من الفكر الإسلامي: الرقابة واختلافها في مبدأ الإسلام عنها في مجتمع الغرب
1996/03/30م
المقالات
2,970 زيارة
إن المجتمعات المبدئية والتي تكون فيها القيادة للمبدأ سوف توكل فيها مهمة تطبيق المبدأ أو المحافظة على تطبيقه أو السهر على الانضباط والتقيد به إلى جهات مختلفة طبقاً للمهمات الموكولة لها أو للمسؤوليات المنوطة بعدتها، حتى تظل تلك المبدئية هي المكيفة للأجواء والضابطة للعلاقات والمسيرة لها.
وهذا الأمر لا خلاف فيه بين مبدأ وآخر، وإنما الاختلاف أتى من تعيين الجهات التي ستوكل لها هذه المهمات، وبالتالي اختلفت الأعمال الموكولة لها تبعاً لاختلاف وجهة النظر وتبعاً لصحة المبدأ أو فساده، فالمجتمعات المبدئية سواء أكانت إسلامية أم رأسمالية هي مجتمعات بشرية يعيش فيها بشر يختلفون في إيمانهم وكفرهم وفي فسقهم وتقواهم وفي صلاحهم وطلاحهم، وفي مدى تقيدهم أو عدم تقيدهم بما يقول به مبدئهم، والدول التي تمسك بالسلطان سواء نيابة عن الأمة كما في مبدأ الإسلام، أو أجيرة للأمة كما عند الغرب، هي دول بشرية ورجالها بشر ولذلك يجري عليها ما يجري على البشر من كون هؤلاء الحكام ليسوا ملائكة وإنما بشر ضعفاء محتاجون ناقصون، وتبعاً لذلك سوف يقوى تقيدهم بمدئهم أو يضعف وسوف يكون منهم المستقيم أو الفاجر، والصالح أو الفاسد، ولهذا فإن كل مبدأ عين طريقة إلى جانب الفكرة، وتبعاً لذلك كانت هناك طريقة لتنفيذ المبدأ وأخرى للمحافظة على ذلك التطبيق وثالثة لحمل المبدأ إلى المجتمعات الأخرى.
لذلك وجد في نظام الرقابة الذي اقره مبدأ الإسلام ما يسمى بالرقابة الذاتية أو عامل التقوى، فالتطبيق للمبدأ قبل أن يعتمد على قوة الجندي وصرامة القانون أو على الإطار القانوني الذي يمثل سيادة المبدأ كقضاة المظالم أو على القوى المتنوعة الموجودة في الأمة والتي تتحرك لتصحيح الأمور، فإنه يعتمد على عامل هام وهو حقيقي لا خيالي ووجوده ضروري ولازم، ألا وهو عامل التقوى. فالمسلم سواء أكان فراداً من الرعية أو حاكماً، بفعل العقيدة التي رسخت عنده يعلم أنه مقيد في فكره وسلوكه بما تقول به عقيدته، مما يجعل المسلم يدرك صلته بالله في كل حين ويعمل على تمتين وتقوية هذه الصلة دائماً وأبداً، طمعاً في دخول الجنة. هذا العامل الهام في الرقابة مفقود في المبادئ الأخرى، وهو أول ما يميز مجتمع المسلمين على سائر المجتمعات الأخرى.
لقد رفضت فتاة الانصياع لأمها في خلط اللبن بالماء وقاومت إغرائها لها حين قال إن عمر لا يرانا، فردت عليها الفتاة في يقين إن كان عمر لا يرَانا فرب عمر يرانا. فالذي دفع هذه الفتاة لعدم الغش ليس مخافة عقاب الحاكم لها فقط، وإنما مخافة الله، وهو ما دفع أيضاً عمر إلى القول: لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله لماذا لم أعبد لها الطريق. فعمر يعرف بداهة أنه مسؤول عن رعيته، وإحساسه بالمسؤولية لم يحصر بالبشر فقط، إذ كان يطعم الجائعين وبطنه تقرقر من الجوع، بل كان يخاف أن يسأل عن البهائم. وهو نفس الإحسان الذي دفع بهارون الرشيد إلى البكاء المر حين ذكره أحدهم وهو واقف بعرفة بأن هؤلاء الحجيج وغيرهم كل واحد منهم مسؤول عن نفسه، إلا هو فسيسأله عنهم أجمعين. فالتقوى إذاً هي مراقبة مدى مطابقة الأفكار والأفعال لما يقول به المبدأ، وإذا فقد هذا العامل أو أصبح نادراً فإن الأمر يصبح جد خطير، ويستشري النفاق والكفر والفساد، وتحتاج المسألة حينئذ إلى هزة فكرية عنيفة تعالج ما انحط من فكر الناس.
