشعبي.
وتضع كل دولة مصالحها على شكل سلّم حسب الأولوية، وتحتل قمة السلّم المصالح الحيوية. والمصالح الحيوية هي المصالح التي تكون الدولة عادة مستعدة للدخول من أجلها في حرب فورية مع الخصم، كالحفاظ على الاستقلال وعلى النظام وحدة الأراضي وحفظ هيبة الدولة من الإذلال المهين. وتطول قائمة المصالح الحيوية بما يتناسب مع قوة الدولة ومكانتها الدولية. ثم تأتي بعدها المصالح الثانوية مرتبة حسب الأهمية. وتجري المساومات الدولية في العادة على المصالح الثانوية، فمنها تكون الغنائم وعنها يجري التنازل إذا اقتضت الحاجة.
ولا تسعى الدولة لتحقيق جميع مصالحها الحيوية والثانوية في وقت واحد، وإنما تختار منها حسب إلحاح الحاجة وحسب الظروف، فهامش خيارات الدولة قد يكون واسعاً مما يتيح لها فرصة تعدد الخيارات والبدائل، وقد يكون ضيقاً مما يحتّم على الدولة انتظار الظروف المواتية لتحقيق بعض مصالحها. إلا أن الدولة الحيّة تعمل على إيجاد الظروف المواتية لا أن تنتظر عدويها. ولدى بعض الدول الكبرى وعلى رأسها أميركا إدارات للأزمات مهمتها خلق الأزمات للغير تهيئة للظروف.
من هنا كان من الطبيعي أن تختلف مصالح دولة ما عن مصالح دولة أخرى، بل وأن تتغيّر بعض مصالح الدولة الواحدة من وقت لآخر، فما تراه اليوم مصلحة قد لا تراه غداً كذلك، والعكس صحيح. لذلك تقوم الدولة من وقت لآخر بإعادة صياغة مصالحها. وقد تتطابق مصالح الدولتين وقد تتناقض في حالات معينة أو ظروف معينة. ولكن جميع المصالح لا تتطابق أو تتناقض في جميع الحالات أو على الدوام، حتى أن مصالح المتحاربين قد تلتقي في جعل الحرب محدودة. ومن هنا فإن حلّ مصالح الدول هي مزيج من التوافق والتنازع، مما يجعل الصراع بين الدول حتمياً ودائمياً وليس حالة عرضية أو مرضية تبرز بين الفينة والأخرى على شكل نوبات، ومما يجعل الصفقات الدولية بين الدول تحت مكاناً بارزاً في العلاقات الدولية.
وتتشكل العلاقات بين الدول بناء على ما توليه تلك الدول من أهمية لمصالح معينة فإن هي غلّبت المصالح المتوافقة فأبرزتها ساد الوئام والسلام بينها، وإن سعت إلى تحقيق تلك المصالح أقامت الأحلاف فيما بينها. وإن غلّبت المصالح المتناقضة فأبرزتها ساد التوتر، وإن سعت إلى تحقيق تلك المصالح المتناقضة فجّرت الحروب فيما بينها. وكما تجد الدول المتصارعة وحتى المتحاربة من المصالح ما تتفاوض عليه، تجد الدول المتحالفة من المصالح ما تتصارع عليه. فالدول المتصارعة تتساوم، والدول المتحالفة تتصارع.
والسلام في العلاقات الدولية مصلحة، ولكنه لا يُطلب لذاته، والمناداة به لذاته دجل وخداع. ويكون السلام مطلباً إذا كان يحقق الأمن ويحقق مصالح. وإذا طلب من أجل ذاته فإنه سيكون على حساب الأمن وعلى حساب المصالح فيكون سلام الذل والمهانة. ويبقى الأمن على الدوام من المصالح الحيوية، وبتوفره يتوفر الحفاظ على المصالح، والأمن نسبي، فلا يوجد أمن مطلق لأية دولة ما دام هناك مجتمع دولي وبخاصة في عصر السرعة، عصر الصواريخ العابرة للقارات والطائرات بعيدة المدى الحاملة لأسلحة الدمار الشامل الجزئي. والأمن المطلق لأية دولة يعني عدم الأمن للدول الأخرى، فإن سعت دولة ما لتحقيق الأمن المطلق فإنها تثير التوتر الدولي لأنها بعملها هذا تعرّض أمن الدول الأخرى للخطر. ومع أن الأمن نسبي إلا أنه لا بد من أن يحقق في حده الأدنى المصالح الحيوية والأساسية وإلا لا يعتبر أمناً، ولكونه نسبياً فإنه يختلف من دولة لأخرى، وذلك على ضوء قوة الدولة أو ضعفها أو على ضوء كثرة المصالح الحيوية للدولة أو قلتها.
