الاتفاقية المفروضة من أميركا على العراق
2008/12/02م
المقالات
1,602 زيارة
الاتفاقية المفروضة من أميركا على العراق
هذه الاتفاقية قسمان، الأول: اتفاق الإطار (الاستراتيجي)، والثاني الاتفاق الأمني (اتفاق وضع القوات SOFA). كان القسمان واحداً، ولكن تم الفصل بينهما بعد منتصف سنة 2008م. القسم الأول يتعلق بالشؤون السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. والقسم الثاني يتعلق بوضع القوات الأميركية في العراق بعد سنة 2008م. وقد تم السكوت عن القسم الأول، رغم خطورته، من أجل تمريره تحت اسم “التزامات أميركا تجاه العراق”، وتمّ إبراز القسم الثاني لأن أهل البلاد يريدون أن يعرفوا متى سيخرج المحتل.
ولكن هل سيخرج هذا المحتل بإرادته في حال تمّ التوقيع الكامل على الاتفاقية؟ كي نعرف الإجابة دعونا نعرف لماذا دخل هذا المحتل إلى العراق.
بالتأكيد لم يدخل رحمةً بأهل العراق لينقذهم من ديكتاتورٍ ظالم. ولم يدخل لأن (صدّام) كان يدعم الإرهاب العالمي أو يدعم (القاعدة). ولم يدخل لأن العراق كان يمتلك أسلحة دمار شامل تهدد العالم. بل إن حكام أميركا وحلفاءها لفَّقوا الأكاذيب من أجل غزو العراق، كما غزوا من قبله أفغانستان. لقد احتلوا العراق ليتخذوا منه موقعاً استراتيجياً للهيمنة على المنطقة، وليسيطروا على ثرواته وبخاصة النفطية. ولذلك لا يمكن أن يخرجوا من العراق بإرادتهم إلا إذا حققوا ما جاءوا طامعين به. والاتفاقات لا تزيد في نظرهم عن قصاصات ورق يستطيعون التلاعب بها حين تتطلب مصالحهم ذلك.
ولا بأس أن نذكر هنا الاستراتيجية التي بدأ بها المحافظون الجدد حكمهم مع بداية الولاية الأولى لبوش الابن. حكام أميركا من جمهوريين وديمقراطيين يطمحون للسيطرة على العالم، ولكن طموح المحافظين الجدد لم يتوقف عند استعمال الأساليب والوسائل التقليدية في الصراع لفرض السيطرة، بل قرروا استعمال قدرات أميركا العسكرية لأن الأساليب التقليدية بطيئة وهم في عجلة من أمرهم. ولمّا كانوا يعلمون أن الشعوب الأميركية تحب الترف والرفاهية فهي لن توافقهم على خوض الحروب، لذلك اخترعوا فكرة الإرهاب الذي يهدد العالم ويهدد أميركا بالذات، ودسّوا على ابن لادن من يزيّن له عملية (11/09/2001م)، وقاموا هم بأهم عناصر العملية، ثم ألبسوها لابن لادن بعد أن توهّم أنه هو الذي أنجزها. وبذلك استطاع المحافظون الجدد بَدْءَ استراتجيتهم بغزو أفغانستان ثم انتقلوا إلى العراق، وكانوا ينوون الاستمرار في احتلالاتهم. ولكن حساباتهم في العراق خانتهم، ما شجع أفغانستان على التحرك من جديد. والآن حساباتهم الحالية في العراق بشأن اتفاق الإطار (الاستراتيجي) وبشأن الاتفاق الأمني ستخونهم كما خانتهم سابقاً. ونقول للعالم المبهور بمراكز الدراسات الأميركية وعمق فهمها وبعد نظرها، نقول لهم: رويدكم، إن الغزو الأميركي أعمى أصحابَ القرار عندهم وأصمّهم.
نعم ذاقت أميركا الفشل الذريع في العراق، وصار بعض من كان يؤيد غزو العراق يتبرأ من ذلك، وصارت الشعوب الأميركية تلوم حكامها، وفَشِلَ الجمهوريون في الانتخابات الأخيرة كما فشِلوا في الانتخابات النصفية التي سبقتها، وكان من شعارات (أوباما) الانتخابية الانسحاب من العراق خلال 16 شهراً من توليه الحكم.
