دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية (3)
2016/10/29م
المقالات
1,937 زيارة
دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية (3)
بقلم: محمود عبد الكريم حسن
نشرت مجلة «الصراط المستقيم» الصادرة في أميركا في عددها (59) جمادى الأولى 1417هـ. مقالة بعنوان «العمل السياسي في المجتمع الأميركي» بقلم الدكتور صلاح الصاوي مدير الجامعة الإسلامية المفتوحة في ولاية فرجينيا في أميركا. وقد وصفتها المجلة بأنها «رؤية فقهية تأصيلية تنشر لأول مرة». وقالت المجلة بأن هذه المقالة –الدراسة كانت جواباً عن سؤال بعث به الأستاذ نهاد عوض المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية. وهو يسأل عن حكم الشرع الإسلامي في: 1- التسجيل للانتخابات لحَمَلَة الجنسيات الأميركية. 2- التصويت في هذه الانتخابات الأميركية. 3- التبرع بالمال والدعاوة لبعض المرشحين في برامجهم وحملاتهم الانتخابية، وذلك بهدف استمالتهم لدعم قضايا الجاليات الإسلامية. [هذا السؤال والجواب كانا بمناسبة الانتخابات الأميركية].
وقد جاء في خلاصة إجابة الدكتور الصاوي ما يلي: «ولما كان كل من المصالح المستجلبة والمفاسد المستدفعة -كما يبدو من السؤال- ظاهراً راجحاً فالذي يترجح لدينا هو القول بمشروعية هذه المشاركة في ضوء الضوابط الشرعية المعتبرة في باب المصالح والمفاسد. ولما كانت الذرائع تأخذ حكم المقاصد، والوسائل تأخذ حكم الغايات فإن القيد في الجداول الانتخابية واستخراج البطاقات اللازمة لذلك مما يندرج في إطار هذه المشروعية».
في ردنا هذا لن نهتم كثيراً بالنتيجة والإجابة التي توصل إليها فضيلة الدكتور الصاوي، فهي معروفة من كل الذين تأثروا وانساقوا مع الحضارة الغربية، ومنهم السائل والمسؤول والمشرفون على المجلة ناشرة المقالة. وإنما الذي يهمنا أكثر في هذا الرد هو النهج الذي اتبعه الدكتور الصاوي في استنباط الأحكام والمصادر التي يستنبط منها، لأن غرضنا هو تنبيه المسلمين، ومنهم كاتب المقالة وناشرها، وتحذيرهم من الزلل والانحراف الخطِر، عن الإسلام، الذي يوصل إليه هذا النهج.
نص عند الشاطبي:
وسنشرح الآن بالتفصيل نصاً للشاطبي أورده الكاتب زاعماً فيه جواز فعل المنكر بحجة قصد المصلحة. والحقيقة أن معنى النص يناقض تماماً ما أراده الكاتب. وهذا هو نص الشاطبي: (ومن هذا الأصل [يشير إلى أصل اعتبار مآلات الأفعال] تُستمد قاعدة أخرى وهي أن الأمور الضرورية أو الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفها من خارجٍ أمورٌ لا تُرضي شرعاً، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج. كالنكاح الذي يلزمه قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات. وكثيراً ما يُلجئ إلى الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع، لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المـُربِيَة على مفسدة التعرض. ولو اعتبر مثل هذا في زماننا لأدى إلى إبطال أصله، وذلك غير صحيح.
وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وشهود الجنائز، وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يُخرِجُ هذا العارضُ تلك الأمورَ عن أصولها، لأنها أصول الدين، وقواعد المصالح، وهو المفهوم من مقاصد الشارع، فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع، وما يُنقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجرَّدها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرَّر إن شاء اللـه)(20).
لقد سبق وشرحنا ما يقصد الشاطبي بقوله: اعتبار المآلات. ولا بد أن نشير هنا إلى أنه لا يصح اقتناص الأقوال والنصوص من الكتاب مقطوعة عن سياقها، ووضعُها في سياق آخر مختلفٍ تماماً. ونشير أيضاً إلى أن الشاطبي قد ابتدأ كتابه (الموافقات) بثلاث عشرة مقدمة عدَّها لازمة لفهم الكتاب.(21)
وما يلزمنا هنا لفهم مقصده من النص المذكور أعلاه هو المقدمات الأولى والثانية والثالثة عشرة. فمن كان مهتماً فليرجع إليها. وسنشرح النص هنا بناء على مقدماته وآرائه.
