الدعوة إلى الإسلام
1992/03/31م
المقالات
2,103 زيارة
في الحلقة السابقة قلنا إن الحزب أو الجماعة لا بد أن تقوم على العلم الشرعي، وطرحنا السؤال: ما هي حدود هذا العلم الشرعي، وما مدى أهمية فهم الواقع (المناط) من أجل تنزيل الحكم الشرعي عليه؟ وفي هذه الحلقة نبين، إن شاء الله، أن دور العقل هو أن يفهم الشرع الذي نزل به الوحي وليس أن يشرّع فالمصلحة يقررها الشرع وكذلك المفسدة. والقيام يضع الشرع له الضوابط. وفهم الأصول مقدم على فهم الفروع كما يتقدم الأصل على فروعه.
إن المصلحة، وهي جلب منفعة أو دفع مضرة، إما أن يقررها العقل، وإما أن يقررها الشرع. فإن ترك تقريرها للعقل استغلق على الناس تقرير الحقيقة وذلك أن العقل محدود. وهو لا يستطيع الإحاطة بكنه الإنسان وحقيقته. فلا يستطيع أن يقرر ما هو مصلحة له لأنه لم يدرك حقيقته حتى يدرك حقيقة الإنسان إلا خالقه. ولا يمكن أن يقرر مصلحته على وجه التحقيق إلا خلقه وهو الله سبحانه وتعالى. نعم إن الإنسان يمكنه أن يظن أن هذا الشيء مصلحة أو مفسدة ولكنه لا يمكنه الجزم بذلك. لذلك كان ترك تقرير المصلحة بناء على الظن يؤدي إلى الوقوع في المهالك. إذ قد يظن الشيء أنه مفسدة ثم يظن أنه مصلحة فيكون قد أبعد الخير عنه. وقد يظن الشيء أنه مصلحة ثم يظهر أنه مفسدة فيكون قد أوقع الضرر بنفسه. وقد يحكم العقل اليوم على الشيء أنه مفسدة ثم يتبين له غداً أنه مصلحة أو يتبين له أنه مفسدة اليوم بعد إن كان حكم عليه بالأمس أنه مصلحة، وهذا لا يجوز في الحكم على الشيء. فهو إما مفسدة وإما مصلحة للحالة الواحدة. وبهذا تصبح المصلحة اعتبارية أي باعتبار الناس لها والأصل أن تكون حقيقية. وهذا ما تشتهر به الأنظمة الوضعية، فواضعوها من البشر يتوخون بها الخير للناس. فإننا نراهم دائمي التغيير والتعديل في القوانين، حتى أصبح تطوير النظام من مسلتزمات حلهم لمشاكلهم لأنهم في الواقع لم يستطيعوا حتى الآن التوصل إلى الحكم على الأشياء والأفعال الحكم النهائي الصحيح. ومن هنا حكمهم بأن الذي لا يطور نظامه فهو جامد متحجر، ومن هنا نرى تأثر المسلمين بالكفار في هذه الناحية. فدفاعاً عن أنفسهم ودينهم ولبعدهم عن الفهم الصحيح لطبيعة الإسلام نراهم ينساقون مع عدوهم في تبني طبيعة التفكير هذه.
نعم إن الخالق وحده هو الذي يدبر أمر الإنسان ويحل له مشاكله الناشئة عن حاجاته وغرائزه ويشبعها الإشباع الصحيح. والمطلوب هو المعالجة الصحيحة المنطبقة على الواقع الذي معالجته، وبما أن واقع الإنسان هو هو لا يتغير فتكون معالجاته ثابتة لا تتغير، فالرجل من حيث هو رجل يحتاج بحسب طبيعته الثابتة إلى إشباع ميله نحو المرأة. فهناك علاقة يجب أن تنشأ بينه وبين المرأة، وبما أن الرجل والمرأة كواقعين هما ثابتان لا يتغيران، فالأصل في العلاقة أن تبقى ثابتة فليس من المقبول أن نضع نظاماً يحدد علاقة الرجل بالمرأة ثم نعود ونغير هذا النظام بعد فترة بحجة التطور طالماً أن واقعهما لم يتغير. وهكذا.
فالخمر كواقع هو هو لم يتغير فما الدافع لتغيير حكمه بعد حين؟
والميسر كواقع هو هو لم يتغير فما الدافع لتغيير حكمه بعد حين؟ وهكذا…
لذلك فإن التطور المرونة والعصرنة هي من مواصفات الأنظمة الوضعية التي لا تهتدي إلى الحق فهي ستستمر في عملية التغيير الذي يعبر عن عجز الإنسان في الاهتداء من عند نفسه إلى النظام الصحيح وهي ستعبر عن هذا العجز بتذويق لفظي من مثل التطور. ومن هنا رفض القاعدة المسماة شرعية (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان) بل ينكر.
