الغزو الفكري الغربي للمسلمين
2016/10/29م
المقالات
5,247 زيارة
الغزو الفكري الغربي للمسلمين
فصل الدين عن الحياة – النفعية الدنيوية – تسخير العقل في غير مجاله
خلق اللـه هذه الحياة وأخضعها لنظام معين لا تحيد عنه. قال تعالى: (ولن تجد لسنة اللـه تبديلا) [الأحزاب:62] وقال عز وجل: (ولن تجد لسنة اللـه تبديلا) [الإسراء:77]. وجعل سبحانه الصراع بين الحق والباطل جزءاً من هذا النظام فلا الباطل يرضى بالحق ولا الحق يسكت عن الباطل. والصراع دائم ومستمر فتارة يكون فكرياً وتارة يكون سياسياً وقد يكون عسكرياً تضرب فيه الأعناق. نظرة سريعة لسيرة المصطفى صلى اللـه عليه وآله وسلم ترينا أنه صارع الباطل بدعوة الإسلام فكرياً وسياسياً ومادياً. فها هو في مكة يفنّد أفكارهم ويبطل معتقداتهم لا تأخذه في اللـه لومة لائم، وها هو في المدينة يعاهد هذه الدولة ويهادن تلك، ويعلن الحرب على هذه ويغزو تلك، وينصره اللـه سبحانه على عدوه في شتى مظاهر ومجالات الصراع.
استمر هذا الصراع بعد موته صلى اللـه عليه وآله وسلم. وكيف لهذا الصراع أن يتوقف، وكيف تتوقف سنّة اللـه في الدنيا. إن الأمة قد صارعت أعداءها في السابق، وها هي ما زالت تصارع اليوم أمم الكفر من الغرب الرأسمالي العلماني. إذن الصراع بين الأمة وغيرها من الأمم شيء طبيعي لا بل هو عمل الأمة الأصلي فما حمل الدعوة إلى العالم وإقامة الحجة على الخلق إلا صراع بين الإسلام والكفر وبين الحق والباطل. هذه هي الحقيقة النابعة من العقيدة الإسلامية والواقع والتاريخ. إذن هناك ثوابت لا تتغير ولا تتبدل ألا وهي حقيقة الصراع وهناك أمور عرضة للتغيير والتبديل ألا وهي الأساليب والوسائل والأشكال التي يتخذها هذا الصراع. فعلى سبيل المثال اتخذ الغرب أسلوب دعوة المسلمين لأفكار النصرانية والعلمانية بشكل مباشر من خلال المبشرين ففشل فشلاً ذريعاً فقد رفضت أمة الإسلام أن تترك دينها وتعتنق أفكار الكفر فتركه وأخذ بأسلوب خبيث نجح فيه نجاحاً باهراً مما دفعه أن يبقيه ويحافظ على استعماله منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى هذه الساعة. هذا الأسلوب يتمثل بأشكال عدة وهو اليوم يتمثل بتقديم الإسلام بشكل مشوه أي تقديم أفكار الغرب العلمانية على أنها هي أفكار الإسلام. ليس هذا فقط، إذ لم يعد الذين يحملونه مستشرقين ومبشرين بل تحمله الآن شخصيات مسلمة منمقة وجماعات تسلط عليها الأضواء. هذه الشخصيات قد تقوم بتقديم أفكار الغرب وهي تعلم أنها تخدم مصالح الغرب، أي شخصيات خائنة للأمة والدين. أو تقوم بخدمة مصالح الغرب عن طريق حمل مفاهيمه الغربية عن الحياة دون سابق علم أو إدراك. ولكن بغض النظر عن الدافع فالنتيجة واحدة، ألا وهي تركيز أفكار الكفر لدى المسلمين وإبعادهم عن طريق النهضة الصحيحة.
ولإرشاد الأمة إلى دينها وإبعادها عن طريق الهلاك نقدم للأمة ثلاث أفكار تحمل للمسلمين ويُعمل بها بين المسلمين هي في واقعها أفكار كفر وضلال ولا تمت للإسلام بصلة لعلنا بذلك نكون قد قمنا ببعض واجبنا من التواصي بالحق وإعطاء النصيحة لأمتنا الكريمة.