الأصول قطعية وليست ظنية:
لقد قرر الشاطبي في موافقاته أن الأصول هي كليات قطعية.(22)
وقال: (هذه الكليات الثلاث [أي الضرورية والحاجية والتحسينية] إذا كانت قد شُرِعت للمصالح الخاصة بها فلا يرفعها تخلُّف آحاد الجزئيات. ولذلك أمثلة. أما في الضروريات: فإن العقوبات مشروعة للازدجار، مع أنّا نجد من يُعاقَب فلا يزدجر. وأما في الحاجيات: فكالقصر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقَّة، والملك الـمُتَرَفِّه لا مشقَّة له، والقصر في حقه مشروع….)(23).
ثم قال: (فالكلية في الاستقرائيات صحيحة، وإن تخلّف عن مقتضاها بعض الجزئيات)(24).
فالأصول عند الشاطبي كليات قطعية تثبت بالاستقراء، وما ثبت على أنه أصل فلا يَبْطُلُ كأصل ولا تُلغى كليته بجزئيات تظهر معارضةً له أو لا تجري على وِزانه. وهذا المعنى ضروري لفهم آراء الشاطبي، ومثبوت في مواقع عِدة من كتابه.
تخلف جزئيات عن الأصل لا يبطل الأصل ولا يبطل الجزئيات:
والنص الذي أوردناه لنشرحه قصد منه الشاطبي: أن أصل اعتبار المآلات قد ثبت بالاستقراء، فإذا وجدنا في آحاد الجزئيات، أي في الأحكام الشرعية الثابتة، ما يتعارض مع هذا الأصل، فإنه لا يصح الاستدلال بهذه الجزئيات على إبطال الأصل. وليس معنى النص إبطال هذه الجزئيات أو الأحكام لتَعارُضِها مع الأصل. وإنما المعنى أن هذه الجزئيات بما أنها ثبتت بأدلتها فهي شرعية ولا يصح مخالفتها. فيظل أصل مآلات الأفعال أصلاً قطعياً كلياً معتبراً في قواعد الشريعة، وإنما يعطَّل في حالات هذه الجزئيات. وهذا مثل العموم والخصوص. فإن الخاص لا يُلغي العام أو يُبطله ولا ينسخه وإنما يخصصه فقط. وبناء عليه فالنص لا يعني جواز فعل الحرام في سبيل المصلحة إذا كان المآل مصلحة. وإنما هو يقول: إن الفعل المشروع إذا كان قد يؤول إلى حرام فإنه يظل مشروعاً ولا يُعمل بالأصل الذي هو اعتبار المآلات في هذا الفعل.
مآلات محتملة وليست حتمية:
ولنشرع في شرح النص:
قوله: (الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفها من خارجٍِ أمورٌ لا تُرضِي شرعاً فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج) أي إن الأفعال التي دل الدليل على مشروعيتها سواء بالوجوب أو الندب أو الإباحة، وهي لا تخرج عن أن تكون من الضرورية أو الحاجية أو التكميلية، فهي مصالح مندرجة تحت هذه الأقسام الثلاثة. هذه الأفعال إذا كان لها مآل منهيٌّ عنه، فإن القيام بها صحيح مع احتمال المآل، أي إن أصل اعتبار المآلات لا يؤثر في حكم هذه الأفعال أو الجزئيات. وبما أن هذه الأفعال قد تؤول إلى حرام، فيجب الاحتراز عن الوقوع في هذه المآلات أو المحرمات على قدر الاستطاعة، أي يجب الاحتراز عن هذه المحرمات كما يجب الاحتراز عن أي محرم، واللـه سبحانه وتعالى لم يكلِّف بالمحال أو بما لا يطاق. فهذا ليس فيه جواز فعل المنكر.