ولكن هذا الفشل لم يصل إلى الحدّ الذي يجعل أميركا تهرب من العراق، لأنها مازالت تجد حكاماً جبناء جهلاء وخونة عملاء. ولذلك وجدناها مصرّة على البقاء بالشكل الذي يؤمّن لها الهيمنة السياسية والعسكرية، ويؤمّن لها الاستيلاء على البترول وبقية ثروات العراق والخليج.
قبل أن ندخل في مواد الاتفاقية نلقي ضوءاً على مدى قانونيتها بموجب القانون الدولي، حتى في حال صادق عليها مجلس النواب العراقي. العراق بلد واقع تحت الاحتلال بموجب الفصل السابع المتضمَّن في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1790 (2007)، أي أن الولاية فيه هي لقوات الاحتلال، ولا توجد سيادة لأية مؤسسة عراقية، فلا سيادة لرئيس جمهورية ولا لرئيس حكومة ولا لوزراء ولا لمجلس نيابي، ولا قيمة للدستور الذي وُضع تحت هيمنة الاحتلال. ولذلك فإن توقيع الحكومة لا قيمة له، ومصادقة مجلس النواب لا قيمة لها بموجب القانون الدولي. ولا ندري كيف يقول المرجع السيستاني: خذوا موافقة المؤسسات الشرعية وراعوا الأمور السيادية. مع أن المتوقع من مرجع إسلامي مثل السيستاني كان أن يرفض سيادة الكفار على المسلمين منذ البداية، وأن يجهر بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [النساء 141]. فهذه الاتفاقية ساقطة شرعاً في نظر كل مسلم ملتزم بالإسلام، وهي ساقطة قانوناً بموجب القانون الدولي في نظر كل من يعرف هذا القانون، وساقط أيضاً الدستور الذي فرضه الاحتلال، وباطلٌ كل ما بني ويبنى على هذا الدستور.
«اتفاقية الإطار (الاستراتيجي) لعلاقة الصداقة بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الأميركية» هذا هو الاسم الرسمي للقسم الأول، وهو يتألف من ديباجة وأحد عشر (قسماً) أو فصلاً. وأكثرها مكرر في القسم الثاني. والقسم الثاني، وهو الأبرز الذي ركّز الإعلام عليه، ويتألف من ديباجة وإحدى وثلاثين مادة في 27 صفحة. وقد تم وضع الصيغة النهائية له في 13/10/2008م، وقال الطرف الأميركي بأن هذه هي الصيغة النهائية وهي غير قابلة للتعديل. ولما اطّلع عليها بعض الوزراء المقربين من المالكي وجدوا من الصعب أن يهضمها الشعب العراقي، وأحسّ المالكي أنه بحاجة إلى عمليات إخراج وتضليل من أجل تسويقها وتمريرها. ووعده الطرف الأميركي بمساعدته بالإخراج والتضليل وليس بالتعديل، وتمت عمليات الترهيب والترغيب. فمن الترهيب: نشرت بعض الصحف في (01/11/2008م) ومنها “الحياة” أن واشنطن بعثت برسالة إلى الحكومة العراقية تحذرها من مغبة عدم توقيع مسوّدة الاتفاق الأمني. وفي تهديد صريح للعراق رسمت الإدارة الأميركية صورة قاتمة للوضع في حال عدم التوقيع على الاتفاق متوعدة بوقف تعاونها في كل المجالات مع بغداد.
ففي المجال الأمني ستتوقف القوات الأميركية عن المساعدة «في دحر أعداء العراق»، ما يعني وقف مكافحة القاعدة والجماعات الخاصة وتهديدات أخرى… وهددت الرسالة أيضاً بوقف المساعدة الأميركية للقوات العراقية في حماية البلاد عبر رفع الغطاء الجوي على مدار 24 ساعة يومياً، وتجميد حماية المياه العراقية لاسيما في ميناء أم قصر ومرفأين لشحن النفط. وتجميد التعاون الاستخباراتي، وإطلاق المعتقلين.