فبلا تقوى لا يوحد الإسلام ولا يطبق طبيعياً وهذا ما تفطن إليه الإمام علي كرم الله وجهه حين سئل لماذا عرفته فترة خلافته بالقلاقل والاضطرابات ولم تعرفها خلافة عمر رضي الله عنه ولا خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فرد قائلاً: كان يحكمان أمثالي وصرت أحكم أمثالكم. أي أن التقوى ضعفت وصار من السهل مخالفة أوامر الله ونواهيه. ورجوع علي كرم الله وجهه عن قتل مشرك بصق في وجهه مخافة أن يكون ذلك انتصاراً لنفسه، ليس كاتخاذ معاوية وعمرو بن العاص من قضية المطالبة بدم عثمان واجهة لانتزاع الخلافة من علي كرم الله وجهه.
وعامل التقوى هذا مفقود في مجتمعات الغرب وقد استعيض عنه بما يسمى بالضمير أو بالوازع الأخلاقي أو بنزعه الخيرة، وفي مجال العلاقات طلعوا بكذبة كبرى تسمى بالضمير المهني، ويفسرون مسألة الضمير بأن الإنسان عندما يرتكب الجرائم أو الشرور والآثام فهو يكون ميت الإحساس غير مدرك لخطورة ما اقترفه، وعندما يصحو من غفوته ويحيى فيه الإحساس يصبح واعياً على ما اقترفته يداه من جرائم فيهتف به من داخله هاتف يؤنبه ويوبخه ويجعله يندم على أفعاله الشنيعة ويسعى للتكفير عن ذنوبه بالتوبة عن تلك الأفعال وبالإكثار من أفعال الخير، فهم يصورون الضمير على أنه كائن ولد عندما استرجع الإنسان إحساسه المفقود، ولهذا يصفون المجرمين واللصوص وفاسدي الأخلاق ومرتكبي الآثام والشرور بأنهم منعدمو الضمير،وفي المقابل يصفون من يظنونهم نزيهين وشرفاء وفاعلي الخير بأنهم أصحاب ضمير صاح متيقظ. وهو قول فاسد إذ لو حاولوا فهم هذا الأمر بعمق لتوصلوا إلى التفسير الصحيح، فالحقيقة أن المبدأ الرأسمالي يجعل المصلحة أساس العلاقات وبتركيزه على القيمة المادية باعتبارها القيمة الوحيدة التي يسعى لتحقيقها داخل المجتمع فهي التي تنهضه، وبنظرته الضيفة للحياة على أنها من أجل تحقيق الإنسان لرغباته المادية فقط. فبقدر تغلغل العقيدة الرأسمالية ومنها هذه الأفكار في النفوس بقدر ما تتحول مجتمعاتهم إلى غابات تجمع الوحوش الكاسرة والسباع المتوحشة والنمور الواثبة والحيات اللادغه والزواحف السامة، وعلى هذا فإن الشخصية الرأسمالية هي التي جعلت مجتمعات الغرب يكثر فيها الفساد ويعمها الكفر والفسق وتتركز فيها الآثام والمعاصي والسرقات والرشاوي، وهذه هي حقيقة مجتمعات الغرب، ولن تصحو ضمائرهم إلا وهم في نار جهنم يتلاعنون – حال بقائهم على الكفر – (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)، (قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).
ثم إن مجتمعهم مجتمع طبقي في الأساس، والأموال والامتيازات بين أفراد طبقة الرأسماليين، بينما الباقون محرومون منها، ولا يحصلون إلا على ما يبقيهم خدمة أصحاء يتفانون في سبيل أعرافهم الجشعين، وبما أن هذا المجتمع تسوده الأنانية وحب الذات وعلاقاته قائمة على المنفعة، فإن مصالح العمال ومصالح الأعراف سوف تتعارض وسف يشعر العمال بأنهم ليسوا سوى أداة طيعة يفنون أعمارهم وقوة شبابهم وزهرة سنينهم في العمل المضني من أجل الحصول على شيخوخة مرهفة، في حين أن الأعراف يزدادون ثراء ويتمتعون بإنتاج عمالهم في كل حين، وسني حياتهم كلها متع ولذائذ ورحلات وسهرات، ولذلك حسب هذا المنطق فإن العمال والموظفين سوف يتكاملون وسوف يتبرمون من العمل، ولتفادي هذه النتيجة ابتكروا فكرة الضمير المهني حتى يتحمس العمال ويقبلون على العمل وعلى الإنتاج والموظفون على تقديم الخدمات والإسراع في تنفيذها ورصدوا جوائز مثل جائزة العامل المثالي والموظف المثالي ورصدوا منحاً للإنتاج.