مشروعية النكاح أصل مقدم على أصل اعتبار المآلات (غير الحتمية):
والأمثلة التي ضربها الشاطبي توضح أكثر. فلنتابع النص: (كالنكاح الذي يلزمه قوت العيال مع ضيق طرق الحلال، واتّساع أوجُهِ الحرام والشبهات، وكثيراً ما يُلجئ إلى الاكتساب لهم بما لا يجوز، ولكنه غير مانع..) فالنكاح مثلاً مشروع، وهو عند الشاطبي مجرد حكم شرعي بحق الفرد من جهة كونه جزئياً، وهو أصل كلِّي قطعي بحق العامة من جهة كونه خادماً للضروري(25). فإذا ثبت أنه يؤول في بعض الحالات إلى منهيّ عنه، كأن يؤدي إلى طلب قوت العيال عن طريق الحرام، بسبب ضيق ذات اليد وضيق طرق الحلال، واتساع طرق الحرام، وقد يؤول النكاح إلى الاكتساب المحرم، فإنه يكون قد تعارض الجزئي مع أصل، وهو مشروعية النكاح مع اعتبار المآلات، ففي هذه الحالات مآلات النكاح لا تُبطِلُ الحكمَ الشرعي في النكاح ولا تمنع من النكاح، فيظل هذا الفعل على حكمه، ولا تبطله مآلاته، ويسعى المكلف متجنباً الوقوع في هذه المآلات بحسب استطاعته.
وقوله: (لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المـُربِيَة على مفسدة التعرُّض، ولو اعتبر مثل هذا في زماننا، لأدى إلى إبطال أصله، وذلك غير صحيح) أي إن هذه المآلات لا تمنع النكاح، ولو أعملنا أصل اعتبار المآلات هنا في مثل زماننا لأدى إلى تحريم النكاح، وهو غير صحيح لأنه مخالف للحكم الثابت بالأدلة. فقوله: (وذلك غير صحيح) يعني أنه لا يصح إبطال أو تغيير حكم شرعي بحجة المآل. وأيضاً فنحن إذا حرمنا النكاح وهو حكم شرعي له أدلته، لوقعنا في مفاسد مُرْبِيَة على مفاسد تلك المآلات. لأن النكاح بما أنه مشروع، وكل أمر مشروع فهو مصلحة، وإبطاله مفسدة، علمنا ذلك أم لم نعلم، وهو – عند الشاطبي – أصل من الأصول الضرورية أو الحاجية أو التكميلية، فاعتبار هذه المآلات التي انكشفت لنا يؤدي إلى إبطال أصل، وذلك غير صحيح. وللشاطبي في مسألة تعارض الجزئيات والأصول تفصيلٌ لا يتسع المجال لذكره، وإنما نورد له هنا نصاً، فمن أدركه وكان مهتماً استزاد من كتابه، يقول: (فالكلية في الاستقرائيات صحيحة وإن تخلَّف عن مقتضاها بعض الجزئيات، وأيضاً فالجزئيات الـمُتَخَلِّفة قد يكون تخلُّفُها لِحِكَم خارجة عن مقتضى الكلِّي، فلا تكون داخلة تحته أصلاً أو تكون داخلةً، لكن لم يظهر لنا دخولها، أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى. فالملك المترفِّه قد يقال إن المشقة تلحقه لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها، أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها: إن المصلحة ليست للازدجار فقط، بل ثَمَّ أمرٌ آخرٌ)(26). ومسألة النكاح هنا داخلةٌ تحت الأصل وإن ظهر تخلُّفُها أحياناً.
