سيـاسـة الاحـتـواء
2016/10/29م
المقالات
8,603 زيارة
سيـاسـة الاحـتـواء
بقلم: سعيد عبد الرحيم
سياسة الاحتواء: هي أفكار عامة ترسم لمواجهة الأخطار المحدقة بالمصالح والأهداف والسيطرة عليها.
وسياسة الاحتواء قديمة قدم وجود الجماعات والمجتمعات والدول، وهي ليست سياسة مبتدعة، والإبداع فيها يكمن في محتوى هذه السياسة، ويظهر في آثارها وأبعادها، من حيث الفكر المبدع الذي يعالج الأخطار، والعمل المبدع في تنفيذ هذا الفكر، والوسائل والأهداف المتجددة، فهذا الإبداع يؤدي إلى درء الأخطار وتبديدها، بل والعمل ما أمكن على جعلها خادمة أو غير معيقة في إيجاد المصالح وتحقيق الغايات، وذلك كسياسة أمريكا في احتواء الخطر الشيوعي على الجبهة الداخلية للاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة الجديدة التي أشعلتها أمريكا بعد منتصف السبعينيات والتي انتهت بتفكك الاتحاد السوفياتي وتبخر الشيوعية على المسرح الداخلي للاتحاد السوفياتي.
وسياسة الاحتواء ترسم وتتبع في جميع الأوقات والأجواء، وقت السلم ووقت الحرب، وفي أجواء الحرب الباردة، وفي أجواء الوفاق، كسائر السياسات التي ترسم أو تنفذ، نحو: سياسة المواجهة أو التمييع أو التجميد أو الاستعمار أو المجد والعظمة أو الهدم والتخريب أو الدعوة والقتال.
فأمريكا حين عزمت على احتواء الخطر الشيوعي في عقر داره، وقطعت أشواطاً في الحرب الباردة الجديدة، استمرت في سياسة التعايش السلمي مع روسيا على المسرح الدولي لتعزيز المصالح والأهداف التي تم الاتفاق عليها على المستوى الدولي في عام 1961، ولكي يبقى الصراع على المصالح والأهداف بينها وبين روسيا من ناحية دولية قائماً على الأسس الاستراتيجية والتكتيكية. فهي قد عمدت إلى تكريس سياسة التعايش السلمي بينها وبين روسيا من ناحية دولية، واتخذت من المسرح الدولي جسراً لتضليل روسيا وأوروبا والعالم ولضرب الشيوعية في جحرها، فكانت الحرب الباردة الجديدة تتصل بالجبهة الداخلية للاتحاد السوفياتي ولا تتعلق بالناحية الدولية، وكانت سياسة التعايش السلمي تتصل بالناحية الدولية ولا تتعلق بالمسرح الداخلي للاتحاد السوفياتي.
إن السياسات التي تتبع لإيجاد المصالح وتكريس الأهداف لا تنفصل عن الأخطار المحدقة بها، لذلك كان من المحتم على الدول السير في السياسات المترابطة وغير المنفصلة. وتختلف سياسة الاحتواء عن غيرها من السياسات في كونها تعالج الأخطار غير المبدئية، بخلاف غيرها من السياسات فهي تنفذ أو ترسم لإيجاد المصالح والأهداف.
والدول لا تعيش منعزلة عن بعضها، فالاتصال والتداخل والتوافق والتعارض في المصالح والأهداف أمر حتمي، وهذا بدوره يحتم على الدول السير في السياسات المتشابكة والشاملة، وهذا هو الواقع المحسوس للدول الكبرى أو المستقلة، فهي لا تسير بسياسات منفصلة، وهي وإن كانت تبرز سياسة معينة في وقت ما بسبب المصلحة أو الظرف، إلا أن هذا البروز هو أمر مؤقت، وهو لا يعني عدم السير بالسياسات الأخرى، وإنما يعني السير بها ببطء أو الوقوف للحظة ثم تستأنف السير بالسياسات الأخرى.