ثم إن هذا المجتمع تنعدم فيه القيم من إنسانية وأخلاقية ومعنوية وبما أن الوصول إلى استقرار سياسي واجتماعي وما يسمى بالأمن والسلم الاجتماعيين يتطلب تحقيق بعض هذه القيم المنعدمة ابتكروا أساليب لتحقيق ما يحتاجونه منها إذ أن الرأسمالي قد يتصدق حتى لا يفكر الآخرون في سرقته، وهكذا نادوا بالأخلاق المهنية والأخلاق السياسية والأخلاق الصحفية والأخلاق الرياضية… في مجتمع اللا أخلاق.
وفي المقابل فإن التقوى في الإسلام حقيقة وليست مسألة مثالية وهي متأتية لأي كان، ولم يخل عصر من عصور الإسلام من أتقياء حقيقيين سعوا لنيل رضوان الله تعالى فاتصفوا بعليا الصفات وقدموا التضحيات العظيمة وأتوا بجلائل الأعمال، ليس طمعاً في منفعة أو للرياء أو لأن هذه الأشياء جميلة لذاتها كما في حضارة الغرب، وإنما ابتغاء مرضاة الله، فالإخلاص الخالص الذي يجرد الأعمال من كل هوى ومن كل نية فاسدة لا يمكن أن يوجد إلا في مبدأ الإسلام. فأي خير في مبدأ يربط بين معتنقيه برباط المنفعة، وهي رابطة مؤقتة وتكون عرضة للمساومة على مصلحة أكبر منها، وأي خير في أناس تربوا على الأنانية وحب الذات.
أنواع الرقابة في المبدئين:
في نظام الإسلام الأصل أن يطبق المسلم الأحكام الشريعة بدافع تقوى الله، والحاكم إذا رأى عصياناً أو فسقاً أو كفراً أو تعد على حرمات الله أو على حقوق الآدميين فإنه يتدخل بإيقاع الحدود وبالتعازير، والخليفة مع أنه يسهر على تحقيق ذلك إلا أنه يعمل بالأول على أن يقضي على دواعي الانحراف في مجتمعه، فالفقر قد يؤدي إلى الكفر، والظلم إلى العصيان والثورة، ولذلك فقد كان لبعض الخلفاء أعوان يختلطون بالناس ويتعرفون إلى أحوالهم مشاغلهم وهمومهم ويتولون رفع ما يتذمر منها الناس وما يشكون منه وماذا يرجون ويأملون من حاكمهم، ومطالعة الخليفة بذلك. كل ذلك من أجل أن يتصدى الخليفة وأعوانه لمشاكل الناس ولمتاعبهم اليومية فيريحون الناس مما يثقل كاهلم. أوليس الخليفة بأب العيال وهو المسؤول عن رعيته، ومن ضمن رعيته اليتامى والأرامل والضعفاء والمحرومين والمساكين والمتعبين والعجزة، ألم يكتب عمر إلى أمراء الأجناد قائلاً: لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تحرموهم فتكفروهم ولا تجمروهم فتفتنوهم ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم، ألم يفرض عمر للمنفوس مائة درهم وفرض له رزقاً يأخذه وليه كل شهر، ثم ينقله من سنة إلى سنة، وكان يوصي بهم خيراً ويجعل رضاعهم ونفقتهم من بيت المال. ألم يحلف عمر قائلاً: والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاً حظه من هذا المال وهو مكانه، ألم يجعل الخليفة عمر رضي الله عنه من نفسه حارساً رفقة بن عوف لقافلة من التجار نزلت المصلى حتى لا يسرقوها، ولما سمع بكاء صبي طلب من أمه أن تحسن إليه فيكف عن البكاء، ولما عاود الصبي البكاء وعاود عمر مخاطبة أمة ضاقت به وقالت: إني أريغه عن الفطام فيأبى، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهر، قال: ويحك لا تعجليه، فصلى الفجر وما يستبين الناس من قراءته من غلبة البكاء، فلما سلم قال: يا بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر منادياً فنادى: ألا لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. ألم يقل أيضاً: والله لأزيدن الناس ما زاد المال لأعدن لهم عدا فإن أعياني كثرته لأحثون لهم حثواً بغير حساب، هو مالهم يأخذونه.
