بقلم: م. حمادي
يتعرض الإسلام وأحكامه ومفاهيمه، وخاصة الأساسية والكلية منها، إلى هجوم دائم وعنيف من الكفار وعملائهم في محاولة لجعل الثوابت الأساسية في الإسلام موضع بحث ونظر بشكل يجعل منها آراء مثلها مثل أي آراء أخرى، وتستوي الآراء في ظل الليبرالية الديمقراطية وتصبح آراء الأغلبية هي المصدر للأحكام والأفكار وكل ما يتعلق بوجهة النظر في الحياة، ويندثر بذلك الإسلام بوصفه الوحي الذي أنزله الله تبارك وتعالى على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لينظم علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره.
وتتم محاولة التبديل هذه تحت شعارات متعددة كالتطور والمرونة والعصرنة والتجديد وغيرها من الألفاظ الرنانة التي ليس لها مدلول ثابت محدد بل يمكن تفسيرها وتأويلها حسب ما تشتهيه النفس.
وفي هذا البحث المختصر نبين بإذن الله واقع الشريعة الإسلامية من حيث كونها شريعة الله الدائمة إلى يقوم القيامة، التي أوجب الله على جميع عباده بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم التعبد بها والعمل بمقتضاها دون تبديل أو تزييف، ومن غير زيادة ولا نقصان، ونبين أيضاً طبيعة تلك الشريعة التي تمثل في واقعها المعالجات الصادقة التي تكفل إشباع حاجات الإنسان باعتباره الإنساني، أي ذلك المخلوق الذي منحه الله العقل وجبله على غرائز معينة وانضبط في نطاق حاجات عضوية لا تتغير مما يدفعه للقيام بتصرفات وأفعال وأقوال من أجل إشباع هذه الحاجات العضوية وتلك الغرائز.
1- حفظ الوحي وتمامه يحتمان ثبات الشريعة:
إن بقاء الوحي على ما هو عليه يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتم بقاء الشريعة الإسلامية دون تغيير أو تبديل إلى يوم القيامة، لأن الشريعة الإسلامية هي وحي من الله تعالى أتمه وحفظه إلى أن يرث الأرض ومن عليها، والمسلم يكفيه لإدراك ذلك قول المولى جل وعلا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فقد حفظ الله هذا القرآن من أن يزاد فيه أو ينقص منه (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، ومنع القرآن، من الخلل والفساد وحفظه وإتقانه كل ذلك من معنى الإحكام الوارد في قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)، فالإحكام الإتقان والمنع من الفساد كما ورد في لسان العرب، وأحكم الله آياته أي منعها من الفساد والخلل والدخل والباطل وهو تفسير قتادة واختبار الطبري.
ومثله في إفادة هذا المعنى قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ). قال الشاطبي عند هذه الآية مبيناً أن الحفظ يشمل السنة كذلك، قال: [فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها، ولا يداخلها التغيير ولا التبديل، والسنة وإن لم تذكر فإنها مبينة له ودائرة حوله، فهي منه، وإليه ترجع في معانيها، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا، ويشد بعضه بعضا]. ثم ذكر أدلة أخرى على الحفظ، ثم قال [وهو كله من جملة الحفظ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل].
وقوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله مبيناً معنى هذه الآية (صِدْقاً) فيما قال و (عَدْلاً) فيما حكم، يقول صدقاً في الإخبار وعدلاً في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة، كما قال تعالى: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ)، (لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ) أي ليس أحد يعقب حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بحركاتهم وسكناتهم الذي يجازي كل عامل بعمله.
وهذا الحق والصدق والعدل الثابت التام الذي لا مبدل له والذي تمثله هذه الشريعة الربانية يقابله الضلال والظنون والباطل الذي تحمله شرائع البشر وأهواؤهم، فبعد أن قرر الله سبحانه أن كتابه هو الحق الثابت الذي لا مبدل له، بين سبحانه أنه أكثر أهل الأرض لا يتبعون إلا الظن والأوهام والباطل والضلال. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ).
وهذا الظن والوهم باطل وضلال لا قرار له ولا ثبات.
2- ثبات حقيقة الخالق والمخلوق مع انقطاع الوحي تحتم عقلاً ثبات الشريعة:
المقصود بلفظ الشريعة هنا مجمل الأحكام الشرعية التي شرعها الله تبارك وتعالى لعباده وأنزلها وحياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والغاية التي شرعت من أجلها الأحكام الشرعية هي هداية الإنسان للكيفية الصحيحة المقبولة عند خالق الكون والإنسان والحياة التي تتم بمقتضاها عملية إشباع الحاجات العضوية والغرائز وذلك في فترة وجوده في الحياة الدنيا والتي تمثل فترة الاختبار للإنسان والتي يعود بعدها إلى الحياة الدائمة الخالدة، إلا أن طبيعة هذه الحياة الدائمة الخالدة من حيث كونها نعيم دائم أو جحيم مقيم تتحدد بناءً على فترة الاختبار أي فترة وجوده في الحياة الدنيا والمقياس الذي على أساسه يكون الفوز أو الخسران هو التقيد بمجمل الأحكام الشرعية إلى جانب الإيمان بالعقيدة الإسلامية قال تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
وبالتالي يتبين بوضوح تام أننا أمام ميزان ومقياس فرضه الله خالق الكون والإنسان والحياة على الإنسان وأنه مقياس لجنس الإنسان بوصفه الإنساني سابق الذكر وطالما ظل الإنسان هو عينه الإنسان ذلك العاجز الناقص المحتاج والله هو هو الخالق البارئ المدبر الحي القيوم الرازق الوهاب المحيي والمميت وهو هو من إليه المصير والذي لا يوجد مبدل لكلماته ولا معقب لحكمه، يحتم العقل أنه بعد انقطاع الطريق الذي نعلم به أحكام الله وهو الوحي أن تكون الشريعة الإسلامية ثابتة دائمة إلى قيام الساعة فالثبات إذاً يفرضه ثبات طبيعة الإنسان وثبات حقيقة الخالق وثبات سنته وحكمه تبارك وتعالى.