وسياسة الاحتواء على المستوى الدولي والإقليمي ومنه المحلي يسير بها الغرب دون قيد أو شرط كسائر السياسات التي يرسمها أو ينفذها ، معتمداً على قاعدة مكيفيلي، لذلك فهو يتلون بأي لون، ويلبس أي ثوب بغية تحقيق ما يريد، وبعبارة أخرى، فهو يسير في سياسة الاحتواء لمعالجة كافة الأخطار الحقيقية والمفتعلة، المبدئية وغير المبدئية، ويسلك أي سبيل للوصول إلى ما يريد.
إن الإسلام يحصر سياسة الاحتواء في معالجة الأخطار غير المبدئية، أما الأخطار التي تمس المبدأ، فتعالج حسب الأوامر والنواهي الشرعية، فالرسول صلى اللـه عليه وآله وسلم حين علم بأن خيبر تتفاوض مع قريش في عقد حلف بينهما لمهاجمة المدينة والقضاء على محمد عليه السلام، وسحق الإسلام، قام بمهادنة قريش وعقد معها صلح الحديبية، ثم قام بسحق خيبر. فسياسة الهدنة سياسة مبدئية يجب الالتزام بها، أما الخطط والأساليب والوسائل التي تستخدم لتنفيذ هذه السياسة، فإنها تكون متعلقة بسياسة الاحتواء أو بغيرها من السياسات التي ترسم.
وأفكار سياسة الاحتواء التي ترسم هي أفكار عامة تتصل بالاستراتيجيات بشقيها: العلاجية التي تعالج الأخطار الواقعة، والوقائية والتي تعالج الأخطار المتوقعة، وهي الأخطار التي لا بد من تقديرها قبل وقوعها، أما الأخطار المفاجئة فإنها تعالج كالأخطار الحادثة، لأنها أمر مفاجئ، ولا يتأتى لأي سياسي مهما أوتي من الذكاء والعبقرية والحس المرهف أن يدركها أو يشعر بها.
ومن النماذج على أفكار سياسة الاحتواء:
-
فكرة آيزنهاور في الخمسينيات لملء الفراغ السياسي والعسكري والاستراتيجي لاحتواء الشرق الأوسط من الخطر الشيوعي، وللسيطرة على الشرق الأوسط واستعماره.
-
فكرة روزفلت رئيس الولايات المتحدة في احتواء الخطر الاستراتيجي الألماني المتوقع على ميزان القوى في أوروبا. وهذه الفكرة قامت على أساس تجريد ألمانيا من قدراتها الصناعية والعسكرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بحيث لا تعود من جديد دولة كبرى، وقوة تشكل خطراً على ميزان القوى في أوروبا، ويتم تنفيذ هذه الفكرة من خلال أسلوب التعاون مع روسيا، ولما خلفه ترومان في الرئاسة، قام بإجراء تعديلات على الفكرة دون أن يتخلى عن الغاية الحيوية، كما تخلى عن أسلوب التعاون مع روسيا، فقام بالعمل على بناء ألمانيا الغربية حسب فكرة مارشال في بناء الاقتصاد الأوروبي ومنه الألماني، أي: بناء الصناعة الألمانية على أساس اقتصادي تجاري لا حربي، وأدخل الشركات الأمريكية إلى ألمانيا، فيكون بذلك قد ضرب ألمانيا ضربة موجعة، لن تعيدها دولة كبرى ما دام أن أساس الصناعة تنموي وتجاري لا حربي، فهو لم يتخلَّ عن المصلحة والغاية الحيوية لدرء الخطر الألماني، وإنما قام بإجراء تعديلات شكلية على فكرة روزفلت، من أجل نجاح هذه الفكرة في تحقيق الغاية، ويكون بهذا قد قام باحتواء أخطار الرغبة الألمانية في القوة، وعمد على تعزيز خوف الروس من الألمان للضغط عليهم، ليسهم هذا الضغط في نجاح سياسة احتواء الخطر الشيوعي المبدئي من ناحية دولية على المدى البعيد.