هذه هي الرعاية الحقة وهذه هي المراقبة العامة لأحوال الناس، فعمر تارة يعس بالليل حتى يأمن الناس على أموالهم وأرواحهم وتارة يتفقد أحوال الرعية ويتنسم أخبارهم ويتعرف مشاكلهم، وهذه هي سيرة الحكام في دولة الإسلام ومراقبتهم للأحوال العامة للناس ولمدى حسن رعايتهم لشؤونهم ومدى انضباط الناس وتقيدهم بأحكام الشرع، والوقوف بالمرصاد لكل خروج على أحكام اله ولكل تعد على حرماته وعلى حقوق الآدميين، كل ذلك حتى تبقى العلاقات داخل المجتمع مسيرة بالأحكام الشرعية فتظل دائماً وأبداً تسير وتوجه وتقيد وتضبط بها. وكان الخلفاء يستعينون بمن يعاونوهم على ذلك فلهم أعوان يترصدون أحوال الناس ويراقبون مجريات الأمور ويتعرفون على مشاغل الناس وكانوا يتخذون من عدول الناس محتسبين يجوبون الأسواق ويمنعون أي تعد على حدود الله وعلى حقوق الناس، ويبطلون أي غش أو أي مخالفة لأحكام الشرع ما لم تكون حدوداً أو جنايات، والقضاة يتولون الإخبار بأحكام الله في الحدود والجنايات، وقضاة المظالم يتولون ردع الحكام المخالفين للأحكام الشرعية ويعملون على إنصاف الرعية من أي ظلم قد يلحقهم من الحاكم وأعوانه، بل لقاضي المظالم وهو الممثل لسيادة الشرع أن يخلع الخليفة إذا نقض تلك السيادة أو خرقها، هذا إلى جانب الجماعات السياسية والتي تتكون للدعوة إلى الخير وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي تراقب أي تنكب في الفكر لدى الناس وأي مخالفة للشرع من الحكام والأعوان ومن الناس فتقوم بالتصويب والتصحيح والتغيير، حتى يظل كل شئ في المجتمع موافقاً للشرع ومسايراً له، وحتى يقع تجنب كل خروج عنه وكل مخالفة له. ولمجلس الشورى ومجالس الولايات أدوار من هذا النوع، إذ أن أعضاء هذه المجالس وهم وكلاء في الرأي عن الناس يعرفون مشاكل الناس ومشاغلهم عن قرب وكثب وهم عيون الأمة على الحكام والولاة يراقبون مدى خضوعهم للأحكام الشرعية ومدى مخالفتهم لها وحيئنذ ينـزعون إلى المحاسبة وإلى القيام بواجب التغيير.
والخلاصة أن الحاكم يراقب الأمة ويراقب مدى تقيدها بالشرع وأعوانه في ذلك عيونه الذين وإن كانوا يستطلعون أحوال الناس ويتعرفون على مشاغلهم، فإنهم ليسوا جواسيس يتتبعون خطى الناس ويكشفون عوراتهم، وللمحتسبين دور هام في هذا المجال والشرطة والعسس يراقبون الأمن، وأي إخلال به، حتى إذا رأى الحاكم إخلالاً منه في رعاية الشؤون أو عدم التصدي لمشاكل الناس ومتاعبهم تدارك الأمر، وبذلك يحصن سلطانه مصداقاً لقول رسول ملك الروم لعمر: عدلت فأمنت فنمت. وإذا نزع الناس إلى مخالفة أوامر الله ونواهيه وجافتهم التقوى وجدوا الحاكم لها بالمرصاد، فيتولى إيقاع الحدود عليهم أو تعزيرهم أو تغريمهم وسجنهم، ورجال الحاكم في هذا الأمر القضاة.