وفي المجال الاقتصادي لوحت الرسالة الأميركية بجملة إجراءات على رأسها وقف الحماية لفرق إعادة الإعمار، وإنهاء مشاريع إعمار بقيمة 4.9 بليون دولار، وإلغاء مشاريع لإعمار البنى التحتية للملاحة الجوية، ووقف استثمارات ومشاريع أميركية بقيمة 23 بليون دولار. وينتج عن ذلك أن مائتي ألف عراقي سيخسرون وظائفهم إذا لم يتم توقيع الاتفاق الأمني.
وفي مجال المؤسسات فستتوقف الحماية والدعم الأميركيان للمنظمات الدولية العاملة في العراق، ما يعني عملياً انسحاب بعثة الأمم المتحدة، ونهاية مهمة بعثة الحلف الأطلسي لتدريب القوات العراقية التي تخرّج سنوياً ستة آلاف شرطي. وستنسحب فرق إعادة الإعمار من المحافظات بعد رفع الحماية الأمنية الضرورية، وسينعكس ذلك سلباً على الخدمات وحكم القانون. وسيؤدي رفع الحماية أيضاً إلى وقف المنظمات غير الحكومية نشاطاتها، وستتعطل المحاكم والقضاة في الرصافة والرمادي بدون حماية. وسيتراجع النجاح الديبلوماسي الذي حققته بغداد مؤخراً إذا توقفت الحماية الأمنية للسفارات.
إن المدقق في هذا الترهيب الموجه من أميركا إلى العراق يلمس شدة حرص أميركا على موافقة العراق على الاتفاقية.
وكانت أميركا وعدت العراق، من قبيل الترغيب، أنها ستقبل بتعديلات طفيفة في نصوص الاتفاقية. فقد حرصت الناطقة باسم البيت الأبيض دانا بيرينو في (22/10/2008م) «أن أي تعديلات قد تجري ستكون طفيفة للغاية» مضيفة أن وزير الدفاع روبرت غيتس «عبّر عن هذا الأمر بشكل جيّد عندما قال: إن الباب لم يغلق تماماً، إلا أنه قارب على الإغلاق بالنسبة إلينا». وقد ذهب مسعود برزاني إلى طهران في (22/10/2008م) لتطمينها من ناحية الاتفاقية الأمنية، وكان موقف متقي وزير الخارجية الإيراني إيجابياً جداً مع برزاني، وهو لا يختلف عن موقف السيستاني. فقد صرّح متقي في 22/10/2008م) في مؤتمر صحفي مشترك مع برزاني: «إن الاتفاق الأمني بين العراق والولايات المتحدة ينبغي أن يبحث ضمن القنوات الرسمية والوطنية العراقية كالحكومة ومجلس الأمن القومي والبرلمان» وأضاف: «إن للشعب العراقي رأيه بهذا الموضوع. ونأمل باتخاذ قرار مناسب يصب في مصلحته في ظل القيام بخطوات حكيمة ومن خلال الأخذ بوجهات نظر المراجع الدينية حول هذا الاتفاق» وأكد ضرورة خروج العراق من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة معتبراً أنه «ليس هناك أي مبرر للبقاء على هذه الحال». ومن هذا يُفهم أن إيران ليست في الحقيقة ضد الاتفاق الأمني، وإن كانت تصدر فيها تصريحات من بعض الساسة ضد هذا الاتفاق.
وقد نقلت وسائل الإعلام أن كروكر السفير الأميركي في بغداد وديبلوماسيين أميركيين عقدوا محادثات مع كثير من السياسيين العراقيين في محاولة لتغيير مواقفهم من الاتفاق وتبديد مخاوفهم من بعض بنوده التي اعتُبرت مخلّة بالسيادة.