وتحدد المبادئ التي تعتنقها الأمم لهذه الأمم أهم مصالحها الحيوية، لأنها تحدد لها رسالاتها وقيمها التي ستحملها للأمم الأخرى، فتعطي بذلك لدول هذه الأمم بُعْدها الدولي، فتكون الدولة دولة محلية أو إقليمية أو عالمية حسب رسالتها. والدولة ذات الرسالة العالمية دولة عالمية بغض النظر حجمها أو قوّتها ابتداء. فلم يكد الرسول A يرسِّخ دولته في المدينة وما حولها حتى بعث برسله إلى ملوك العالم، وعلى رأسهم قيصر الروم وكسرى فارس، يدعوهم إلى الإسلام، ولم تكد الدولة الإسلامية تستقر في الجزيرة العربية حتى سيّر أبوبكر t الجيوش لمنازلة دولتي اليوم والفرس، أعظم دولتين في ذلك الوقت. ويحيط بالجزيرة العربية من جهات ثلاث بحار هادرة لم تكن للعرب دراية بها وبركوبها، بينما يحيط بها من الجهة الرابعة بحر من الرمال الشاسعة. ومع كل هذه الصعوبات خرجت الجيوش الإسلامية الفاتحة لأعظم إمبراطورتين. وإذا دل ذلك على شيء فإنما يدل على قوة الرسالة وقوة الإيمان بالرسالة وبالمسؤولية عن هداية العالم.
ومثال آخر أن روسيا القيصرية كانت ابتداء دولة محلية تعمل على توحيد العنصر الروسي، ثم أضافت لنفسها بعداً جديداً محدوداً عندما جعلت من نفسها مسؤولة عن الجنس السلافي الذي يشكل العنصر الروسي جزءاً منه، ثم وسعت هذا البعد عندما جعلت من نفسها حامية للنصارى الارثوذوكس فأصبحت قوة إقليمية كبرى. ولما حل النظام الشيوعي محلّ النظام القيصري وأصبحت روسيا تعمل على إيجاد الثورة العمالية العالمية، فقد أصبحت دولة عالمية.
عناصر قوة الدولة
تؤثر الدولة في قرارات الدول الأخرى، وفي المسرح الدولي بفعل قوّتها. وهذه القوة يعتورها التغيّر والتبدّل فيتغيّر تأثيرها سلباً أو إيجاباً تعباً لذلك. وقوة الدولة لا تنحصر في القوة العسكرية. وإنما هي تشمل كل ما تستطيع الدولة حشده لحماية مصالحها وبلوغ أهدافها. فالدول لا تفتأ تستعمل القوة بعضها ضد بعض، أو تلوّح باستعمالها. وحتى إن لم تستعملها أو تلوّح باستعمالها فإن مجرّد وجودها له تأثيره على الدول الأخرى، إذ لا يمكن لدولة ما أن تتجاهل احتمال استعمال دولة أخرى لتلك القوة، فهي تمثّل تهديداً محتملاً، وهي تلوح دائماً وراء تصرفات الدول في العلاقات الدولية. ودرجة استعمال تلك القوة، أو التلويح باستعمالها يعتمد على المصلحة موضوع المساومة أو الصراع، وعلى الخصم الذي تستعمل ضده تلك القوة. ولا قيمة للقوة إذا لم تكن هناك إرادة لاستعمالها.
والعناصر المؤثرة في قوة الدولة، بل المكونة لها هي:
1- وجهة النظر عن الحياة: وهي المبدأ والأيدلوجية والقيم العالية، وهي رسالة الأمة لغيرها من الأمم، وهي تبني شخصية الأمة وتوجهاتها وتطلعاتها العالمية، وتحدد الكثير من مصالحها. فالأمة المبدئية تحسّ بل وتؤمن بمسؤولياتها عن غيرها من الأمم، فتعدّ نفسها لذلك الدور، وتصوغ مصالحها على مستوى العالم.