والأمة تراقب الحاكم وتراقب مدى تقيده وخضوعه للأحكام الشرعية، وكل أفراد الأمة يفعلون ذلك. أليست الأمة مخاطبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أليست مخاطبة بإزالة المنكرات باليد إن وجدت؟ أليست مخاطبة بإيجاد أحزاب سياسية تتولى الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أليست مأمورة بالثورة على الحاكم إذا كفر أو إذا طبق الكفر؟ والحقيقة أنه لا تكفي الأحزاب ولا يكفي فرادى الأمة بل نجد نواب مجلس الأمة ونواب مجلس الولايات الذين هم عيون الأمة ووكلاؤها في الرأي وطليعتها وربما أهل الحل والعقد فيها، وهم عيون الأمة على الحاكم وأعوانه حتى يظلوا خاضعين للشرع ومقيدين به. والمسالة لم تحسم على هذا الشكل لأنه قد تتنازع الأمة والحكام، وهنا يأمر الشرع بأن تكون النصوص الشرعية هي الحكم وهي الفيصل (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، والطريقة لذلك قاضي المظالم الذي يراقب مدى انضباط الحاكم وأعوانه ومدى تقيدهم بالأحكام الشرعية ويعمل على بقاء السيادة للشرع وعلى إنصاف أفراد الرعية الذين يصيبهم ظلم الحكام وجورهم، ولك هذه ضمانات حقيقية لبقاء السيادة للشرع ولتقيد وخضوع كل الناس حكاماً ومحكومين للأحكام الشرعية.
ونظام الرقابة هذا يوافق الفطرة ويقر ما فيها من عجز واحتياج ونقصان، وهو الوحيد الصالح لضبط الأجواء وتكييفها بالمبدأ. أما في المجتمع الرأسمالي فبما أن نظامهم يخالف الفطرة، ومعالجاته تفرز مشاكل، والمشاكل الجديدة تتطلب معالجات، فمثلاً الأصل في الحضارة الغربية أنها لا تقول بالأخلاق ولا يوجد فيها الإيثار وحب الخير، وكل مجتمعات الدنيا لا تحتاج فقط إلى القيم المادية بل تحتاج إلى كل القيم الأخرى من أخلاقية وإنسانية ومعنوية، ألم تجعل فكرة الحريات ومنها الحرية الشخصية الأغلبية العامة من أفراد المجتمع الغربي لقطاء وجعلت جيوشهم يباح فيها اللواط فتنخرها الأوبئة، ونتج لهذا التدهور الأخلاقي كثر الفساد والانحراف وغلب الفساد وكثر تعاطي المخدرات والمسكرات، ومراقبوهم يمدوهم بالأرقام المرعبة في الانتحارات وفي تعاطي الأفيون وفي دخول الفساد إلى المؤسسات التربوية والصحية، فرقابتهم لما يحدث في مجتمعهم جعلت مفكريهم يدقون جرس الخطر؟ فماذا فعلوا؟ أوجدوا شرطة لمقاومة فسادة الأخلاق ولمقاومة الإجرام ولمقاومة الاختلاسات والرشاوى والتحيلات، والشرطة الاقتصادية، وشرطة لمقاومة أعمال الخيانة للأمة والتعامل مع الأعداء فسموها سلامة أمن الدولة، فانحرافات مجتمع الإشباع الشاذ أو الخاطئ عديدة ومتنوعة فاضطرت السلطات لإيجاد فرق من الشرطة مختصة ليس فقط في مراقبة ومقاومة هذه الانحرافات بل تعتمد كل الوسائل من تجسس وتصنت على التليفون ومن تعذيب… ولكن المصيبة أن رجال هذه الفرق هم أناس من جنس مجتمعهم.