ومن البنود التي كانوا يرونها مخلة بالسيادة ما ذكره عباس البياتي (نائب في الائتلاف): «خمس نقاط بحاجة إلى إعادة النظر فيها ولا يمكن قبول الاتفاق بدون تعديلها: التدقيق في جدول الانسحاب، والحصانة القضائية، فهي لا تلبي مطالبنا، وتفتيش البريد الداخل والخارج، والتردد على المنشآت العسكرية الأميركية، والنقطة الخامسة ضرورة تطابق النسخة العربية للاتفاق مع الإنجليزية». وهناك من كان يرى ضرورة عدم استخدام أميركا لأرض العراق للاعتداء على الدول المجاورة.
وقدم المالكي مجموعة تعديلات وسلمها إلى الولايات المتحدة في (28/10/2008م)، ونظرت فيها وعدلت أموراً من الشكليات مثل تدقيقات في بعض الألفاظ في الترجمة وهذه كان عددها كبيراً، أما الأمور الجوهرية فلم تغير فيها شيئاً إلا للتضليل. وأعادت الصيغة الجديدة إلى المالكي في (05/11/2008م) حيث صار المالكي يُشيع أن أميركا خضعت وأجرت أكثر من 60% من التعديلات المطلوبة. وأعلنت أميركا، من قبيل المساعدة للمالكي، بأنه لم تحصل أي دولة من الدول التي لها اتفاقات أمنية مع أميركا كما حصل العراق.
ولنذكر بعض المسائل الجوهرية مثل الولاية القضائية؛ والانسحاب الكامل بعد ثلاث سنوات وأن أميركا لن يبقى لها قواعد عسكرية بعد ذلك في العراق؛ وعدم محاربة جيران العراق من أرض العراق؛ ومثل حق العراق بتفتيش ما يدخِلون أو يخرجون من بضائع.
– في مسألة الولاية القضائية جاء في المادة الثانية عشرة البند (1): «يكون للولايات المتحدة الحق الأولي لممارسة الولاية القضائية على أفراد القوات والعنصر المدني بشأن أمور تقع داخل المنشآت والمساحات المتفق عليها، وأثناء حالة الواجب خارج المنشآت والمساحات المتفق عليها». وجاء في البند (5) من المادة نفسها: «يسلَّم أفراد القوات والعنصر المدني فور إلقاء القبض عليهم أو توقيفهم من قبل السلطات العراقية إلى سلطات قوات الأمم المتحدة». المقصود بالعنصر المدني كل شخص غير مقاتل ولكنه يعمل مع وزارة الدفاع الأميركية، والمقصود بالمنشآت والمساحات المتفق عليها هو القواعد والمناطق التي يقيم فيها الجنود. وهذه البنود تبيّن أن الجندي الأميركي والمدني المتعاقد مع وزارة الدفاع، حتى لو كان غير أميركي، لا يحاكم إلا عند الأميركيين مهما كانت الجريمة التي يرتكبها إذا ارتكبها حيث يقيم الجنود الأميركيون، أو إذا ارتكبها وهو يقوم بوظيفته في أي مكان. وغالباً الجندي الأميركي يرتكب جرائمه أثناء قيامه بوظيفته (حالة الواجب). وجاء استثناء فأعطى للعراق حق ممارسة الولاية القضائية في حالة الجناية الجسيمة المتعمَّدة إذا ارتكبت خارج مناطق السكن وفي غير (حالة الواجب). ولكن قبل أن تكون الولاية هنا للعراق فلا بد أن تقرر لجنة مشتركة من أميركيين وعراقيين أن الجناية جسيمة وأنها متعمَّدة. وبذلك أعطوا شيئاً وسحبوه عن طريق اللجنة المشتركة.