ومن هنا فإن حكم الله في المسألة الواحدة واحد لا يتعدد. فإن تغير واقعها تغير الحكم تبعاً لتغير الواقع. فالعنب يأخذ حكم الإباحة ومتى تغير واقعه بأن أصبح خمراً تغير حكمه وصار محرماً ومتى تحول إلى خل احتاج إلى حكم آخر وهو الإباحة أيضاً ولا عبرة بالمكان ولا بالزمان. فلا يحرم الشيء في مكان ويحل في مكان آخر، وكذلك لا يحل الشيء في زمان ويحرم في زمان آخر فلا تأثير للزمان والمكان على الحكم الشرعي.
والشريعة الإسلامية حاوية لأحكام الوقائع الماضية كلها والمشاكل الجارية جميعها والحوادث التي يمكن أن تحدث بأكملها، حيث لا تقع واقع ولا تطرأ مشكلة ولا تحدث حادثة إلا ولها محل حكم فقد أحاطت الشريعة الإسلامية بجميع أفعال الإنسان إحاطة تامة شاملة، قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ) فهي إما أن تنصب عليه دليلاً من القرآن والحديث أو تنبه على الباعث على تشريعه، وهذا يحتاج إلى ذكر علة يدل عليها النص أي علة شرعية وليس العقل أي علة عقلية. وهنا يجب الوقوف قليلاً لبيان الفرق بين القياس العقلي والشرعي.
إن العقل يقضي التسوية في الحكم بين المتماثلات أو المتشابهات لذلك يجعل القيام موجوداً بين كل أمرين بينهما وجه شبه. ويفرق بين المختلفات أي يعطي أحكاماً مختلفة بين الأمور المختلفة.
وهذا على خلاف القيام الشرعي لأن الشرع كثيراً ما فرق بين المتماثلات وجمع بين كثير من المختلفات. فالشرع فرّق في المتماثلات بين الأزمنة ففضل ليلة القدر على غيرها من الليالي، وفرّق في المتماثلات بين الأمكنة كتفضيل مكة على المدينة، وكتفضيل المدينة على غيرها، وفرّق في الصلوات بين الرباعية والثلاثية في القصر فرخص في الرباعية ولم يرخص في الثلاثية ولا في الثنائية. وكل هذه لا مجال للعقل أن يماثل فيها. وأوجب الغسل من المني الطاهر والنظافة من المذي والنجس مع أنهما نزلا من مكان واحد. وجعل عدة المطلقة ثلاثة قروء وعدة المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر عشرا مع استواء حال الرحم بينهما. وجمع بين الماء والتراب في الطهارة مع أن الماء ينظف والتراب يشوه ويجل القتل عقوبة الزاني المحصن وعقوبة القاتل العمد وعقوبة المرتد مع وجود الفرق بينهما.
وكذلك بيّن الشرع أحكاماً لا مجال للعقل فيها فحرم بيع الذهب بالذهب بالتفاضل أو نسيئة وحرم لبس الذهب على الرجل دون النساء وكذلك الحرير. وحرم الربا وأحل البيع، وأجاز شهادة الكافر في الوصية وشرط أن يكون الشاهد مسلماً في الرجعة.
من هنا كان قول سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي عنه: «لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان باطن الخف أولى من ظاهره». هذه مقدمات لا بد منها للجماعة أو الحزب الذي يعمل لاستئناف الحياة الإسلامية. وكان لا بد أن يظهر في ثقافته كيف يفهم الواقع وتبيانه للناس حتى يقفوا على حقيقته وكان لا بد من تحديد المصادر الشرعية والقواعد الأصولية وتبنيها وتنشئة الشباب عليها لأن عملية تكوين عقليتهم يجب أن تنشأ على مثل هذه القواعد. وهذا أيضاً يكون جزءاً من ثقافة الجماعة. وكذلك كان لا بد من تبين الثقافة الأصولية والفكرية التي تحافظ على نقاوة الوحي وصفاء الفكر واستبعاد كل ما من شأنه أن لا يحافظ على الوحي صافياً من مثل (لا ينكر تغير الأحكام بتغيير الزمان والمكان) و(الضرورات تبيح المحظورات) بمعناه الشامل. و(الدين مرن ومتطور) و(حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله).
نعم هذا ما يجب أن تتبناه الجماعة كأصول لها تحكم نظرتها وفهمها للشرع قبل أن تتبنى الأحكام الشرعية المتعلقة بعملها. وليكون التقيد على ضوئها. حتى ترضي ربها.
وقد تتعد الاجتهادات في المسألة الواحدة. فعلى الجماعة أن تتبنى حكماً شرعياً في المسائل الخلافية بناء على قوة الدليل ، وأن تثبت عليه. وتعرف الجماعة بعدها بأصولها وفروعها. فتبني شبابها عليها وتنزل ساحة المعركة بها وتناقش بها، وتحمل الآخرين على تبنيها بالحجة والإقناع. وتعمل على الوصول لتحقيق غايتها بناء عليها وإلا فإنها ستشيع فكرياً وستتخبط في طريقة عملها.