3- ثبات الوقائع وطبيعة الأشياء يقتضي ثبات حكمها:
وقع فعل السرقة: السرقة في نظر الإسلام هي أخذ مال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه، على شرط أن يكون نصاباً يقطع عليه، وأن يخرجه من حرز مثله وأن لا يكون في هذا المال شبهة، وحكم فعل السرقة الحرمة وعقوبته قطع اليد وذلك لقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا)، ولما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا»، واليوم تطورت الوسائل التقنية وأدخلت الأجهزة الالكترونية كوسائل لحفظ الأموال وأصبحت السرقة عملية معقدة وتحتاج إلى مجهود عقلي وخبرة تقنية. فهل مثل هذا التطور في الوسائل المدينة يغير من حقيقة السرقة وواقعها كما وصفها الشرع؟
فإذا كانت الإجابة قطعاً بالنفي وإذا كان القرآن هو القرآن والحديث الشريف هو الحديث فلماذا إذاً التفكير بتغيير الحكم؟
أليس هذا الحكم هو المعالجة الصحيحة التي حددها المالك للثواب والعقاب والخالق للكون والإنسان والحياة؟
طبيعة الخمر: الخمر رغم تعدد أسمائها ومسمياتها وطرق تصنيعها وتغليفها وذلك كالويسكي والبيرة والشمبانيا والسكت والعرق وغير ذلك فإنها لم تخرج عن كونها شراب مسكر يخامر العقل حكمه التحريم، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حرمت الخمر» فهل يمكن هنا مجرد التفكير في تغيير ذلك الحكم أم أنه ثابت إلى يوم القيامة؟
4- الصحابة رضوان الله عليهم وثبات الشريعة:
كان من كبار الصحابة رضوان الله عليهم من يترك المندوب المستحب مخافة أن يعتقد الناس أنه واجب، وهذا منهم محافظة على ثبات الحكم الشرعي، لأن ما كان مستحباً ينبغي أن يكون كذلك ومن اعتقد أنه واجب بين له بالقول وبالفعل أنه غير واجب، فترك بعض الصحابة له بيان بالعمل على أنه ليس بواجب، وهذا البيان – وهو المحافظة على ثبات الحكم آكد – فهو إذن مقدم على فعل المستحب. ونضرب لذلك مثالاً يثبت ما نقصد إليه، ونكتفي ببيان موقفهم من “الأضحية” وهي مستحبة عند أكثر أهل العلم، وقد كان أبو بكر وعمر وأبو مسعود الأنصاري لا يضحون لكي لا يظن الناس أن الأضحية واجبة وحتم عليهم، روى أبو شريحة الغفاري قال: «ما أدركت أبا بكر أو رأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان – في بعض حديثهم – كراهية أن يتقدى بهما».
وكما لا يسوى المندوب والواجب حتى لا تتغير الأحكام وتتبدل كذلك لا يسوى بين المباحات والمندوبات ولا بينها وبين المكروهات، قال الإمام الشاطبي [المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أن لا يسوى بينها وبين المندوبات ولا المكروهات، والمكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات].
ومن أمثلة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم عن كراهيته لأكل الضب: «لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، وأكل على مائدته فأقر ذلك، فظهر أنه مباح الأكل، فلم يسو بينه وبين الحرام أو المكروه، وكذلك المكروهات لو سوي بينها وبين المحرمات لتوهمها الناس محرمات فإذا طال عليهم العهد صيروا تركها واجباً.
وبعد عصر الصحابة تجد عمر بن عبد العزيز رحمه الله يذكر بهذا المعنى في خطبته لما بايعه الناس حيث قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد كتابكم كتاب ولا بعد سنتكم سنة، ولا بعد أمتكم أمة، ألا وإِن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة، ألا وإِن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بمبتدع ولكن متبع …».
هكذا أيها المسلمون علينا أن ندرك معنى قول الله تبارك وتعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) وإنه مع انقطاع الوحي انقطع التشريع ومثله النسخ والتبديل والتغيير، فما كان حكماً لله فهو كذلك إلى يوم القيامة لأن هذه الشريعة وضعت على الكلية والأبدية، فلو تصور أحد بقاء الدنيا على غير نهاية لكانت هذه الشريعة حجة على جميع الخلق على الإطلاق والعموم.