– وأما في مسألة الانسحاب الكامل بعد ثلاث سنوات، وأن أميركا لا تريد بقاء قواعد عسكرية لها. فإننا نسأل: لماذا جاءت أميركا ولفّقت الأكاذيب من أجل هذا الاحتلال إذا كانت لا تريد البقاء؟ ولْننظر ماذا قال مسعود برزاني عند زيارته أميركا في (31/10/2008م) في ندوة صحفية، قال: إنه «على ثقة من أن برلمان الإقليم سيوافق على إقامة قواعد عسكرية أميركية في حال لم يتم التوقيع على الاتفاق العراقي الأميركي». وهذا يعني أنه على علم أن أميركا تريد قواعد عسكرية في العراق. وقد ورد أن أميركا قد رتبت أربع عشرة قاعدة عسكرية في العراق وستعقد اتفاقية مع الحكومة العراقية بشأنها لمدة 25 سنة، بعد خروج العراق من قيود الفصل السابع. ثم إن رئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية مايكل مولن صرح غير مرة أن الانسحاب في حينه يكون حسب الواقع على الأرض وليس على الورق. وقد جاء في المادة الخامسة والعشرين بشأن الانسحاب بند (5): «قبل حلول 31 ديسمبر/ كانون الأول 2011م، واستناداً إلى تقييم العراق للأحوال، يجوز لحكومة العراق أن تطلب من حكومة الولايات المتحدة إبقاء قوات معينة لأغراض التدريب ومساندة قوات الأمن العراقية. وفي هذا الحال، سوف تطبق اتفاقية خاصة يتم التفاوض بشأنها والتوقيع عليها (…) أو قد تطلب حكومة العراق من حكومة الولايات المتحدة مدّ الفترة المحددة بآخر سنة 2011م طبقاً لبند (2) من المادة الحادية والثلاثين الذي ينص: (يجوز تعديل هذا الاتفاق أو تمديده بموافقة الطرفين)».
والخبير في سلوك الدول الاستعمارية وأطماعها يعرف أنها تفتعل أحداثاً معينة قبل انسحابها تجعل أهل البلد يطلبون منها البقاء، وهذا هو ما يفكر فيه مولن رئيس الأركان حيث يقول: (الانسحاب يكون حسب الواقع على الأرض وليس على الورق).
– وأمّأ مسألة عدم استخدام أميركا لأرض العراق لمحاربة جيران العراق فقد رأينا كيف هاجمت قرية السكرية السورية في البوكمال بعد وقت قصير من تحسين علاقة سوريا بالعراق عبر إرسال سفير إلى بغداد. وقد ذهب زيباري وزير خارجية العراق إلى دمشق ليقدم اعتذاراً لسوريا، وصرّح في مؤتمر صحفي في دمشق (في 12/11/2008م) بأن «الحكومة العراقية رفضت هذه الغارة (الأميركية) داخل الأراضي السورية، ولم تُستشر، ولم تكن بعلمها لا من قريب ولا من بعيد» وأضاف: «طلبنا أن لا يتكرر هذا الأمر لأنه يسيء إلى العلاقات مع سوريا»، وتابع: «حصلنا على تطمينات من أميركا أن الغارة لن تتكرر». ولكن ما قيمة هذه التطمينات والوعود إذا كانت فاقدة للصدقية وملفِّقة للأكاذيب؟ وفوق ذلك فإن أميركا تستطيع أن تعتدي على دول المنطقة حين ترى حاجة إلى ذلك، عبر سفنها أو عبر طائراتها من بعيد، وتستطيع أن تعتدي من أرض العراق وتزعم أن ذلك من الطائرات أو السفن من خارج العراق.
جاء في اتفاق الإطار القسم الأول البند (2): «إن وجود قدرة عراقية للدفاع عن النفس أمر ضروري». وجاء في البند (4): «إن الولايات المتحدة لن تسعى لاستخدام أرض العراق موقعاً تنطلق منه عمليات عسكرية هجومية ضد دول أخرى، ولن تسعى الولايات المتحدة أو تطلب أن يكون لها قواعد دائمة أو وجود عسكري دائم في العراق». لاحظوا كلمة (هجومية) فإنها تعني أنها تستخدم أرض العراق في عمليات عسكرية دفاعية. أي يمكنها أن تسميها دفاعية ولو كانت هجومية. ولاحظوا عبارة (أو تطلب أن يكون لها قواعد دائمة)، فإن كلمة تطلب تعني أنها إذا طُلِبَ منها فالأمر يختلف. ولذلك فإنها عند حاجتها تفتعل ألف سبب لجعل حكومة العراق تطلب منها. وحين قالت في البند (2) المذكور (وجود قدرة عراقية للدفاع عن النفس) فهذا يعني أنها ستُبقي قدرة العراق قاصرة وعاجزة بحيث يبقى العراق بشكل دائمي غير غنيّ عن دعم أميركا. ولو كانت أميركا جادة في تقوية القدرة العراقية لكانت مدة خمس سنوات ونصف كافية.