والمبادئ لا تعترف بالحدود، فهي تنتقل مع الأفراد وعبر رسائل الإعلام بأنواعها، حتى أنها لتنتقل مع الهواء، فينتقل أثر الدولة ونفوذها إن لم ينتقل سلطانها مع انتقال مبدئها العالمي حتى في الدولة الخصم، مما يعطيها قوة على الساحة الدولية. وكما يساهم المبدأ في صياغة المصالح فإنه يحدد كيفية سلوك الدولة مما يعطيها شخصية متميزة وأثراً فاعلاً.
ودون المبدأ قوة وشمولاً القيم التي تتمثل بها الدولة. وقد تكون القيم جزءاً من مبدأ، وقد تكون أثراً من آثاره، كالفردية والحرية والديمقراطية. وكما يشكل المبدأ شخصية الأمة فإنه يصوغ حياتها بنمط معين ويصبغها بصبغة معينة فيجعل منها مثلاً يحتذى من قبل الآخرين أو ينفرّهم منه حسب صلاح المبدأ.
كما يمكن أن يدخل في هذا الباب قوة الدعاية. والدعاية أداة لنشر المبدأ والقيم ووجهة النظر ونمط العيش. وحسن الدعاية له أثر فاعل في إيجاد الرأي العالم العالمي المؤيد. كما يمكن أن يدخل في هذا الباب التجربة التاريخية للأمة التي ساهمت في بناء تجربتها وصياغة توجهاتها. فهناك أمم توجهها عسكري كالألمان، وهناك أمم توجهها تجاري وسياسي كالانجليز. كما ويمكن أن يدخل فيه العامل المعنوي الذي يأخذ صفة الشمول في الأمة حتى يصبح سمة من سماتها. فالايطاليون لا يحتملون الصمود في القتال، والفرنسيون كانوا ينهارون لدى أول هجوم ألماني.
ولا بد من التنويه إلى أن من المبادئ ما يكون أداة من أدوات الدولة تستعمله في تحقيق مصالحها وتتخلى عنه جزئياً أو كلياً إذا فشل في ذلك كالرأسمالية والشيوعية. ومنها ما تكون الدولة أداة له، فهو قبل الدولة، وهو يحدد مصالح الدولة وتوجهاتها وعلاقاتها كالإسلام.
2- العامل الاقتصادي والتكنولوجي: فالاقتصاد شريان القوة، وسرعان ما تتحوّل القوة الاقتصادية إلى قوة عسكرية. وقد أصبحت التكنولوجيا تمثل فتحاً قوياً في قوة الدولة ومنها القوة العسكرية. وقد تجسّدت القفزات النوعية في التكنولوجيا إلى قفزات نوعية في الصناعات مما أوجد هوة واسعة بين الدول المتقدمة والدول المتأخرة من العسير جسرها. فالتفوق التكنولوجي يعني تفوقاً في الأسلحة الفتاكة مما يؤثر في ميزان القوى. والمزاوجة بين الاقتصاد القوي والتكنولوجيا المتقدمة تولد القوة، لذلك فإن الدولة التي تجمع بين الأمرين تحقق لنفسها القوة المركز الدولي. ويحتل هذا العامل مكانة جعلت باحثاً مثل بول كنيدي يجعل منه السبب الأول في صعود الدول للقمة وفي أفولها. ولأهمية التكنولوجيا تعهد الدول المتقدمة إلى إنفاق أموال خيالية على مراكز الأبحاث.
ومن جهة أخرى فإن الدولة بقوة اقتصادها تستطيع أن تؤثر في العلاقات الدولية، وذلك بتقديم القروض والمساعدات الاقتصادية، لدرجة أن تقديم المساعدات أصبح بعد الحرب العالمية الثانية أسلوباً جديداً للاستعمار، بها تربط الدولةُ المقدّمة الدولَ الأخرى بها وتؤثر في قراراتها لصالحها. وقد بذّت أميركا غيرها من الدول في هذا المجال فربطت الكثير من الدول الفقيرة بعجلتها بالمساعدات. وكانت تجبر الدول الفقيرة على أخذ المساعدات إن وجد منها من يرفض أخذها. وقد زاد عدد الدول التي كانت تتلقى المساعدات الأميركية في وقت من الأوقات عن مئة دولة. ومن هذا الباب تحاول أميركا أن تجعل إسرائيل تتنازل عن أمور تراها إسرائيل حيوية لها.