وبحث المصادر والأصول مقدم على بحث الأحكام الشرعية المتعلقة بتغيير الواقع، فالجماعة سوف تعترضها مشقات وصعوبات هائلة أثناء سيرها في طريقها فيه إن لم تتبنّ في الصول وبشكل منضبط، وبحسب قوة الدليل، فإننا سنراها سريعة التقلب وسريعة في تغيير ما عنها، فقد تلجأ إلى الدخول في اللعبة الديمقراطية – كما يسمون – مع النظام الفاسد القائم والذي هو المشكلة والعقبة الرئيسية في وجه الدعوة، بحجة أن هناك أصلاً يوافق هذه التوجه وهو (أن شرع من قبلنا هو شرع لنا) والذي ألجأها إلى هذا التغيير هو صعوبة السير في الطريقة الشرعية الصحيحة، أو قد ترى أن عملها بأسلوب الجمعيات يوصلها إلى تغيير الواقع فتغرق في الأسلوب على حساب الطريقة أو قد تعتمد العمل المسلح لأن الظروف فرضت عليها هذا العمل وليس الحكم الشرعي.
فتبني الأصول والمصادر وإتباع طريقة الاجتهاد الشرعية الثابتة هي التي تقيْد الجماعة بها يريده الله وحده وليس بما يفرضه الواقع والظروف أو تمليه المصلحة.
وبهذا تتوصل الجماعة بعد تحديد طريقتها في التفكير الشرعي إلى تحديد طريقها في العمل.
وإلا تشعبت بها السبل، ولن يعبأ الله بمن تشعبت به السبل في أي وادٍ هلك.
والحزب أو الجماعة بعد أن تحدد مصادر ثقافتها وضوابطها لا بد أن تنتقل إلى تحديد هذه الثقافة على ضوء هذه المصادر والأصول التي تبثها.
فهي في بحثها المصادر والأصول تعمل على أن لا يختلط فهمها للشرع، وتعمل على أن تبعد كل ما لا يحافظ على نقاؤة الوحي، وتعمل على عدم تأثير الهوى على فهم الشرع، وعلى عدم تحكم العقل بالتشريع ولا يمكن البحث في ثقافة الجماعة من غير بحث المصادر والأصول التي تقوم عليها.
وبناء على ما تقدم يجب أن تنتقل هذه الجماعة إلى الواقع الذي تعيشه الأمة فتدرسه وتدرس ما فيه من أفكار – ومشاعر وأنظمة، لمعرفة مدى تجاوب الناس وتقبلهم لهذه الأفكار – ولهذه الأنظمة فالأمة غزيت من حيث الأفكار الكافرة التي صورها الكافر بأنهم الدسم الذي تحتاج إليه لتستعيد به عافيتها. والأمة حكمت سياسياً بحكام نواطير نصبهم الكافر المستعمر على رقاب المسلمين ليتسلط بهم على خيرات الأمة، وليمنع بهم أي عمل مخلص يهدد مصالحه، ويشكل خطراً على استعماره. وحيث أن الكافر الغربي المستعمر يعي خطورة العمل الجماعي المنظم على بقائه وتركزه، بث في الواقع أفكاراً تنفر من العمل الجماعي أو الحزبي وعمل بالمقابل على تشجيع الناس للقيام بالأعمال الجماعية الجزئية، والتي تعالج المشاكل الفرعية من مثل الفقر وفساد الأخلاق وكذلك فقد زعزع هذا الكافر الغربي ثقة المسلمين بدينهم من أنه هو المعالجة الصحيحة الوحيدة لمشاكل الناس حين فصل عند المسلمين عقيدتهم عن حياتهم وألزمهم هذا الفصل ومنعهم من العمل على إلغائه وهكذا. فعلى الحزب أو الجماعة أن تدرس الواقع وما فيه من أفكار ومشاعر وأنظمة دراسة عميقة دقيقة – كما أسلفنا – لتعرف على أي أرض تقف؟ وما هي طبيعة هذه الأرض؟ ولتعرف فيما بعد كيف تسير عليها، وما تحتاجه من معاول وآلات لتذليل عقباتها، وما تحتاجه من أسمدة ومواد لتستعيد إثمارها. فلا بد من فهم الواقع أولاً. وهذا بحد ذاته يشكل جزءاً مهماً من ثقافة الجماعة، لأن عليها أن تتبينه وأن تبينه لشبابها وللناس حتى لا يغفلوا عنه، وحتى يكون فيما بعد أهمية العلاج وصوابيته.
وبعد أن يتحدد الواقع الفكري والسياسي والاجتماعي الذي تعيشه الأمة تنتقل الجماعة إلى تبني الأفكار والآراء والأحكام الشرعية على ضوء الأصول والضوابط والمصادر الشرعية التي ذكرناها آنفاً وتبين للناس ولشبابها الطريقة التي توصلت بها إلى هذه الأفكار والآراء والأحكام الشرعية لأن من شأن ذلك أن يوجد القناعة والوعي والشخصية الإسلامية عند شباب الجماعة بشكل مركز وعند الأمة بشكل عام.
يتبع
1992-03-31