الفكرة الأولى: فكرة فصل الدين عن الحياة والتي هي أساس حضارة الغرب ووجهة نظره في الحياة. فالدين عند الغربيين هو مجرد طقوس وشعائر معينة تُعنى بالفرد ولا تخاطب المجتمع ككل. فنجد أن الدين عند الغرب يعالج أموراً مثل الزواج والطلاق والصلاة وبعض الأمور الخُلقية والتعميد ولا علاقة له بالنظام الاقتصادي ونظام الحكم والسياسة الخارجية والحكام وغيرها من شؤون الحياة والمجتمع. هذا المفهوم يقدم للمسلمين لا بواسطة العلمانيين فحسب بل للأسف يجري تقديمه بأسلوب خدّاع خبيث من قبل بعض «دعاة الإسلام» وشيوخهم وحتى بعض الجماعات الإسلامية (بغض النظر إذا كان يقدم للأمة بعلم من قبل الدعاة أو من غير علم فالنتيجة واحدة). فكم مرة سمعنا عبارات تحمل هذا المفهوم مثل «عليك بنفسك» أو «دع السياسة واعمل على بناء إيمانك» أو «الأمة ليست مستعدة للحديث عن الحكام والحكم بالإسلام فعلينا الآن العمل على بناء أنفسنا» أو «على الشباب أن لا يشغل نفسه بهذه الأمور وعليه أن يركز على طلب العلم»… وها هم منذ عشرات السنين يشغلون الأمة ببعض جوانب من الإسلام بشكل مبتور لا يعالج الموضوع بشكل متكامل ولا يربطون هذه الأحكام بالعقيدة أو كونها جزءاً من طريقة الحياة الإسلامية بل تقدم كطقوس كهنوتية. وبالإضافة إلى هذا ها هم يتركون أحكام الإسلام المتعلقة بالحدود والجهاد وواقع الدار هل هي دار إسلام أو دار كفر. وأحكام المعاهدات في الإسلام ومقارنتها بالمعاهدات الحياتية التي تعقد وأنظمة الكفر التي تطبق. هذا العمل المركز من قبل هؤلاء نجح نجاحاً كبيراً منذ غدا الإسلام عند الأمة مجرد طقوس وشعائر لا تمت للحياة بصلة فتراهم يغضبون لمسلم يدخل المسجد باليسرى ولا يرون بأساً بإقصاء حكم اللـه تعالى عن الحياة والمجتمع وتطبيق حكم الكفر عليهم. حتى وإن رأوا بأساً بالحكم بأنظمة الكفر فهم لا ينظرون إليها على أنها قضية حياة أو موت بل يرونه على أنه الهدف البعيد الذي سيأتي في الوقت المناسب، أما الآن فهو وقت تصحيح الأمور الفردية. وما هذا الاتجاه إلا تكريس لفكرة فصل الدين عن الحياة حتى لو لم يعلم حامل هذه الأفكار هذه الناحية فهذا هو الواقع. وإلا فما الذي يفرق فصل الدين عن الحياة عن هذا الاتجاه؟ من الواضح أنه لا فرق.