-
فكرة ستالين في احتواء الخطر الاستراتيجي الألماني المتوقع على روسيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الخطر الذي يمس مصلحة وغاية حيوية لا مبدئية لروسيا، وقامت فكرته على أساس تجريد ألمانيا من قدراتها الصناعية والعسكرية، من خلال التعاون الإجرائي لا المبدئي مع دول الغرب. أما بالنسبة لدول شرق أوروبا فإن مصلحته فيها.
-
كانت مائعة بين الحيوية والهامة والثانوية، وتحديد صفة المصلحة يعتمد على تصرف دول الغرب معهم تجاه ألمانيا، فالخطر الذي يتهدده يتجسد في ألمانيا لا في دول شرق أوروبا، لأنها ممر يصل بين ألمانيا وروسيا وبالعكس، فالعسكرية الألمانية هي هاجسه، والوضع في ألمانيا يحسم الأمر، ولما وافقت الدول الغربية لروسيا في مؤتمري يالطه وطهران على تجريد ألمانيا، وجعل دول شرق أوروبا صديقة لروسيا بشرط أن تجري فيها انتخابات حرة، فكان هذا الاتفاق إنجازاً عظيماً في نظر الروس، ولما جاء ترومان وقام بإجراء تعديلات دون أن يتخلى عن الغاية، تمكن من تضليل ستالين وغيره، حيث تمكن من جعلهم يلمسون تخلي أمريكا عن غايتها الحيوية، فأرعب هذا الإجراء ستالين، وأحس بأن الغرب بقيادة الولايات المتحدة ينوي تدمير الشيوعية وبالتعاون مع ألمانيا، لذلك أسدل ستالين ستاراً حديدياً – كخطوة دفاعية – على دول شرق أوروبا، وسيّرها على طريق الشيوعية بالحديد والنار.
-
فكرة رئيس الولايات المتحدة جيمس مونرو لدرء ومعالجة الخطر الاستراتيجي المتمثل بتدخل الدول الكبرى في أمريكا، وتهديدها للمصالح الأمريكية الحيوية، حيث استعدت الدول الكبرى مساندة إسبانيا لكي تقوم باسترداد مستعمراتها في أمريكا، فهب مونرو في عام 1823 وقال: «إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح لأية دولة أوروبية للتدخل في شؤون القارة الأمريكية واحتلال أي جزء منها» فارتدعت هذه الدول عن التدخل لإدراكها أن أمريكا أضحت دولة قوية يحسب حسابها.
ولم يكتف مونرو بالسير في احتواء خطر التدخل الأوروبي الاستعماري في شؤون نصف الكرة الغربي، بل ضم إليها سياسات أخرى من المواجهة والاستعمار وغيرها، فشجع ودعم حركات التحرر في أمريكا الجنوبية، ودفعها للثورة ضد الاستعمار الأوروبي ولاسيما الإسباني، مما أدى إلى تحرير بعض الدول – كبوليفيا وبيرو وكولومبيا وفنزويلا – من الاستعمار الإسباني، ولما كانت الولايات المتحدة دولة استعمارية وتمارس سياسة الاستعمار، فإنها قد ساندت هذه الدول للتحرر من الاستعمار الأوروبي لتحل هي محله، ولتنفرد في استعمار أمريكا اللاتينية، لذلك قامت وتقوم باصطناع الأزمات فيها والمشاكل، وتقوم بتعيين وإقالة قادة الجيوش والحكام فيها، وتركز قواعدها العسكرية فيها، كل ذلك وغيره كثير، قامت وتقوم به الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية منذ إعلان مونرو عن فكرته إلى يومنا هذا، من أجل جعلها مزرعة مغلقة لها .
2016-10-29