أمثلة أخرى:
نتابع شرح النص، قوله: (وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها، وشهود الجنائز، وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يُرتضى فلا يُخْرِج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها..) أي إن ما قلناه بشأن النكاح يقال بشأن طلب العلم وشهود الجنائز والمشي إلى المساجد أو إلى مراكز العمل أو في الأسواق، فهذه كلها جزئيات ثبتت مشروعيتها بالأدلة، فكونها قد تؤول إلى حرام: كمشاهدة العورات، وسماع ما لا يجوز الاستماع إليه، وما سواها، فإن كل هذه المآلات لا تبطل شرعية هذه الأفعال، فيصح الإقدام عليها مع احتمال مآلاتها. فهذا الأصل (أي اعتبار المآلات) لا يغير حكماً شرعياً، فلا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً. وإذا أقدم العبد على هذه الأفعال، فعليه اجتناب المحرمات التي تؤول إليها هذه الأفعال بحسب استطاعته. فما يريد الشاطبي قولَه هنا هو أن أصل اعتبار المآلات تعطّل جزئياً، وهذه الجزئيات كالنكاح وطلب العلم وشهود الجنائز عارضته، فهل هذه المعارضة تُبطل اعتبار المآلات؟ كلا، فإنه وإن تخلفت هذه الجزئيات أحياناً عن هذا الأصل، فالأصل يظل أصلاً كما سبق وبينّا من قوله: (فالكلية في الاستقرائيات صحيحة وإن تخلف عنها بعض الجزئيات)(24)، وهذه الجزئيات عوارض لا تخرج الأمور عن أصولها.
الأصول لا تبطلها الجزئيات:
وقوله: (لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع)، فمعناه أن الأصول لا تبطلها الجزئيات، لأن الأصول كلية، فأصول الدين كالعقائد قطعية لا ينقضها شيء، وكذلك القواعد الثلاث وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وهذا ما فُهِم من الشريعة. وهذا المعنى يكرره الشاطبي كثيراً. فلنقرأ مثلاً: (إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال. والدليل على ذلك أمور، أحدها: إن القاعدة مقطوع فيها بالفَرَض، لأنّا إنما نتكلم في الأصول القطعية الكلية، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهَّمة، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه. والثاني: إن القاعدة غير مُحْتَمَلَة لاستنادها إلى الأدلة القطعية، وقضايا الأعيان محتملة أن تكون على غير ظاهرها….)(27).
نتابع الشرح، قوله: (فيجب فهمها حق الفهم فإنها مدار اختلاف وتنازع)، أي إن هذه الأصول الثابتة بالاستقراء مثل أصل اعتبار المآلات، هناك من يردّها بناء على ما يجده من جزئيات تعترضها، فيجب الفهم حق الفهم أن الجزئيات لا تُبْطِلُ الأصول. وقد تم شرح هذا. قوله: (وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك هو قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يُعْقَلَ معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء اللـه)، أي أن كل ما يَستدِلّ به المنازعون والمخالفون في اعتبار هذه الأصول هو جزئيات وقضايا أعيان لاتبطل القطعي الكلِّي. وبناء عليه يظل أصل اعتبار المآلات ثابتاً عنده. أما قوله: (لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها)، أي طالما أنها جزئيات وقضايا أعيان، أي لم يثبت أيٌّ منها على أنه أصل من الأصول الضرورية أو الحاجية أو التحسينية، فتكون ظنية قابلة للتأويل فيتم إعمالها ولا يُخْرَمُ الأصل. ويستمر الأمر كذلك حتى يعقل معناها، أي حتى تتكاثر الجزئيات على معنى معين وتتضافر، فتكون أصلاً من أصول الشريعة الدالة على ذلك المعنى بالاستقراء. فإذا حصل هذا المعنى وانتظمت هذه الجزئيات في أصل كلي قطعي، يظهر حينئذٍ أنها توافق ذلك الأصل المتنازَع فيه، وإن لم توافقه فلا تعارضه، ولذلك قال: (لا حجة في مجردها حتى يُعْقَلَ معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء اللـه). وللشاطبي أقوال كثيرة تؤكد ما ذكرنا. إقرأ مثلاً: (إن الغالب الأكثري معتبرٌ في الشريعة اعتبارَ العام القطعي لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلِّيٌّ يعارض هذا الكليَّ الثابت، هذا شأن الكليات الاستقرائية…)(28).
الشاطبي لم يجز فعل المنكر:
وبناء على هذا الشرح والتفصيل لهذا النص الذي استدلَّ به الكاتب على جواز فعل المنكر، يتبين لنا أنه أخطأ، وأنه لم يفهمه، وأنه استدل به على نقيض ما يتضمنه، شأنه شأن الكثير من المعاصرين: رواد تحكيم المصلحة وإلغاء دلالات النصوص.