الفكرة الثانية: إن مقياس أعمال الإنسان عند الغرب هو المصلحة. وهذه الفكرة نتجت طبيعياً لديهم نتيجة لفصل الدين عن الحياة. وجعلوا السعادة هي تحقيق أكبر قدر من المتع الجسدية وبناء على ذلك أصبحوا يقيسون كل أعمالهم بناء على مصالحهم كما تصورها لهم أهواؤهم وشهواتهم. هذه الفكرة لا تحمل للمسلمين من قبل بعض الدعاة فحسب بل إن بعض الجماعات الإسلامية اتخذت المصلحة المنبنية على الهوى مقياساً لطريقة عملها بعد أن ألبسوها لباساً إسلامياً، فتارة يقومون بأعمالهم تحت تبريرات مصلحة الدعوة وتارة فقه الموازنات ولكن النتيجة واحدة ألا وهي البعد عن أحكام الشرع لا بل ومخالفة أحكام شرعية قطعية في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال لا الحصر تنادي بعض الجماعات بالديمقراطية لا إيماناً بها بل لأنها تضمن لهم حرية الدعوة وحرية الحركة أو تجدهم يدلون بتصريحات مثل «نحن لسنا ضد النظام» أو «نحن نستمد وجودنا من النظام» أو تجدهم يشتركون في الحكم الذي يدعون أنهم يريدون تغييره ويشكلون أحلافاً مع جماعات علمانية ليصبحوا جبهة معارضة. وخير دليل على أن مقياس النفعية أصبح مقياس الكثير من الدعاة هو ما حصل مؤخراً ونشرته جريدة الحياة عما حصل في الأردن من إعطاء أحد النواب من الكتلة الإسلامية ثقته للحكومة لأنها وعدته ببناء نفق في منطقته وامتنع نائب آخر عن حجب الثقة عن الحكومة لأنه وُعد أن تحول منطقته الانتخابية إلى لواء مما يضمن نجاحه في الدورة الانتخابية القادمة. هل هذا إسلام أم مصلحة شخصية؟ نعوذ باللـه من ذلك.
والأنكى من ذلك أنهم يعيبون على من يصارع الحكام على أساس الإسلام على أنهم متهورون وأنهم تنقصهم الحكمة، لا بل وينهون عن مجابهة الحكام بكفر أنظمتهم وخيانتهم بحجة المحافظة على أفراد الدعوة ووظائفهم ومصالحهم.
إذن لم يعد الإسلام هو الأساس وإنما أصبحت الدعوة إلى الإسلام يقام بها إذا وافقت المصالح ولم يتعرض الدعاة إلى الخطر والمشقة. ليس هذا هو الإسلام الذي أتى به محمد بن عبد اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم. وإنما هو إسلام مفصل حسب مقياس الغرب وذلك بتفصيله حسب المصالح التي تزينها الأهواء. هذه الأعمال ومثلها تركز مفهوم المصلحة كمقياس عند المسلمين والذي يعمل الغرب ليلاً نهاراً على زرعه في أمتنا فلا عجب أن تسلط الأضواء على أمثال هؤلاء ويُظهرون على أنهم أحبار الأمة وقادتها وحسبنا اللـه ونعم الوكيل.
الفكرة الثالثة: فكرة دور العقل الإنساني. يرى الغرب أن العقل والدين لا يجتمعان فلا علاقة للدين بالعقل وللعقل بالدين فالدين يجب أن يؤخذ بشكل تسليمي عاطفي، لا بل إن الدين والعقل دائماً في حالة صراع. ونجد أن هذا الصراع متمثل بين الكنيسة والمفكرين فالدين لديهم هو دين تقليدي ولا سبيل لإثباته وهو حكر على الكنيسة. هذا المفهوم الغربي للدين يقدم للمسلمين من قبل بعض أبناء الأمة عن طريق تعليمهم الإسلام بشكل موروث أي يؤخذ تسليماً كما أتى من السلف من غير استعمال لفكر، حتى العقيدة الإسلامية يبنونها ويدللون على صحتها عن طريق أنها عقيدة الأوائل ويهاجمون من يقول إن العقيدة الإسلامية يجب أن تبنى على أساس العقل وإن العقل يثبت صحة العقيدة الإسلامية وبطلان العقائد المناقضة لها فيسمونهم بالعقلانيين تارة وبمعتزلة العصر الحديث تارة أخرى. هؤلاء بالإضافة إلى عدم فهمهم للكيفية التي تؤخذ بها العقيدة وحدود العقل في الإسلام هم يساهمون في نشر مفهوم الغرب عن علاقة الدين والعقل ويعملون على زرع فكرة الصراع بين العقل والدين وإظهار الإسلام بالشكل الكهنوتي الذي كان سائداً في عصور الظلام عند الغربيين.