وجاء في المادة الرابعة من الاتفاقية الأمنية بند (5): «يحدد هذا الاتفاق حق الطرفين في الدفاع عن النفس». وهذا البند يجيز لأميركا أن تضرب دول الجوار عند الحاجة وتسمّي ذلك دفاعاً عن النفس. وحين ضربت البوكمال سمّت ذلك دفاعاً عن العراق، لأنها زعمت وجود إرهابيين قادمين للتسلل من سوريا إلى العراق. وجاءت مسألة قابلية الاعتداء على دول الجوار من أرض العراق أوضح في المادة الثامنة والعشرين من الاتفاقية الأمنية بند (1): «في بروز أي خطر خارجي أو داخلي ضد العراق أو وقوع عدوان ما عليه، من شأنه انتهاك سيادته أو استقلاله السياسي أو وحدة أراضيه أو مياهه أو فضائه الجوي، أو قابلية مؤسساته الديمقراطية للبقاء، يقوم الطرفان، بناءً على طلب من حكومة العراق، بالشروع فوراً في مداولات استراتيجية، وفقاً لما قد يتقفان عليه فيما بينهما، وتتخذ الولايات المتحدة الإجراءات المناسبة، والتي تشمل الإجراءات الديبلوماسية أو الاقتصادية أو العسكرية، أو أي مزيج منها، لمواجهة مثل هذا الخطر». ولا يحتاج ذلك إلى تحليل أو تعليق، فأميركا تستطيع أن تسمّي عدوانها دفاعاً.
– وأما مسألة تفتيش ما تُدخِله الولايات المتحدة أو تُخرِجه من بضائع أو بريد أو أسلحة أو أشخاص فلا يحق لحكومة العراق شيء من ذلك. ومن أجل ذرّ الرماد في عيون الشعب العراقي ومن أجل مساعدة عميلها المالكي فقد أدخلت بعض التضليلات، ولكنها أبقت الجوهر كما هو. جاء في المادة التاسعة من الاتفاقية الأمنية بند (1): «يجوز للعجلات والسفن التي تستخدمها قوات الولايات المتحدة، أو تلك التي تستخدم حينذاك لحسابها حصراً، أن تدخل الأراضي العراقية وتتحرك فيها وتخرج منها لأغراض تنفيذ هذا الاتفاق». وجاء في البند (2) من المادة نفسها: «ولا تتعرض طائرات وسفن وعجلات حكومة الولايات المتحدة والطائرات المدنية التي تعمل حصراً بموجب عقد مع وزارة الدفاع الأميركية إلى صعود أي طرف على متنها دون رضا سلطات قوات الولايات المتحدة على ذلك، ولا تكون عرضة للتفتيش». وجاء في البند (5) من المادة نفسها: «لا تفرض على طائرات حكومة الولايات المتحدة والطائرات المدنية التي تعمل حصراً بموجب عقد مع وزارة الدفاع الأميركية أية ضرائب أو رسوم (…) ولاتفرض على المركبات والسفن (…) ولا تتعرض تلك المركبات والسفن والطائرات إلى أي تفتيش، وتُعفى من متطلبات التسجيل داخل العراق».
وجاء في المادة العاشرة: «يجوز لقوات الولايات المتحدة أن تختار المتعاقدين وأن تبرم عقوداً بموجب القانون الأميركي لشراء المواد والخدمات في العراق، ويشمل ذلك خدمات أعمال البناء». وجاء في المادة الحادية عشرة بند (4): «تُعفى قوات الولايات المتحدة من أية متطلبات تتعلق بدفع رسوم عن استخدام موجات الإرسال والترددات المخصصة أو التي تخصص مستقبلاً، بما في ذلك أية رسوم إدارية أو أية رسوم أخرى ذات العلاقة».