وقد كان لهذا العامل الأثر الأكبر في صعود أميركا للقمة، وفي انهيار الاتحاد السوفياتي بالرغم من أنه يعادل في قوّته العسكرية قوة الولايات المتحدة لأن هذه القوة العسكرية لم تكن ترتكز على أساس اقتصادي وتكنولوجي متين.
3- العامل الديمغرافي: وهو عدد السكان والمؤثرات فيهم، وتوجهاتهم، أي نسبة التكاثر عندهم، وهيكلهم، أي النسبة بين الرجال والنساء، ونسبة الشباب فيهم. وهذا عامل مؤثر في قوة الدولة. ويبرز أثره أكثر إذا تساوت الدول في الأمور الأخرى. وقد كان هذا العالم مؤثراً في قولة الدولة الألمانية بالنسبة لفرنسا، فقد كانت ألمانيا أكثر سكاناً وأسرع تكاثراً. ولأهمية هذا العالم تعمد الدول الكبرى المستعمرة والطامعة إلى إغراء شعوبها على زيادة النسل بتقديم المساعدات للمواليد، وبزيادة المساعدات كلما زاد عدد المواليد للعائلة، أي أن المساعدات طردية، كما تعمد في الوقت نفسه إلى دفع دول العالم الثالث، وبخاصة الدول التي قد يبرز منها خطر في المستقبل كالبلاد الإسلامية، على تحديد النسل كمعالجة لفقرها بدل أن تأتي معالجة الفقر من حفاظ على الثروات من نهب الدول الكبرى، ومن استغلال حقيقي لهذه الثروات، ومن التصنيع الفعّال.
4- القوة العسكرية: القدرة العسكرية هي القدرة القتالية للدولة، وهي تشمل جميع الموارد البشرية والمادية التي تستطيع الدولة حشدها للمعركة. ومقوّماتها العامل الديموغرافي والعامل الاقتصادي والتكنولوجي.
ومجرّد وجود القوة العسكرية يعني احتمال استعمالها، ولذلك فهي تلوح دائماً وراء جميع تصرفات الدولة الخارجية، وتتصدر الأعمال عند انهيار الدبلوماسية. والقوة العسكرية لا تنفصل عن إرادة استعمالها، فقوة الإرادة في استعمالها من قوّتها أي قوة لها، وضعف الإرادة ضعف لها. والقوة العسكرية هي إحدى أدوات السياسية، بها تفرض الدول إرادتها على الخصم في صراع الإرادات في الميدان، إذ الحرب استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى، وبها تلوّح الدولة لإجبار الخصم على تقديم التنازلات المرضية، وبها تردع الخصم عن القيام بعمل معاد. لذلك فإن القوة العسكرية هي عنوان قوة الدولة وأبرز عناصرها، تعطيها الدولة جلّ عنايتها، فتقدّم المدفع على الرغيف، فبالمدفع تصان الكرامة وتصان الحقوق.
والقوة العسكرية ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة من أجل غاية، فهي وسيلة لتحقيق المصالح والدفاع عنها. وحتى لا تبقى العلاقات الولية علاقات حرب دائمة، تقوم كل دولة عادة برسم الخطوط بين ما تحتمله وما هي مستعدة للدفاع عنه بالقوة، فتنذر الخصم بعدم الاقتراب من نقطة اللاعودة. وقد أدت التكنولوجيا إلى قوة نوعية في الأسلحة مما جعل التحضير للحرب لا يأخذ وقتاً مكشوفاً، فالهجوم المباغت وحرب الإجهاض والحرب الوقائية تبقى ماثلة، مما يستدعي أن تبقى القوات العسكرية لأية دولة في يقظة تامة وفي العادة لا تبقي الدول جميع قواتها تحت السلاح، وإنما تكتفي بقوة كافية لردع الخصم. ولكنها تحتفظ في الوقت نفسه بأنجح السبل وأسرعها للتعبئة العامة.