وجود هذه الأفكار في المجتمع يشكل عقبة في طريق النهضة ويزيد الأمر تعقيداً. إن هذه الأفكار تحمل من قبل الكثير من دعاة الإسلام والجماعات الإسلامية وهنا يأتي دور الثلة الواعية العاملة التي يجب أن تعيد الإسلام إلى عقول وقلوب الناس ناصعاً نقياً كما نزل على محمد صلى اللـه عليه وآله وسلم. فيجب على هذه الثلة أن توضح للأمة والجماعات الإسلامية والدعاة الذين هم جزء من الأمة أفكار الإسلام المتعلقة بهذه الأمور. فإخوتنا الذين يدعون للأحكام الفردية فقط ويتركون الأحكام المتعلقة بالأمة والمجتمع يجب أن يُنبهوا إلى أن الإسلام دين شامل لجميع شؤون الحياة وأن اللـه تعالى يأمرنا أن نأخذه كاملاً: (أدخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان؟) [البقرة:208] ونهانا سبحانه عن ترك بعض أحكامه والتفريق بين أوامره ونواهيه قال عز وجل: (كما أنزلنا على المقتسمين* الذين جعلوا القرآن عضين* فوربك لنسألنهم أجمعين* عما كانوا يعملون؟) [الحجر:90-93] فلا يجوز إذن تقسيم الإسلام وتبدية حكم على آخر وترقيم الأحكام من ناحية الأهمية والأولوية إلا إذا وجد دليل شرعي يقول بذلك.
ويجب تفهيم أصحاب فكرة (مصلحة الهوى) أن الإسلام له نظرة محددة فريدة للمصلحة ألا وهي أينما يكون الشرع تكون المصلحة وليس العكس. فنحن معشر المسلمين نقوم بما أمرنا به شرعُنا بغض النظر عما يحققه لنا من منفعة أو مضرة، ومصلحتنا هي كما يراها الشرع لا كما يراها الهوى. هلا تدبرنا قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم واللـه يعلم وأنتم لا تعلمون؟) [البقرة:216] أين مقياس المصلحة من قوله صلى اللـه عليه وآله وسلم: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه فقتله» وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «أفضل الجهاد عند اللـه كلمة حق عند سلطان جائر».؟ ألا تبين هذه النصوص الشرعية أن المسلمين مكلفون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاسبة الحكام والأخذ على أيدي الظلمة حتى وإن كلفتهم حياتهم؟ فأين المصلحة العقلية من هذا؟!
أما هؤلاء الذين يريدون أن يخلقوا صراعاً بين العقل والدين على غرار الفلاسفة والكنيسة فيجب أن نوضح لهم معنى أن الإٍسلام دين عالمي لجميع البشر، وأنه إذا سلبنا دور العقل منه فعلى أي أساس ندعو الناس لاعتناقه؟ وما الفرق في هذه الحالة بين الإسلام والنصرانية؟ لا بل وكيف سنعرف نحن المسلمين صحة كتابنا ونبوة نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام؟ إن دور العقل واضح ومحدد في الإسلام فنحن لا ندعو لدور مطلق للعقل، ذلك أن هذه الدعوة دعوة خاطئة لأن الإسلام قد حدد دور العقل ولم يجعل للعقل دوراً مطلقاً دون قيود. ولكن تقييد دور العقل لا يعني إلغاءه كلياً فإلغاء دور العقل يخالف واقع العقيدة الإسلامية وكونها مبنية على العقل ويخالف مئات الآيات التي تخاطب أولي الألباب و«أولي الأبصار» و «أولي النهى» من أجل البحث في الكون واكتشاف أسراره وإدراك أنه مخلوق لخالق هو اللـه تبارك وتعالى المنفرد بالعبادة. ثم بعد هذا يأتي دور العقل في الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد الإيمان بذلك يبدأ دور الوحي الذي يحدد عندئذٍ دور العقل بأنه أداة فهم لا غير دون أن يكون العقل حَكَماً على النص مطلقاً. هذا الدور المحدد للعقل يلغي فكرة الإيمان بجرة قلم وبالزعم بأن الإيمان وجداني أو مجرد تقليد للآباء أو بإنكار كروية الأرض أو إنكار دورانها حول الشمس…إلخ.