وباختصار: فما يتضمنه النص هو أن الفعل المشروع إذا كان يُحْتَمل له مآل منهي عنه أو عن وقوعه، فهذه حالات لا يعتبرُ فيها المآل، ويُلتزم فيها بالنصوص وبدلالاتها، ويُتَحَرَّزُ من المآل قدر الاستطاعة. أما جُلُّ مراد الشاطبي من هذا النص فهو أن اعتبار المآلات أصل قطعي، وإن عارضته بعض الجزئيات وظهر تخلُّفه فيها. فالنص ليس فيه الرأيُ الباطل الذي أورده الكاتب، وليس هذا موضوعه أصلاً. وإن أردنا معرفة قول الشاطبي في هذا الموضوع، أي موضوع فعل المنكر أو الحرام في سبيل تحقيق مقصود الشارع أو المصلحة. فهاك قوله: (فاعل الفعل أو تاركه إما أن يكون فعله موافقاً أو مخالفاً [أي للحكم الشرعي]، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته، فالجميع أربعة أقسام: أحدها: أن يكون موافقاً وقصده الموافقة كالصلاة… وكذلك ترك الزنا والخمر وسائر المنكرات، فلا إشكال في صحة هذا العمل. والثاني: أن يكون مخالفاً وقصده المخالفة كترك الواجبات وفعل المحرمات قاصداً لذلك، فهذا أيضاً ظاهر الحكم. [أي ظاهر البطلان]. والثالث: أن يكون الفعل أو الترك موافقاً وقصده المخالفة. وهو ضربان: أحدهما أن لا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقاً وقصده المخالفة، والآخر أن يعلم بذلك. فالأول كواطئ زوجته ظاناً أنها أجنبية، وشارب الجلاب ظاناً أنه خمر…. فهذا الضرب قد حصل فيه قصد العصيان بالمخالفة…. والثاني: أن يكون الفعل أو الترك موافقاً، إلا أنه عالم بالموافقة ومع ذلك فقصده المخالفة، ومثاله أن يصلي رياءً… فيدخل تحته الرياء والنفاق والحيل على أحكام اللـه تعالى، وذلك كله باطل. والقسم الرابع: أن يكون الفعل أو الترك مخالفاً والقصد موافقاً. فهو أيضاً ضربان أحدهما أن يكون مع العلم بالمخالفة والآخر أن يكون مع الجهل بذلك. فإن كان مع العلم بالمخالفة فهذا هو الابتداع كإنشاء العبادات المستأنفة والزيادات على ما شرع، ولكن الغالب أن لا يتجرأ عليه إلا بنوع تأويل ومع ذلك فهو مذموم حسبما جاء في القرآن والسنة)(29). وهذا الضرب من القسم الرابع هو الشاهد في موضوعنا، وهو المنطبق على ما فعله الكاتب في مقالته حيث أفتى بجواز فعل المنكرات بحجة تحقيق مقصد الشريعة، مع علمه، بل وتقريره بأنها منكرات. والأدهى من ذلك زعمه بأن هذا المعنى مقصود للشاطبي، وأنه مقرر لدى العلماء – وما أعظمه من افتراء! -، والشاطبي يقرر أن هذه بدع. والكاتب وأمثاله من بعض المعاصرين يتذرعون لهذه البدع بتأويلات هي بدع أيضاً.
[يتبع في العدد القادم إن شاء اللـه]
الهوامش:
20- الموافقات. ج4. ص119.
21- نفسه. أنظر: ج1. ص10.
22- نفسه. أنظر: ج1. المقدمة الأولى والمقدمة الثانية.
23- نفسه. ج2. ص34.
24- نفسه. ج2. ص35.
25- نفسه. أنظر: المسائل الأولى والثانية والثالثة من كتاب الأحكام. ج1.ص68-92.
26- نفسه. ج2. ص35.
27- نفسه. ج3. ص127.
28- نفسه. ج2. ص35.
29- نفسه. ج2.ص234.
2016-10-29