ويشكل الاستعمال الفعلي للقوة العسكرية في العادة الملجأ الأخير للدولة، فتلجأ الدولة لاستعمال قوّتها العسكرية بعد أن تفشل أدواتها الأخرى كالدبلوماسية. والضغوط الاقتصادية، والمناورات، والتهديد باستعمال القوة.
وقد مثّلت الأسلحة النووية ووسائل حملها من صواريخ وطائرات بعيدة المدى فتحاً جديداً في القوة العسكرية. والأسلحة النووية أسلحة هجومية أوجدت تغييراً في التفكير العسكري، كما أوجدت مأزقاً عسكرياً لعدم التوصل إلى أسلحة مضادة لها، أي عدم القدرة على الدفاع الفعال أمام استعمالها. والحل الوحيد المتوفر للدول يكمن في الردع، فتحاول كل دولة الحصول على سلاح نووي إن لم يكن من أجل الهجوم، فمن أجل الردع. وكما يشكل استعمال القوة العسكرية الملجأ الأخير فإن استعمال الأسلحة النووية يبقى الملجأ الأخير في حال استعمال القوة العسكرية، وهذا من شأنه أن يبقي للأسلحة التقليدية هامشاً واسعاًن بل يبقى استعمال القوة التقليدية هو الخيار الوحيد إذا تساوت قوة الخصمين النووية، أو إذا تحقق لكل منهما القدرة على إصابة الآخر بالدمار الشامل أو بأذى لا يمكن احتماله.
وسيبقى سباق التسلح في العالم، وتطوير الأسلحة، واكتشاف أسلحة جديدة، يندفع على جميع المستويات. وما يقال عن تفكير في نزع شامل للأسلحة النووية لا يزيد عن دغدغة لعواطف الرأي العام العالمي، ولإبقائه حكراً على بعض الدول الكبرى، فالسلام العالمي بين الدول الكبرى يقوم على الرادع النووي.
5- العامل الجغرافي: ويشمل اتساع البلد وموقعه الجغرافي، والطبيعة الجغرافية لأرضه، ومناخه. فصعوبة العيش في الجزيرة العربية أثرت قديماً في بناء الإنسان من حيث قوة التحمّل والقدرة على القتال، كما قللت رمالها وصحاريها من إمكانية غزوها. واتساع روسيا وكثرة الدول المجاورة لها مكّن روسيا من التوسع في جهات متعددة، فكانت تتوسع في أوروبا، فإن أعياها ذلك توسعت في الشرق وفي الجنوب. وقد ساهمت ثلوج روسيا في هزيمة كل من نابليون وهتلر. وكان لبحر المانش الذي يفصل بريطانيا عن أوروبا الأثر الأكبر في حماية بريطانيا من غزوات الدول الأوروبية. كما أن موقع أميركا الحصين المحاط بالمحيطات أكسبها قوة وحماها من غزو الدول الكبرى في أوروبا وفي آسيا بعد استقلالها عن الدول الأوروبية. أما موقع بولنده بين جارين قويين، ألمانيا وروسيا، فقد أدّى لاقتسامها أربع مرات من قبل جيرانها. فبسبب الموقع تسلّط أمم على أمم وشعوب على شعوب. ومن هنا فقد احتلت سياسة المناطق العازلة والدول العازلة مكاناً واضحاً في العلاقات الدولية. وقد ضعف هذا العامل أمام الأسلحة المتطورة فأصبحت الحدود الآنفة من أفكار الماضي، كما ضعفت سياسة الدول والمناطق العازلة في السياسة الدولية.
6- الدبلوماسية: تتكون المؤسسة الدبلوماسية في الدولة من قسمين:
1- الدائرة الحكومية التي تعهد إليها الدولة بتنفيذ السياسة الخارجية، مثل وزارة الخارجية.
2- البعثات الدبلوماسية في الخارج المتمثلة بالسفارات وما يقوم مقامها، أي الرسل بين الدول بجميع أنواعهم.