هذا الدور المحدد للعقل نجده بالاستقراء لكتاب اللـه فمثلاً في مجال العقيدة والإيمان بوجوده سبحانه يقول: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت* وإلى السماء كيف رفعت* وإلى الجبال كيف نصبت* وإلى الأرض كيف سطحت؟) [الغاشية:17-20] ويأمرنا سبحانه أن نتفكر بمعجزة محمد صلى الله عليه وسلم للوصول إلى صدق نبوته فيقول: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللـه إن كنتم صادقين؟) [البقرة:23] ويقول: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟) [محمد:24] ثم يخاطب سبحانه الذين آمنوا بالانصياع إلى جميع أوامره ونواهيه وتحكيمه في جميع أمرهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللـه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللـه والرسول إن كنتم تؤمنون باللـه واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا؟) [النساء:59] ويقول سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما؟) [النساء:65].
وما أجمل ما قاله ابن حزم رحمه اللـه في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام): [قال أبو محمد علي: ويقال لمن لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر أخبرنا الخبر كله حق أم كله باطل؟ أم منه حق وباطل. فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شيء إلا به وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم، وإن قال حق كله عورض بأخبار مبطلة لمذهبه فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشيء وضده في وقت واحد وذلك ما لا سبيل إليه وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى الباطل فهو باطل ضرورة. فلم يبق إلا أن من الخبر حقاً وباطلاً. فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل. فلا بد من دليل يفرق بينهما، وليس ذلك إلا بحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل] ثم أكمل في نفس الصفحة: [قال أبو محمد علي: ثم يقال لجميعهم بأي شيء عرفتم صحة ما تدعون إليه وصحة التوحيد والنبوة ودينك الذي أنت عليه؟ أبعقل دَلّكَ على صحة كل ذلك أم بغير عقل؟…] ص18. ثم يقول رحمه اللـه تعالى ص28 واصفاً الفرقتين: من حكّم العقل في كل شيء ومن رد العقل جملة: [ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معاً: إحداهما التي تبطل حجج العقل جملة، والثانية التي تستدرك على خالقها عز وجل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم. فثقفوها هم ورتبوها رتباً أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها، وأنه لا تجري أفعاله عز وجل إلا تحت قوانينها. لقد افترى كلا الفريقين على اللـه عز وجل إفكاً عظيماً، وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول، وقد بينا أن حقـيـقة العقل إنما هي تميز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم، وأن الخالق واحد لم يزل، وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته، ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته، والعمل بما صححه العقل من ذلك كله وسائر ما هو في العالم موجود مما عدا الشرائع، وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط. فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراماً أو حلالاً، أو يكون التيس حراماً أو حلالاً، أو أن تكون صلاة الظهر أربعاً وصلاة المغرب ثلاثاً… فهذا ما لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه، وإنما في العقل الفهم عن اللـه تعالى لأوامره…]. انتهى.
لا نظن أن وجود هذه المحاور الثلاثة في التفكير كان عفوياً أو تدريجياً وإنما هي أفكار زرعت ورويت على عين، فالواقع أنه إذا اعتنقت الأمة الإسلامية هذه الأفكار الثلاثة لم تعد أمة إسلامية وإنما أمة غربية، وتكون قد قزّمت الإسلام إلى ديانة كالنصرانية، وألغت الأحكام الشرعية التي تحدد مقياس الأعمال في الحياة، وتكون قد تخلت عن رسالتها في هذه الحياة الدنيا، والتي هي العيش حسب أحكام الإسلام وحمله رسالة هدى إلى العالم أجمع. فلا يجوز السكوت عن هذه الأفكار لأنها تحمل هلاك الأمة في ثناياها، وأصحابها (أدركوا أم لم يدركوا) يخدمون مصالح الكافر ويعملون على إطالة عمره في بلاد المسلمين وفي عقولهم، ويعملون على إبعاد الإسلام عن الحياة ومنع رجوعه. فيجب ضرب أفكارهم بأفكار وأحكام الإسلام بكل قوة بغض النظر عن النتائج والعواقب.
(يريدون ليطفئوا نور اللـه بأفواههم واللـه متم نوره ولو كره الكافرون* هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون؟) [الصف:8-9]
بقلم: محمد الهنّيني
2016-10-29