آثار الصلح مع اليهود (2)
1997/02/02م
المقالات
1,885 زيارة
الأثر الاستراتيجي
إن الصلح مع اليهود قد أفقد الأمة توازنها، وأوجد فيها تخلخلاً يصعب ملؤه ذاتياً، فوجود كيان يهودي معترف به في قلب المنطقة الإسلامية أدّى إلى تقطيع أوصال الأمة وفقدانها لأدنى درجات التناسق والتكامل، ذلك أن دولة اليهود جسم غريب في قلب مجتمعات متجانسة ومتحدة أيديولوجياً وحضارياً وتاريخياً، وبقاء هذا الجسم وتقويته يفقد الأمة هذا التوازن الذي نعمت به ثلاثة عشر قرناً ونيفاً.
لم تؤثر الحملات الصليبية استراتيجياً على تماسك مجتمعات المسلمين بالرغم من احتلال الصليبيين لبلاد الشام واستيطانها، وذاك لسبب واحد هو: عدم اعتراف المسلمين بحق الصليبيين في الوجود، ولذلك لم تؤثر المدة الطويلة التي مكثها الصليبيون في البلاد الإسلامية على الإطلاق.
وكذلك إنشاء الكيان اليهودي في فلسطين لم يؤثر استراتيجياً على مجتمعات المسلمين المترامية الأطراف من حوله ولو طال بقاؤه مئات السنين، وإنما الذي أثر استراتيجياً هو اعتراف المسلمين بالكيان اليهودي أي اعترافهم بحقه في الوجود.
فاعتراف المسلمين بحق اليهود في الوجود ككيان مستقل في فلسطين طامة أكبر من قيام الكيان اليهودي نفسه، بل إن اعتراف المسلمين بالكيان اليهودي فاجعة أكبر من كل كوارث وهزائم ونكبات العرب في حروبهم التآمرية مع الدولة اليهودية طيلة الخمسين عاماً الماضية.
إن الصلح مع اليهود وما تمخض عنه من اعتراف دول المسلمين بحق الدولة اليهودية بالعيش في فلسطين لهو أكبر هدية قدمها العالم لليهود، ذلك أن اعتراف كل دول العالم بدولة اليهود في فلسطين لا يعني شيئاً، ولكن اعتراف المسلمين من أهل فلسطين بدولة اليهود هو المهم وهو الذي منح الشرعية القانونية الدولية للكيان اليهودي.
أورد هيكل في الكتاب الثالث من قصته الاتصالات السرية بين العرب وإسرائيل قولاً ليوسي سريد رئيس حركة ميرتس اليهودية اليسارية ما نصه: «إن إسرائيل اليوم خلقت من جديد، فمنذ إنشائها لم تكن الدولة شرعية في المنطقة التي قامت فيها، وقد ظلت طوال الحقب الماضية قادرة على أن تغزو وتقمع وتنتصر ولكن بلا شرعية، اليوم 13 أيلول 1993 اكتسبت دولة إسرائيل شرعية الاعتراف بها».
إن اعتراف الفلسطينيين بالدولة اليهودية لم يكن بأهمية اعترافهم بها عبر اتفاق أوسلو، فقد اعترف عرفات بالكيان اليهودي عدة مرات قبل اتفاق أوسلو، وذلك مثل اعترافه في وثيقة مكلوسكي واعترافه في الجزائر وسويسرا وغيرها. ولكن اعتراف عرفات في اتفاق أوسلو هو الذي تبعه إجراءات عملية وتنفيذ لهذه الإجراءات على الأرض. وشهادة الدول والمنظمات العالمية على هذا الاعتراف هي التي منحت قانونية الاعتراف من ناحية دولية.
لم يشهد تاريخ المسلمين ولا حتى تاريخ غيرهم من الشعوب والأمم شبيهاً بما حصل للمسلمين في هذه الأيام، فأنْ يتنازل شعب عن أرضه إلى الأبد لشعب آخر لم يحدث ولا حتى في قصص الخيال، فالمسلمون أيام الصليبيين لم يخطر على بال أحدٍ من متنفذيهم أن يتنازلوا للصليبيين ولو عن شبر واحد من الأرض، وعندما اضطروا إلى مصالحة الصليبيين كانت المصالحة لمدة معينة وذلك كما حصل مع صلاح الدين في صلح الرملة الذي كان لمدة ثلاث سنوات فقط، وكما حصل مع بيبرس في الصلح مع مملكة بيروت الصليبية لمدة عشر سنوات، وكما حصل مع قلاوون وغيرهم، وكانت نتائج هذه الهدن النهائية تطهير البلاد من كل أثر للصليبيين الغازين.
أما ما يحصل اليوم من صلح دائمي مع اليهود ومنحهم فلسطين أو معظمها إلى الأبد تحت شعار الصلح الدائم والعادل فإنه لا يمكن أن يصدر إلا عن أناسٍ لا يملكون الإرادة الذاتية أو السلطان التام، ولذلك فلا مفر من القول بأن من وقّع ووافق على هذا الصلح من حكام وزعماء المسلمين اليوم إنما هم عملاء وخونة فرّطوا في حقوق المسلمين وممتلكاتهم. وهذا عرّض الأجيال القادمة لخطر أكيد يستلزم تقديم أكبر التضحيات لإزالته.