وجاء في المادة الرابعة عشرة بند (2): «يجوز لأفراد قوات الولايات المتحدة والعنصر المدني دخول العراق والخروج منه عبر المنشآت والمساحات المتفق عليها دون أن يتطلب ذلك منهم سوى بطاقات الهوية التي أصدرتها الولايات المتحدة لكل منهم».
وجاء في المادة الخامسة عشرة بند (1): «يجوز لقوات الولايات المتحدة والمتعاقدين معها أن يستوردوا إلى العراق ويصدّروا منه (…) لا تخضع للتفتيش عمليات استيراد (المواد غير الممنوعة في العراق) وإعادة تصديرها ونقلها واستخدامها، ولا تخضع لمتطلبات الإجازات أو لأي قيود أخرى، أو ضرائب أو رسوم جمركية أو أي رسوم أخرى تُفرض في العراق».
وجاء في المادة التاسعة عشرة بند (5): «يخضع البريد المرسل عن طريق خدمات البريد العسكرية إلى تصديق سلطات الولايات المتحدة، ويعفى من التفتيش والبحث والمصادرة من جانب السلطات العراقية».
– وجاء في المادة الحادية والعشرين بند (1): «يتنازل الطرفان عن حق مطالبة الطرف الآخر بالتعويض عن أي ضرر أو خسارة أو تدمير يلحق بممتلكات، أو المطالبة بتعويض عن إصابات أو وفيات قد تحدث لأفراد القوات المسلحة أو العنصر المدني لأي من الطرفين، والناجمة عن تأديتهم لواجباتهم الرسمية في العراق». والمدقق في هذا يعرف أن الطرف العراقي هو الذي يتنازل لأن الذي يدمِّر ممتلكات ويقتل ويؤذي هو الأميركي. أما إذا لحق بالأميركيين أذًى فهو ليس من الطرف العراقي (الحكومة) بل من المقاومة، والمقاومة هُمْ يلاحقونها لتدميرها.
– أما سيطرة أميركا على بترول العراق وثرواته وأمواله فلم يُدرجوه في الاتفاقية الأمنية، ولم يشاءوا تفصيل ذلك في اتفاق الإطار (الاستراتيجي). وهذا كان أُدخِل في اتفاقات أخرى سابقة. وتلك قد رسّخوها من قبل ولم يربطوها بمدة بقائهم في قواعد عسكرية، بل تلك اتفاقات مدنية. ولكنها ليست لها قيمة شرعية بموجب الشرع الإسلامي. وليس لها قيمة قانونية بموجب القانون الدولي لأنها مفروضة من المعتدي المحتل على شعب مقهور يرزح تحت الاحتلال.
ونعود للسؤال: ما هو المصير المتوقّع لهذه الاتفاقية التي تتعاون أميركا مع عملائها في العراق على فرضها على أهل العراق وعلى أهل المنطقة؟
والجواب الذي نراه هو الفشل لهذه الاتفاقية حتى لو وقعها ما يسمّى بالمجلس النيابي العراقي. إن شعب العراق شعب مقاوِم للعدوان وللاحتلال. وقد تصدّى لعدوان أميركا وحلفائها حين كان ذلك العدوان في أوج غروره، واستطاعت مقاومة الشعب العراقي أن تكسر ذلك الغرور، وأن تجعل صناع القرار الأميركي يندمون على مغامرتهم، وجعلت الشعوب الأميركية تعاقب حكامها الذين ورّطوها في حروب خاسرة بأن أسقطتهم في الانتخابات الأخيرة والنصفية التي سبقتها.
إن المقاومة ستستمر وستشتد حتى تهزم المحتلين، وتسحق عملاءهم المضلِّلين، وتحرِّر العراق من رجس الأميركيين وعملائهم الخونة. وكما بعثت المقاومةُ العراقية الحيويةَ في المقاومة الأفغانية والباكستانية، فإن الأمة الإسلامية ستتحرك في كل أقطارها لتطرد فلول المحتلين المستعمرين، وتعود إلى مبدئها وخلافتها لتحمل رسالة الخير والهدى لتحرير العالم من ظلم المستعمرين وضلالهم.
2008-12-02