وعمل الدبلوماسيين هو تنفيذ السياسة الخارجية وإدارة العلاقات السياسية وليس صنعها. كما أن من عملها تقديم المعلومات والمشورة لصانعي السياسة الخارجية لتساعدهم في رسم السياسة الصحيحة. وحتى يتسنّى لهم ذلك فلا بد لهم أن يخترقوا البلد الذي يعيشون فيه، وأن يوجدوا لأنفسهم صلات قوية بصانعي القرار وراسمي السياسة في ذلك البلد وبأركانه المؤثرين فيه حتى يكونوا على دراية بكل ما يجري فيه، فيعرفون مصالحه الحيوية، وتوجهاته السياسية وصلاته. لذلك يختار الدبلوماسيون من نوعية معينة ويخضعون لثقافة خاصة. وعمل الدبلوماسية الرئيس هو المفاوضات، والمفاوضات تعني المساومات، والمساومات تعني التسويات، والتسويات تعني تقديم تنازلات للآخرين والحصول على تنازلات من الآخرين، فهي عملية ربح وخسارة والدبلوماسي الناجح هو الذي لا يدفع أكثر مما يريد ولا يحصل على أقل مما يريد.
والمساومة السياسية كالمساومة التجارية، فيعرض البائع السلعة بأكثر مما يريد بيعها به حقيقة، ويدفع المشتري أقل مما يريد دفعه فيها فعلاً، وأمهرهما من يستطيع تغطية موقفه أكثر. وعلى المفاوض أن يتصف بالصبر والمصابرة وطول النفس، إذ قد تمتد المفاوضات شهوراً وقد تمتد سنين، لأن كلا الطرفين يريد أكثر مما يكون الطرف الآخر مستعداً للتنازل عنه.
وتكون المساومات في المصالح الثانوية ولا تكون في المصالح الحيوية، لأن المصالح الحيوية ليست موضع مساومة، وإنما تحارب الدولة من أجلها. لذلك ليس على المفاوض أن يعرف فقط موقع المسألة المتفاوض عليها من مصالح بلده، وإنما أيضاً موقعها من مصالح المفاوض الآخر. وقد يكون في نيّة المفاوض الآخر العدوان، وأنه لا يريد تسوية عند نقطة في الوسط يلتقيان عندها، وإنما يريد فرض ما يريد، فإذا قدمت له تنازلات طالب بمزيد منها، فهو رسول حرب يريد خلق الظروف لتلك الحرب أو استسلاماً كاملاً للخصم بدون حرب، أي أن المفاوضات تكون معادلة للحرب، كما فعل هتلر في مفاوضات النمسا قبل ضمها، وفي مفاوضاته مع تشيكوسلوفاكيا.
وكثيراً ما تكون الدبلوماسية القوة، أي أن الدولة تدعم الدبلوماسيين المفاوضين بالقوة العسكرية، فتستنفر قوتها العسكرية وتنشرها وتلوّح باستعمالها في حال فشل المفاوضات وإذا لم يتنازل الخصم عن أمور معينة، كما لوّحت أميركا باستعمال قوّتها النووية إذا لم يجر الإسراع في المفاوضات حول كورية، وإذا لم تؤد المفاوضات إلى نتائج مرضية.
والحنكة في الدبلوماسية تشكل أحد مصادر قوة الدولة لأنها أداة للحصول على المغانم ودرء المفاسد والخسائر، منها تستطيع الدولة تجميع الأصدقاء وتفريق الخصوم وإيجاد الظروف المواتية لتحقيق الأهداف، فهي تعادل القوة العسكرية، وقد تعوّض الدولة عن ضعف قوتها العسكرية كما فعلت دبلوماسية مترنيخ لإمبراطورية النمسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وقد عانت الدبلوماسية التقليدية مؤخراً من الضعف بسبب تقليص الدول لدورها، واعتمادها عوضاً عنهم على المبعوثين الخاصين وبلقاءات القمّة، ويكاد ينحصر دورها في الوقت الراهن في الشؤون القنصلية ونقل الرسائل وجمع المعلومات والتجسس، والدسائس وإثارة الفتن. وإثارة الفتن تقتضي اتصالات السفارات بمراكز التوتر وفصائل الرفض في الدول التي تعمل فيها £
(يتبع)