وحتى في نطاق التشريع فقد خيف من تسلط الحكومات على الشعوب بإصدار قوانين لا شعبية أي تخالف مصالح الأمة والفئات الضعيفة منها أو تزيد في إفقار الناس أو تتراجع عن المكاسب التي تحققت للناس أو تكبلهم بضرائب جديدة، فأوجدوا نوعاً من الرقابة على الدولة سموها المحاكم الدستورية، ومهمتها النظر ومراقبة القوانين التي يسنها الحكام هل تطابق مواد الدستور والتي تقر بالحريات الأساسية والحقوق الأساسية للمواطن، ولكن فساد عقلياتهم يجعل هذه الإجراءات عديمة الجدوى، فمثلاً كل حكامهم يعملون على تقوية اقتصادهم وعلى دعم عملة بلادهم وهذا يتطلب القيام بإجراءات آلية لن يتحملها سوى الضعفاء وعامة الناس، فينظرون لأن تكون الدولة قوية بعملة قوية واقتصاد جيد ولأن تكون البلاد غنية بثرواتها وإنتاجها وسلعها، ولكن كل ذلك على حساب رفاهية المواطن الضعيف المسحوق، والرأسماليون كعادتهم لن تطالهم هذه الإجراءات والضرائب، فالمجتمع الغربي هو مجتمع أناني وميكيافيلي، وسائر العلاقات فيه تسيطر عليها أجواء الشك والريبة وإساءة الظن، فقد اشتهرت الأوساط السياسية بالفساد وسقوط الذمة، والحكام تورط معظمهم في فضائح الرشاوى وتزييف الانتخابات أو الإثراء الغير مشروع أو الاختلاسات من الأموال العامة مما جعل وسائل الرقابة تتعدد وتتكاثر، فالصحافة تقف بالمرصاد للحكام فتنبش فضائحهم حتى إذا أمسكت خيطاً استغلته ضمن عناوين بارزة ناسجة حول الفضيحة قصة مثيرة، والصحفيون يندسون في أوساط السياسيين، وكل الأوساط لمراقبة ما يحدث ولتصيد الفضائح، وتعمد الصحافة إلى شراء الذمم من أجل الحصول على المعلومات. والكثير من الناس ومنهم الحكام تحاكمهم الصحافة قبل رجال القضاء، فتكون التحقيقات الصحفية هي التي تدينهم لا أدلة الإثبات. ومن أمثلة تلك الفضائح: فضيحة واترغيت، إيران غيت، فضيحة الدم الملوث بفرنسا. ومن أمثلة لجان المراقبة في مجتمع الحضارة الغربية: لجان مراقبة تمويل الأحزاب السياسية، ولجان المراقبة الصحية، ولجان مراقبة سير الانتخابات والإشراف المحايد على صناديق الاقتراع، ولجان مراقبة التلوث البيئي وضبط مدى ضرر المواد الصناعية التي تضر بطبقة الأوزون، ولجان مراقبة الأفلام ومنع الأطفال من مشاهدة الأفلام المرعبة والأفلام الجنسية والأفلام البوليسية، ولجان مراقبة عمليات البيع والشراء بالمزاد العلني والمناقصات الدولية.
هذه هي الحياة في الحضارة الغربية وهذه هي وسائل الرقابة فيها، فالغربيون لا يعالجون المشاكل بل يقدمون حلولاً تفرز مشاكلاً، فاضطروا للرقابة ولمراقبة لجان المراقبة والنتيجة أن هذه الإجراءات قد تنجح وتحد من تدهور الأوضاع في مجتمعهم، ولكنها إجراءات مؤقتة لا تصلح على المدى الطويل فيعاودون الانحدار والانحطاط.
أما عن المجتمع الإسلامي فالأحكام الشرعية توافق فطرة الإنسان وتشبع الإشباع الصحيح بدون كبت ولا إطلاق، ونظام الرقابة في الإسلام جاء كذلك ليوافق هذه الفطرة، والجهات المراقبة فيه تستطيع أن تحقق فعلياً الغرض الذي وجدت من أجله وهو المحافظة على المبدأ وعلى تطبيقه وعلى حمله، وتستطيع أن تحافظ على تقيد الأشخاص والمجتمع والدولة بالمبدأ والخضوع والتسليم بما يقول به. ثم إن موضوع الرقابة في الإسلام واضح ومحدد وهو مراقبة مدى مطابقة أو عدم مطابقة الأفعال والأفكار للأحكام الشرعية ولمفاهيم الإسلام، وطريقة المراقبة سهلة وتتطلب فقط المعرفة بالأحكام التي نراقب موافقة الأعمال لها والأفكار التي نراقب موافقتها أو انبثاقها عن العقيدة. ولذلك فدور المحتسب والحاكم والقاضي والأحزاب والأفراد والنواب والقضاة وقاضي المظالم مراقبة مدى التقيد بأحكام الشرع أو مدى المخالفة لها، أما في الحضارة الغربية فالمراقبة ليست حقيقية ولا عملية زيادة على أنها قد تنجح مؤقتاً ولكنها لن تفيد على المدى الطويل.
عن أبي مريمَ الأذريَ رضي الله عنه: أنه قال لمعاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ولاهُ اللهُ شيئاً من أُمور المسلمينَ، فاحتجبَ دون حاجتهم وخَلَّتِهِم وفَقرهِم، احتجبَ الله دُونَ حَاجَتِه وخَلَّتِه وفَقرِهِ يَوْمَ القيامةِ».
رواه أبو داود، والترمذي
1996-03-30