إنه وإن ذكر التاريخ أن بعض حكام المسلمين قد خانوا أمتهم وتعاونوا مع الكفار إلا أن عددهم لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة، فلم يسجل التاريخ عبر ثلاثة عشر قرناً من الزمان في صفحاته السوداء غير ابن العلقمي وشاور وأحد ملوك الأيوبيين في دمشق، أما ملوك الطوائف فلم يخونوا أمتهم وإنما تعاونوا مع عدوهم، ومثلهم أبو عبد اللـه الصغير الذي بكى الأندلس بعد أن سقطت قرطبة وهو الذي عنفته أمه أو زوجته قائلةً له: إبكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال.
إن حكام المسلمين وزعماءهم في هذه الأيام يتبجحون لارتكابهم خياناتهم بدلاً من البكاء، ويدّعون باطلاً أن خياناتهم هي نصر مبين.
فاعترافهم بإسرائيل كدولة تامة السيادة في فلسطين المحتلة عام 48 هو تنازل صريح وحقيقي عن فلسطين لليهود، ولا مجال لمتلاعب أن يتلاعب بالكلمات ويحاول تغيير الحقائق، واستناد المعترفين بإسرائيل للقرارات الدولية، هو توثيق دولي عالمي لهذا الاعتراف، وهو نسف لادعاءات البعض بأن التحرير سيكون على مراحل، فالاعتراف يعني بكل بساطة التنازل والتفريط. والتفريط بالأمانة، أية أمانة ومهما صغرت يُعتبر خيانة. فكيف بمن يُفرط بالبلاد والعباد والمصير والأجيال ومستقبلها؟. إن هذا التفريط لا شك في أنه خيانة استراتيجية وليس مجرد خيانة عادية، والخيانة الاستراتيجية ليست هي مجرد إضاعة مال لشخص أو لمجموعة أشخاص، وإنما هو إضاعة بلاد وممتلكات، وتمكين الأعداء بالوجود الشرعي في بلاد لا يستحقونها، وإهدار حقوق الأجيال، وضرب حضارة الأمة وخلخلة تماسكها وزرع جسم خبيث في داخلها. وهذا كله ذو طابع استراتيجي يتصل بوجود الأمة وشخصيتها وتميزها بين الأمم.
ووجود هذا الجسم الشاذ في قلب الأمة يحول دون وحدة أقطارها ويفت في عضدها ويجزئها إلى عرقيات في أوطان ممزقة، فهذا الجسم الشاذ قد زادته اتفاقية الصلح مع اليهود تثبيتاً حتى غدا جزءاً من المظلة الأمنية الإسرائيلية. وكذلك يدخل في الناحية الاستراتيجية استمرار الضعف العسكري للدول العربية وازدياد التفوق العسكري اليهودي في المنطقة، فبعد كل اتفاقية صلح تبرمها الدولة اليهودية مع حكام العرب تنهال على اليهود الأسلحة من كل جانب في حين تتخلى الدول العربية عن التزامها بالتسلح.
ونهاية القول في الأثر الاستراتيجي للصلح مع اليهود أن استمرار عقد اتفاق الصلح مع الدولة اليهودية سيحيل إسرائيل إلى دولة مركزية في المنطقة، يمكنها من السيطرة على المزيد من مفاتيح المنطقة اقتصادياً وسياسياً وأمنياً، مما يجعلها محور استقطاب يسعى الجميع لكسب ودها ويرنو الحكام العملاء الذين لم يوقعوا الصلح معها بعد إلى استشراف هذا التوقيع ويتخوفون من أن يسبقهم غيرهم إلى نيل هذا الشرف بزعمهم!!.
لا شك أن طرح أفكار التطبيع وبناء شرق أوسط جديد وما شابهها هدفها تذويب إسرائيل في المنطقة وتذويب المنطقة في إسرائيل بحيث يكون وجه المنطقة لا هو وجه إسلامي ولا هو وجه يهودي، بل يكون وجهاً مشترك المعالم بقيادة الأكفأ وهو هنا إسرائيل.
ومؤتمر الدار البيضاء الاقتصادي وصف من قبل بعض المميزين الأوروبيين بأن اليهود كانوا فيه ككتيبة مدرّعة وسط قافلة من الجمال، ومؤتمر عمان الاقتصادي اعتلى اليهود المنصة الرئيسية فيه إلى جانب إخوانهم الهاشميين، وكلما زادت الهرولة العربية باتجاه إسرائيل تغير وجه المنطقة، وهذا جزء من المخطط الاستعماري لضرب الإسلام والمسلمين استراتيجياً. فعلينا أن نتنبه لهذه المخاطر ونعمل على إزالة آثارها من العقول والوجود، وما ذلك على اللـه بعزيز .
1997-02-02